بين البنغال وروسيا .. مصير امرأتينالباب: مراجعات

نشر بتاريخ: 2023-01-30 14:39:44

د. عبدالرحمن إكيدر

المغرب

الكتاب: العهد الروسي

المؤلف: شومونا سينها

 الناشر: غليمار

سنة النشر: 1 فبراير 2020.

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 140 صفحة.

"هذه الفتاة الشابة من بلد بعيد جدا حيث الأبقار أغلى من النساء، تجعل ليلتي ترتجف، تصدع الأرض تحت قدمي ولا أعرف ما إذا كنت أشعر بالخوف أو الفرح عندما أراها ترفع شاهد القبر".

بهذا المقطع تفتتح شومونا سينها Shumona Sinha روايتها الجديدة (العهد الروسي)  Le Testament   Russe الصادرة عن دار النشر غاليمار Gallimard في مارس 2020. والروائية فرنسية الجنسية من أصول هندية، ولدت سنة 1973 في كالكوتا، وغادرتها متجهة إلى باريس في 2001 بمنحة دراسية لمتابعة الدراسات الأدبية في السوربون. ومن أبرز أعمالها : (عديمو الجنسية)، و(كالكوتا)، و(المنبوذ بلا وطن)، و(فلنصرع الفقراء) التي حازت بها جائزة الرواية الجماهيرية سنة 2011. وقد مكنها عملها كمترجمة ومسؤولة عن المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية (Ofpra) من سرد قصص طالبي اللجوء الذين وصلوا مثلها إلى فرنسا. تقول: "كنتُ مكلَّفة مثل غيري وهُم كُثْر بترجمة حكاياتهم من لغة إلى أخرى، من لغة صاحب الطَّلب إلى لغة البلد المُضيف. حكاياتٌ بطعم الدموع، مُرَّة وقاسية، حكايات الشتاء، والمطر القذر والأزقَّة الموحِلة، ورياح الموسم التي لا تنقطع وكأن السماء توشك أن تنشقّ".

تسعى شومونا سينها في رواية (العهد الروسي) إلى إحياء شغف الشباب بالمُثُل السياسية والشعرية للطليعة الروسية. إنها ذكرى انبهار وبصمة سحرية لحكايات الشباب. ففي مكتبتها الشخصية، احتفظت شومونا ببعض الكنوز منذ طفولتها؛ وهذه الكنوز هي كتب مصورة للطليعة الروسية التي وجدتها في طبعات سرية في أكشاك كالكوتا، أغلبها عبارة عن حكايات شعرية تعود إلى العقد الثاني من القرن العشرين التي أبدعها كل من سامويل مارشاك Samouil Marchak وكورني تشوكوفسكي Korneï Tchoukovski وهي أعمال ترسم أدبا غير رسمي ورمزي للغاية بحيث لا يكون صادقا في أعين الحزب.

لقد قعت شومونا في حب اللغة الفرنسية منذ أكثر من ربع قرن، وانتهج أسلوبًا شاعريًا ومرهفًا لا حدود له، أسلوب يمتزج فيه الخيال والواقع والسحر، يشعر فيه القارئ بعبق الحنين لفترة طويلة، لقد خولت هذه اللغة للكاتبة أن تعبر عما لا تستطيع أن تعبر به بلغتها الأم الأصلية، وهذا ما نجده مثلاً في أعمال أندريه ماكين Andreï Makine  في روايته "العهد الفرنسي"، وميلان كونديرا Milan Kundera  وعتيق رحيمي Atiq Rahimi وغيرهم.

تركز شومونا في جل أعمالها على نسج خيوط المنفى الرومانسية من خلال ربط نفسها بمصير اللاجئين والأقليات والدفاع عن حقوق المرأة ومقاومة القمع العائلي والاجتماعي والسياسي. تحكي الكاتبة قصة امرأتين تانيا وأديل تطوقان إلى الحرية والانعتاق من كل القيود على الرغم من اختلاف الزمان والمكان لكن مصيرهما مشترك، تقول في هذا الصدد: "بين البنغال وروسيا كان هناك طريق حرير سري ومتعرج، وهناك أيضًا مصير امرأتين". ففي كالكوتا، خلال ثمانينيات القرن الماضي، ضاقت تانيا، الشابة البنغالية، ذرعًا من سوء معاملة أمها ونبذ المراهقين ممن في سنها، ابنة بائع كتب نشأت في منزل مليء بالحقد، نصحها حبيبها الدبلوماسي الروسي بمغادرة منزلها والذهاب إلى موسكو، بعد تعرضها للضرب والإهانة وحرق والديها لمذكراتها اليومية، تقول شومانا: "إن والديها، وخاصة والدتها، لا يفهمونها... في تطلعاتهم المتواضعة أرادوا أن ينحتوا ابنتهما مثل البونساي. إن تاريخها كفاح طويل من أجل الاستقلال. إنها تحرر نفسها بالقراءة والكتب، تجذبها كتابات غوركي وتشيخوف".

 تجد تانيا إذن، ملاذًا في أدب الحقبة السوفياتية والكتب التي تمجد العقيدة الشيوعية. واجهت هذه الحركة لأول مرة من خلال الكتب الروسية التي باعها والدها الكتبي، وبعد ذلك في صحبة زملائها الطلاب، حالمةً بأن تكون بطلة تولستوي في التندرا الثلجية. إنها تدين بخلاصها لمعهد اللغة والثقافة الروسية في كالكوتا، تقول الروائية: "تصبح اللغة الأجنبية وسيلة للهروب، فإذا كان الهروب الأول من حليب الأم، فإن الثاني كان من لسانها. لقد أصبح لسان تانيا وتفكيرها مهوسًا باللغة الروسية وآدابها". تأخذ حياتها الدراسية منعطفًا جديدًا، وتتخلص من لغتها الأم وتكتشف سعاة الرسائل النصية، ولتهتم بعد ذلك بأعمال المترجم البنغالي ناني بوميك Nani Bhowmik وبالصحفي اليهودي والناشر الأسطوري ليف مويسيفيتش كلياتشكو Lev Moisevitch Kliatchko صاحب دار النشر رادوغا Raduga التي أُخضعت للرقابة لمدة طويلة انتهت بإغلاقها من قبل السلطات سنة 1930، ليعيش صاحبها بعد ذلك ثلاث سنوات كلها بؤس ومعاناة. لقد أصبحت تانيا عاطفية وشغوفة بمصيره المضطرب ..

وأخيرًا، وبعد جهد غير منقطع، وجدت تانيا أثر أديل ابنة  كلياتشكو الثمانينية قابعة في دار للمسنين في سانت بطرسبرغ. كتبت لها رسالة مطولة ممهدة لسلسلة من اللقاءات. وهكذا تكشف الرواية عن تشابك للمصائر؛ بين تانيا الشابة البنغالية ذات الروح السلافية التي اضطهدتها عائلتها، وأديل سليلة الناشر الروسي الذي عاش اضطهاد الدولة السوفيتية، حيث كشفت إصدارات دار نشره عن زيف الدعاية والرقابة والتطهير وإبعاد الشعراء والعمل الجبري ...

تتذكر أديل معاناة أبيها قائلة : كان صحفيًا مشهورًا وصديقًا لـكورني تشوكوفسكي Kornei Tchoukovski، أسس سنة 1920 في سانت بطرسبرغ إصدارات Raduga (قوس قزح)، حيث تم التعبير عن أفضل أدب للأطفال ... إن المتصفح في دليل أعمالها سيجد مرور مؤلفين مرموقين. لكن السلطات اعتبرت هذه الكتب متأثرة بالثقافة البرجوازية والذوق الإنجليزي، حتى أن أرملة لينين اعتبرت أن هذه الكتب تعكس بورجوازية صغيرة، غير صحية تمامًا وليست مناسبة جدًا لتعليم المواطنين الصغار. ولمدة عشر سنوات طوقته الرقابة ليُنهيَ السل حياته سنة 1933. لقد تعرض للاعتقال لمرات عدة بسبب مقالاته التي روى فيها عمليات الطرد الجماعي لليهود الأوكرانيين، الذين حرموا بالفعل من حرية المدينة، كانوا ضحايا المداهمات والاعتقالات والفظائع اليومية. وعلى الرغم من كل ذلك فشلت السلطة الستالينية في إعدامه، وكان يدين بخلاصه فقط لتدخل ماكسيم غوركي Maxime Gorki. لقد سلطت شومونا سينها في هذه الرواية الضوء على شخصية ليف كلياتشكو الذي أتيحت له الفرصة لوصف الدوائر الأدبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كما كشفت عن آثار معاناة أديل وعذاباتها جراء كل ذلك.

تشير شومانا إلى أن مصير المرأتين يلتقيان؛ أديل المرأة العجوز التي عانت مع والدها، وتانيا الشابة البنغالية المضطهدة والشغوفة بالثقافة الروسية، ويتعين على كل منهما أن تحارب شكلاً من أشكال القمع: ديكتاتورية لا ترحم في روسيا التي نفت الكتاب وضايقت بشراسة حرية الشعراء وفرضت رقابة على دور النشر واضطهدت أصحابها؛ وقمعا آخر مرتبطة بالقيود الصارمة التي تفرضها العائلة والتقاليد الخانقة في الهند والتي تنظر للفتاة نظرة دونية.

بحساسية شديدة، بلغة شعرية مثيرة للغاية، تقدم رواية العهد الروسي معبرًا للقرن العشرين باتباع مسار هاتين المرأتين المتحمستين الشغوفتين بين حقبتين زمنيتين وفضائين متباعدين، غير أن قواسم متعددة تجمعهما؛ فمن جهة قساوة الحياة وعذاباتها، ومن جهة أخرى حب الأدب والطريقة التي تسمح بالعثور على القوى اللازمة للتحرر. تكشف شومانا في هذه الرواية التي تنبض بالحياة عن نشوة الكلمات وقوة الأسلوب مشيرة غير ما مرة إلى الروابط الثقافية والسياسية بين ولاية البنغال الغربية والاتحاد السوفياتي السابق، وتنظر أيضا في قوة اللغة الأم والرغبة في لغة أجنبية.


عدد القراء: 1177

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-