هل يوجد فعلاً عقل اجتماعي؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-01-31 22:32:05

د. عبدالرحمن إكيدر

المغرب

Sébastien Montel   سيبستيان مونتيل

ترجمة: د. عبدالرحمن إكيدر

إن أدمغتنا تكتشف باستمرار، وبشكل أساسي، مشاعر الآخرين ونواياهم. ومع ذلك، فهل يمكننا رؤية أصل هذا الرابط الاجتماعي؟

ما الذي يجعلنا أكثر سعادة وبصحة جيدة؟ لمعرفة ذلك، يجب أن نشير إلى دراسة (1) استثنائية قدمها كل من جورج فايلان Georges Vaillant  وكينيت ميكمال Kenneth Mukamal والتي هي بالتأكيد من أطول الدراسات التقييمية التي تم إجراؤها على الإطلاق: فلمدة ثمانين عامًا، تم تتبع مئات الأشخاص في حياتهم اليومية! وهكذا تم اختيار آلاف البيانات والمعلومات والشهادات الموضوعية وتحليلها. وقد خلصت هذه الدراسات إلى استنتاج بسيط ولا لبس فيه، مفاده: أن العلاقات المتميزة تجعل الناس أكثر سعادة وبصحة جيدة. إن الأشخاص الأكثر "ارتباطًا" اجتماعيًا بأسرهم وأصدقائهم ومجتمعهم هم الأكثر سعادة ويتمتعون بصحة جسدية ويعيشون مدة أطول. كما أن الأشخاص الأكثر ارتياحًا في علاقتهم في عمر الخمسين غالبا ما يكونون أكثر صحة في عمر الثمانين. إن هذه النتائج تؤكدها المئات من الدراسات الأخرى التي أجريت في الآونة الأخيرة. وهكذا فإن العيش رفقة الأشخاص الذين نحبهم ونقدرهم لهي أفضل طريقة للشعور بالرضا في حياتنا.

موهوبون في تحليل العواطف:

لكن وفي المقابل، ما الذي يقوله علم الأعصاب حول هذا الموضوع ؟ إننا أفضل من يفك الشفرات العاطفية وأكثر مما نتصور، إن مجرد التعرض لمدة ثلاثة وثلاثين جزءا من المئة (2) لصورة وجه يعبر عن مشاعر ما، يكفي لتعديل استجابة الدماغ خاصة في المناطق المعنية في الإدراك العاطفي (3). ويستلزم هذا التصور سلسلة كاملة من ردود الأفعال اللاواعية، بالإضافة كذلك إلى أفكار واعية إلى حد ما. يعد الإدراك العاطفي للوجه أسرع من الإدراك البصري العادي، بل وحتى من الإدراك الواعي للوجه (4)، سيطفو هذا الفعل إلى السطح قبل إدراك الوعي ويمكن حتى، ودون سابق علمنا، أن يؤثر على حالتنا العاطفية. ودون أن ندرك ذلك بشكل ملموس، فإننا ننقل المعلومات العاطفية من خلال وجهنا أو موقفنا أو نغمة صوتنا، كما يتم تنشيط عضلات الوجه في تعابير محاكية للآخرين، ذلك أننا لفهم الآخر، نحتاج إلى تقليده والتفاعل مع قسمات وجهه دون وعي : إن الرابط الاجتماعي ينتج أفكارًا وأعمالًا معكوسة، كما أنه يُنشط ما يسمى بـ"شبكة المكافأة" المسؤولة عن الإحساس بالسرور والرغبة، إضافة إلى دورها في إنتاج الناقلات العصبية في الدماغ المرتبطة بالشعور بالرضا (5).

تُظهر الدراسات في تصوير الدماغ أن جزءًا كاملًا منه يتم تنشيطه فقط عندما نكون في علاقة اجتماعية، وأن هذه الوظيفة تتغير في حالة العزلة المطولة. غير أن هذا يدفعنا للتساؤل عما سيؤول عليه الأمر في حالة الرفض الاجتماعي. إن رؤية صورة أحد أفراد الأسرة ممن رفضناه في الماضي القريب ينشط مناطق الدماغ نفسها (القشرة الحسية الجسدية الثانوية)، وهي المناطق ذاتها المسؤولة كذلك عن الألم الجسدي. ومع ذلك، فهل يمكننا أن نعتقد أن الأداء "البيولوجي" للدماغ يفسر الأداء "الاجتماعي" للأفراد ؟ وهل يعكس هذا الأداء حياتنا الاجتماعية ؟

بالنسبة لعالم الاجتماع آلان إهرنبرغ Alain Ehrenberg 6، فإن علم الأعصاب يدعي معرفة دقيقة للدماغ، ومعرفة الذات، وحتى المعرفة بالمجتمع. وفقا له، فإن علم الأعصاب في الواقع جلب بيانات جديدة، وأجاب عن تساؤلات عدة : مثال ذلك، كيف يتوافق الشعور بعاطفة ما مع تنشيط منطقة ما من الدماغ ؟ لقد خلص الباحثون إلى أن هذه المناطق من الدماغ تلعب دورا في بروز العواطف. غير أن المشكلة تكمن في سحب الارتباط (الذي ليس تفسيراً) نحو التأويل، وليس نحو الآلية (التي لا يزال يتعين تحديدها والتثبت منها)، ويضيف إهرنبرغ في هذا الصدد "أن العلوم تكشف كل يوم عن هذه الارتباطات"، وبعبارة بسيطة؛ سيكون من المدهش جدًا ألا نجد أي نشاط دماغي عندما نشعر بالعاطفة. ومع ذلك، فلا يشرح هذا النشاط أي شيء بحد ذاته. إننا نفهم بشكل أفضل سحر الخلايا العصبية (المؤطرة) للأنشطة عندما نلاحظ أننا ننتج الإيماءة نفسها. ويفسر إهرنبرغ ذلك إلى أن "هذه الخلايا العصبية تتحقق في دماغ ما وهو ما يحدث أيضا في عقل شخص آخر"، وبعبارة أخرى، فإنها "الأساس البيولوجي للإدراك الاجتماعي"، وبالتالي فإن البيولوجية ستكون على وشك خدمة ما هو اجتماعي. كما يعتبر إهرنبرغ أن مفهوم التعاطف ليس صفة مؤسسية لكل المجتمعات البشرية إلا عند بعض المجتمعات الغربية المعاصرة، وأن الأبحاث الجارية والمستقبلية ستكشف بلا شك عن ذلك.

قد يبدو هذا المقال متناقضًا: فبعد تقديم الدليل البيولوجي لوجود دماغ اجتماعي، نتساءل فجأة عن وجوده بالإشارة إلى البيانات الاجتماعية. فهل الدماغ الاجتماعي موجود بالفعل ؟ الإجابة هي نعم، وقد جلب علم الأعصاب بيانات جديدة ومدهشة تسمح لنا بتقدير هذا المفهوم بشكل أفضل. ويختم إهرنبرغ بقوله : "لا يمكن للمرء (إزاحة) الاجتماعية على البيولوجية. إنه من المستحسن حقاً أن نظل حذرين حيال التفسيرات التي يمكن القيام بها من خلال الأعمال التصورية واستعادة كل ما هو اجتماعي لما اجتماعي".

 

- مصدر المقال :

Sciences humaines, n° 310, janvier 2019, pp 56 – 57 .

- العنوان الأصلي للمقال :

Le cerveau social existe-t-il ?

المصادر:

1 -Georges Vaillant et Kenneth Mukamal, (Successful aging), American Journal of Psychiatry, vol. CLVIII, n° 6, juin 2001.

2- Exposition dite subliminale car masquée par d’autres images plus longues.

3- Paul Whalen et al, «Masked presentations of emotional facial expressions modulate amygdala activity without explicit knowledge », The Journal of Neuroscience, vol. XVIII, n° 1, janvier 1998,

4- Patrik Vuilleumier et Gilles Pourtois, « Distributed and interactive brain mechanisms during emotion face perception. Evidence from functional neuroimaging», Neuropsychologia, vol. XLV, n° 1, janvier 2007.

5- Shir Atzil et al. « Dopamine in the medial amygdala network mediates human bonding », PNAS, vol. CXIV, n°9, février 2017.

6- Alain Ehrenberg, « Le cerveau social. Chimère épistémologique et vérité sociologique », Esprit, janvier 2008.

 


عدد القراء: 4170

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-