كاميناندو: الطبيعة فضاء للتعلمالباب: مقالات الكتاب
د. عبدالرحمن إكيدر المغرب |
فريدريك فان إنغن Frederika Van Ingen
ترجمة: د. عبدالرحمن إكيدر
تقع هذه المدرسة الصغيرة في دروم Drôme، وهي المدرسة الوحيدة في فرنسا التي تتوفر على معلم متخصص في البيئة. ففي قلب العملية التعليمية يصادف المتعلمون عددًا من الحيوانات والنباتات ويتعرفون عن قرب على إيقاعات فصول سنة. هنا في هذا الفضاء الرحب تعد الطبيعة الأم صفًا دراسيًا متكاملاً، توقظ في الطفل صفاته الأولى.
إن اليوم الأول في كاميناندو Caminando هو يوم استثنائي لمتعلمي الصفوف الدراسية الابتدائية الأولى، فهم مدعوون إلى التل. وقبل مغادرتهم، يجتمعون معًا جالسين على العشب تحت ظل شجرة الزيزفون. تقول مؤسِسة المدرسة ومديرتها موريل فيفيلز Muriel Fifils: "لقد تغير شيء ما منذ الأسبوع الماضي". تتقاطع العيون، ويُشحذ الانتباه. ثم يرتفع صوت صغير: "إنه صوت الصراصير! في حين أن غناء الحشرات يدل على بداية الحرارة الأولى، يستعد الجميع لإيجاد "ركن مناسب في الغابة" لقضاء أسبوع من اثنين، وذلك بشكل متناوب طيلة السنة. يشكل هذا المكان ساحةَ لعبٍ لهؤلاء الأطفال إذ يمكنهم اللعب جماعة كما يمكنهم قضاء أوقاتهم فرادى وهم يراقبون ويستمتعون.
التعلم في الحديقة:
إن التواجد خارج جدران الحجرة الدراسية ليس بالأمر الغريب بالنسبة لأطفال كاميناندو البالغ عددهم 25. ففي كل يوم، وأيًا كان الطقس، فإنهم يعتنون بحديقة الخضروات، ومراقبة البركة، وجمع العسل من خلايا النحل، إذ تعد الطبيعة الأم هي المعلم الرئيس في هذه المدرسة الابتدائية الخاصة التي أنشئت في سنة 2013 في دروم. تقول مورييل فيفلز: "إن مدرستنا هي الوحيدة في فرنسا التي لديها معلم متخصص في الإيكولوجيا يعمل بدوام كامل". من خلال الارتماء في أحضان الطبيعة، وفي إيقاع دوراتها، يتعلم الأطفال، أولاً، وعن طريق الاحتكاك والاتصال، مبدأ نسيان المعرفة المجردة، فالمعرفة الحية من منظور هذه المدرسة هي تلك التي تترك آثارًا تبقى راسخة في الأذهان. وتصبح الحديقة مجالاً لتطبيق ما تعلمه الأطفال في الرياضيات، وتغدو البركة مختبرًا لفهم التنوع البيولوجي، والتنزه في الطبيعة فرصة للتوقف عند سفح شجرة لتمييز الفرق بين ورقة "مسننة" وورقة "مفصصة".
تطوير الصفات الإنسانية للمتعلم:
عند الوصول إلى التل، يقترح كل من مدرس البيئة كريستوف Christophe والمعلمة جولي Julie، لعبة الاختباء والبحث. فكل طفل سوف يختبئ على طول طريق محدد بشكل جماعي. يقول كريستوف: "هذه اللعبة هي أيضًا وسيلة للأطفال ليكونوا وحدهم وبطريقة ممتعة، في علاقة اتصال وثيق بما هو موجود أمامهم. قد يحس البعض منهم بعدم الارتياح، خصوصًا من النمل، والعناكب وغيرهما من الحشرات ... بيد أن الأسبقية مكرسة للاهتمام والفضول على كل ما يثير مخاوفهم، قد يُعرب بعض الأطفال قبل بدء اللعبة عن تخوفهم من حين إلى آخر، ويعبرون عن ذلك دون خجل، ودون إصدار أي حكم من قِبل رفاقهم. بل قد نجد منهم من يتطوع لمرافقتهم".
تقول موريل فيفيلز: "كلما قضينا وقتًا في الطبيعة، زادت ردود الفعل في صفات الأطفال مقارنة مع المتقدمين في السن، وذلك بشكل تلقائي: فتُعزَّز الثقة والتعاطف والاهتمام". وتضيف كذلك بأن المصلحة التي نجنيها من هذه الممارسات هي التي تحاكى الآن في عدد من المدارس الأخرى. "إنها ممارسة ليست جديدة في حد ذاتها"؛ فلقد كان أجدادنا يعرفون فوائد الطبيعة عندما كانوا يصطحبوننا في النزهة ... واليوم، يكشف العلم هذه الفوائد. وأمام الاكتساح الإسمنتي وهيمنة الشاشات تبرز الحاجة الملحة للعودة لما هو واقعي خالص، والقيام بما هو حقيقي حيث يكون المرء واعيًا بما يحققه. فعندما يجلس الطفل في العشب، يمكن أن يحدث أي شيء وتكون حواسه مشدودة لذلك. وهذا ما عايناه في أحد الأيام، حين صادفنا إعصارًا بجوار التل، وقد وقفنا مندهشين جميعًا لهذا العرض غير المألوف. كانت لحظة قوية وسحرية، ومصدرًا للأسئلة والتبادلات. إن التواجد في الخارج يتطلب حضورًا أكثر، كما نكون أيضًا أكثر حرية، وبالتالي أكثر مسؤولية لما نفعله.
المشاركة في الحياة الجماعية:
بمجرد العودة من التل، ينكب كل طفل لتدوين تلك المعاينات أو رسمها في "سجله"، وله متسع من الوقت للتعبير بطريقة حرة تمامًا، وتعد هذه السجلات شخصية، وتكون نهاية الموسم الدراسي موعدًا لتبادل تلك السجلات لمن يرغب في ذلك. ومن أهم الأنشطة المنظمة؛ تخصيص حلقة للكلام، حيث يعاد النظر في التجربة الحية. يقول أحدهم: "أصعب شيء هو البقاء دون التحدث"، ويقول شخص آخر "كان من الصعب العثور على مكان جيد للاختباء، كنت أخشى أن يراني أحدهم"، فيما يقول ثالث: "لقد أزعجتني الدبابير، لذا غيرت مكاني، فكان ذلك سببا في رصدي أثناء اللعب".
في صباح اليوم التالي، يلتقي الأطفال مرة أخرى ويجدون أنفسهم في الفصل مشكلين حلقة، يصغي الجميع إلى موسيقى هادئة تسمح لهم للوصول إلى حالة من الهدوء، يقوم اثنان من الطلاب بإعداد مخطط يومي مفصل يتضمن برنامج الأنشطة المزمع تنفيذها. إن فلسفة كاميناندو تكمن في ترسيخ ثقافة تحمل المسؤولية وتدبير الشأن العام، وهكذا يتحمل كل طفلين من الأطفال وبشكل متناوب، هذه المسؤولية: كإدارة المكتبة، واللوازم، وربط علاقات مع الخارج، والعناية بـ"الركن الجميل"، حيث يكون لدى الأطفال أشياء جميلة من أجل متعة العين ... إنهم من خلال تنظيم حياة المدرسة، يشكلون مجتمعًا في صورة مصغرة، يتعلمون يومًا بعد يوم العيش والتعايش والنمو معًا.
تستمد مدرسة كاميناندو أيضًا إلهامها من ارتباطها بالشعوب الأصلية، وخاصة هنود كوجي Kogis في كولومبيا الذين يزورون هؤلاء الأطفال في كل رحلة من رحلاتهم إلى فرنسا. تقول مورييل فيفيلز: "إننا نعمل مع مبادئ الحياة التي يحترمها هؤلاء الأشخاص في طريقة حياتهم". فعلى سبيل المثال: كل شيء له قيمته في الطبيعة، وبالطريقة نفسها، فإن المسؤوليات التي يتحملها الأطفال تكون ذات معنى من أجل حسن سير المدرسة، وهذا يسمح للجميع بالعثور على أمكانهم. كما أن الحلقة هي من الأمور المستلهمة كذلك من كوجي، فهم يجتمعون في هياكل مستديرة وفي مساحة وقائية، يتم إعادة توظيف هذه المساحة من خلال الجلوس في دائرة، إن هذا الترتيب الوحيد هو الذي يسمح لهم برؤية الجميع. إنها طريقة فعالة؛ توحدهم وتشركهم سويًا. إن العمل معا في كل صباح وقبل الشروع في التعلم يخلق هوية جماعية ويعزز إدماج الجميع.
استخدم كل الوسائل لتحقيق المبتغى:
يخضع تنظيم الحياة أيضًا لمبدأ الانبثاق والظهور؛ وهو مبدأ يتعلق بالتكيف مع كل ما يحدث. ففي الحديقة، وبعد إجراء لعبة حيث يقلد كل طفل ما سيفعله، يتشوق الجميع ويترقبون إصدار الحكم. وفجأة، تشد الأبصار إلى طائر جارح يحلق فوق مجموعة صغيرة. قال أحدهم: "إنه ليس حدأة، فذيله ليس مثلثا". يؤكد كريستوف أن هذا الأمر فتح باب النقاش على مصراعيه، ليكشف فيما بعد أن هذا الطائر هو من نوع عقاب صرارة. ويبدو هذا النمط من التعليم مفيدًا وأكثر جدوى من التعليم الكلاسيكي. ذلك أن هذا النمط المتسم في الآن نفسه بالمعاينة المباشرة والعفوية لم يكن مسطرًا في برنامج التعليم الوطنية، إنها مدرسة تطلق العنان لتنمية مهارات المتعلم وكفاياته وذلك عن طريق ربط المدرسة بالحياة"، لقد أيقظت كاميناندو وعي الأطفال بكونهم جزءا من نظام بيئي عظيم يتجاوز أسوار حديقتهم …
مصدر المقال:
Psychologies Magazine, n° 401, Septembre 2019, pp 44 – 47
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- شبنهاور: العالم مثل مزحة سيئة
- فوكو المكتبة المنزلقة (عن معرفته الواسعة وبعض الحكايات عن ضحكه الأسطوري)
- حرب الضحك عند نيتشه
- خمسة مفاتيح لإطالة أمد الصداقة
- هل بالإمكان استبدال العلاج النفسي بالتنمية الذاتية؟
- النرويج وسنغافورة: مدرستان نموذجيتان
- هل يوجد فعلاً عقل اجتماعي؟
- كاميناندو: الطبيعة فضاء للتعلم
- كيف تمنحنا صور الطبيعة الإثارة والبهجة؟
- العيش مع موتانا: حكايات وأقاصيص
- مجتمع الاتصال وتطورات التفكير الطارئة
- بين البنغال وروسيا .. مصير امرأتين
- حجر رشيد في ذكرى مئويته الثانية
اكتب تعليقك