العيش مع موتانا: حكايات وأقاصيصالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-10-01 12:24:33

د. عبدالرحمن إكيدر

المغرب

الكتاب: العيش مع موتانا

المؤلف: دلفين هورفيلور

 الناشر:دار غراسي للنشر

سنة النشر: 3 مارس 2021

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 234 صفحة

"لقد وقفت مرارًا مع أناس يحتضرون صحبة عائلاتهم، وتحدثت لمرات عديدة أثناء مراسم الجنائز، ثم استمعت إلى تأبين الأبناء والبنات ممن ملأ الحزن قلوبهم، واستمعت إلى الآباء المنكوبين، والأزواج المحطمين، والأصدقاء المدمرين".

بهذا المقطع تفتح دلفين هورفيلور Delphine Horvilleur كتابها الأخير المعنون بـ(العيش مع موتانا) Vivre avec nos morts الصادر سنة 2021 عن دار النشر غراسي (Grasset). والمؤلفة فرنسية تعمل حاليًا أستاذة لفقه اللغة ومترجمة وروائية ورئيسة تحرير مجلة تنوى Tenoua، كما تعتبر واعظة ومرشدة روحية، وواحدة من ثلاث حاخامات في فرنسا. وهذا التراكم والتعدد يجعلها امرأة استثنائية، ويجعل أعمالها تحظى جميعها باهتمام كبير. فمنذ سنة 2008 اشتهرت هورفيلور بحديثها الواضح، والتزامها التقدمي، وتطرقها للمشاكل المختلفة التي تواجهها حالة الإنسان. نالت مجموعة من الجوائز التقديرية أبرزها؛ وسام جوقة الشرف، وسام الاستحقاق الوطني، ووسام الآداب والفنون، وقد ألّفت ما يقرب من اثني عشر كتابًا تتمحور في مجملها حول الفلسفة والدراسات اللاهوتية.

تحدثنا دلفين هورفيلور في كتابها (العيش مع موتانا) عن موضوع مؤلم وصعب للغاية، موضوع نتجنبه في أغلب الأحيان. وتخبرنا عن إحدى عشرة قصة، أحيانًا تكون مجهولة الهوية والشخصيات وأحيانًا أخرى مشهورة ومتداولة، تسرد لنا من خلالها كيف ترافق المحتضر وأحباءه في تلك اللحظات الأخيرة والعصيبة، وفي سعيهم للتفاهم ثم تجاوز حالة الفقد. تقول هورفيلور: "أن تكون حاخامًا يعني أن تعيش مع الموت؛ موت الآخرين، موتك. ولكن قبل كل شيء، تحويل هذا الموت إلى درس في الحياة لأولئك الذين لا يزالون أحياءً بيننا؛ لمعرفة كيفية سرد ما قيل ألف مرة، ولكن لإعطاء أولئك الذين يسمعون القصة لأول مرة مفاتيح جديدة لفهم مفاتيحهم الخاصة، هذه هي وظيفتي ... أقف مع الرجال والنساء في لحظات محورية من حياتهم ممن يحتاجون إلى تلك القصص".

تحاول المؤلفة من خلال هذه القصص تركيب ثلاثة عناصر منسوجة بإحكام: القصة والتأمل والاعتراف، وهي طريقة لإعطاء معنى لهذا الموت معتمدةً في ذلك على عدد من النصوص المقدسة، ولكن أيضًا من خلال استحضار جرح حميم أو تذكر حادثة في سيرتنا الذاتية أيقظت فينا جانبًا من الذاكرة المدفونة. إنها تروي تجارب مختلفة رافقت خلالها العائلات التي طلبت منها إقامة جنازة، وبين لقاء الفقيد وتكريم الموتى، تشرح أيضًا أهمية قصص التقليد التي تعكس مسارات حياة المتوفى المختلفة، وتسمح لنا بإلقاء نظرة جديدة على وجودهم، لخلق حوار بين الأحياء والأموات، وإقامة الروابط بينهم، وتذكيرنا بأن ما اختفى يمكن أن يسمح لنا بالمضي قُدمًا، مؤكدة غير ما مرة على أن موتانا يرافقوننا في حياتنا في كل مكان، وبالتالي فإن مكانهم لا ينحصر في المقبرة كما نعتقد جميعًا. تقول في هذا الصدد: "إن هذه القصص المقدسة تفتح ممرًا بين الأحياء والأموات، يتمثل دور الراوي هنا في الوقوف عند الباب للتأكد من بقائه مفتوحًا والسماح للجميع بالتصالح مع موتاهم".

تركز الحكايات والمشاهد التي ترويها المؤلفة على العديد من لحظات لقائها بأقرباء الموتى، تقول في أحد المقاطع: "في ذلك اليوم، أخبرتُ رجلاً بما كانت عليه والدته سارة في لحظاتها الأخيرة، ولم أتمكن من إضافة أي شيء، لكن يبدو الأمر كما لو أن قصة أخرى قد قُدمت أمامنا. مشى ابن سارة إلى التابوت وقام بملامسة الخشب، بكى لفترة طويلة، عندها قال لي: (يا لها من حياة!)". وتسرد لنا المؤلفة قصة أخرى لامرأة نازحة تعيش في المخيمات فقدت للتو ابنها الوحيد، تتذكر دلفين أفعال هذه الأم بدقة، وكل الإيماءات الليتورجية، وكل الكلمات المهدئة. مشيرةً إلى أنها تضطر إلى إبقاء كل هذه المشاعر بعيدة، لأن تأثيرها على الفقيد قد يكون مدمرًا، إذ لا يجب على الحاخام أن يكون في حالة تعاطف تام مع من يدعمه على وجه التحديد. يجب أن يظل الحاخام صامدًا أثناء الدفن، يجب عليه ألا يتسبب في المزيد من آلام من يرافقهم.

  تصف لنا كذلك في قصة أخرى وبلغة مفعمة بالأحاسيس حمل نعش صديق قائلة: "في فوضى العالم المنهار، وفي تلك اللحظة، بدا لي أننا كنا جميعًا نحمل بعضنا البعض، مشينا خطوات، شاهدنا روحه وهي تصعد، هذا مصيره المحتوم، هذا مصيرنا الذي لا مفر منه". (وهنا تستحضر المؤلفة الصورة التي تشير، في أعيننا، إلى التسلسل النهائي الساحق لفيلم الأضواء الثلاثة Der Müde Tod، الذي أنتج سنة 1921 لمخرجه فريتز لانغ  Fritz Lang، حيث يحكي الفيلم عن الغريب القادم إلى القرية (ملك الموت) ليفتك بروح شخص ما، مما سيدفع حبيبته إلى الجنون، وسيجعلها في أحلامها تذهب إلى العالم الآخر، ويستقبلها الغريب في ذلك العالم حيث تأخذ الأرواح فيه شكل شموع مضيئة تنطفِئ عندما ينتهي وقتها على الأرض، فيعطيها فرصة انقاذ ثلاث شمعات من الانطفاء، ولكنها ستفشل في ذلك، لأن الموت يعتبر ضرورة حتمية.

كما تسرد لنا جنازات أخرى شديدة الصعوبة، مثل "جنازة الأخ الأكبر، حيث جعل هذا الحدث المفجع الأخ الأصغر يسأل بإصرار عن مكان أخيه، قائلا: ولكن، أين هو؟ أفي الأرض أم في السماء؟ يحاول أن يعرف، لأنه يريد أن يتتبعه بعينيه؛ حوار مثير للشفقة (...) يكرر السؤال: لا أفهم، هل سيكون في الأرض أم في السماء؟ أنا بحاجة لمعرفة مكانه للبحث عنه. هنا يحين دوري للتدخل ولأخبره أنه في الأسفل وفي الفوق، في المكانين معًا". هذا هو المعنى الذي تقدمه هورفيلور أثناء مواراة جثامين الموتى الثرى، إنهم تحت الأرض وفي الأعلى، هم هنا وفي أماكن أخرى، روحهم خالدة، تتواصل معنا دائما، وتأتي المرثية لتسمح لروح الإنسان بالتسامي فوق الألم الشخصي الذي ينتابه، ومشاركة الآخرين أحاسيسه، وبالتالي التواصل معهم ومكافحة العزلة. تقول المؤلفة: "هناك تعريف للحياة يعجبني كثيرًا، وهو تعريف عالم الأحياء هنري أتلان Henri Atlan: (الحياة هي مجموعة الوظائف القادرة على استخدام الموت). فطوال حياتنا، يجب أن يقوم الموت بعمله، فالخلايا تموت مثلما نتحدث أنا وأنت، هذا هو الشرط لبقائنا. تجبرنا الأزمة التي نمر بها على استعادة الوعي بشيء كان دائمًا صحيحًا: أردنا حبس الموت في عنابر المستشفيات، في دور الرعاية، دون شهود وبدون ألم، نريد إبعاده عنا، وهذا يعد خطأ فادحًا. يجب أن نتعلم كيف نفكر فيه بشكل مختلف، لندرك كيف يتعايش مع قوى الحياة بداخلنا".

يعرض كتاب (العيش مع موتانا) تجربة دلفين هورفيلور في مرافقة الموتى ومواساة الأهل والأحباء. ولكن، عند الفحص الدقيق، فإن هذا العمل يعد سردًا أدبيًا رائعًا بقصصه وأسلوبه واقتباساته وقوة لغته من خلال إحدى عشرة قصة قصيرة عن الحداد، يختلط فيها القدر والاحتفال والفلسفة والتجربة الشخصية لحاخام فريد من نوعه. يحفل كتاب هورفيلور بالذكاء والعاطفة والاستماع الكامل، يثريه سعة اطلاع مؤلفته بالثقافة الدينية والأدبية والسينمائية والفلسفية. وهكذا يمكن اعتبار (العيش مع موتانا) قصيدة للحياة تستكشف علاقتنا بالحدود وأهمية الكلمات، تكمن أهم تحدياته في مساعدتنا على العيش وتقبل الموت والفقد، ومحاولة استخلاص درس للتأمل من أجل حياتنا، تقول هورفيلور: "لكي نعيش، يجب أن نتعلم من جديد كيف نتحاور مع الموت"، وإذا لم نتمكن من التفكير في هذه الوفيات وفي أولئك الذين فقدناهم، فإننا نسلط الضوء على شكل من أشكال الإفلاس الأخلاقي في مجتمعنا.


عدد القراء: 2287

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-