فوكو المكتبة المنزلقة (عن معرفته الواسعة وبعض الحكايات عن ضحكه الأسطوري)الباب: مقالات الكتاب
د. عبدالرحمن إكيدر المغرب |
فيليب أغنود Philippe Arnaud
ترجمة: د. عبدالرحمن إكيدر
نجده في معظم الصور، مرتديًا سترة ضيقة ذات ياقة عالية، مع نظارات الخمسينيات من نوع براولين، تبرز الحواجب. إنه ميشال فوكو (foucault Michel (1926 – 1984 من أكثر الفلاسفة تأثيرًا في فرنسا خلال الأربعين سنة الماضية، ومن أبرز الوجوه اليسارية، وتوفي بسبب داء فقدان المناعة المكتسبة (السيدا).
يحكي روجر بول درواRoger-Pol Droit في كتاب خصصه لإجراء مقابلات مع الفيلسوف، أن جدارًا خلفيًا - في شقته القريبة من ميترو فوجيرارد Vaugirard- يبدو شبيها بمكتبة ثابتة، تنزلق وكأنها تتواصل مع شقة رفيقه المجاورة له. يقول فوكو ضاحكًا: "يبدو الجدار بحسب الزوار إما مغلقًا أو مفتوحًا"، ويضيف أن الجانب المنزلق في شيء ما غالبًا ما يُثير الضحك، ذلك أن المكتبة تنزلق من تلقاء نفسها.
هذا التفصيل في السيرة الذاتية المتعلقة بفوكو يُذكر بموقف آخر؛ هو إخفاء لوحة كوربيت Courbet المعروفة بـ(أصل العالم) والتي يُحتفل بها اليوم، حيث صارت هذه اللوحة في ملك عالم التحليل النفسي جاك لاكانJacques Lacan منذ خمسينيات القرن العشرين، وقد طلب من شقيق زوجته أندريه ماسون André Masson أن يصنع لوحة قناع منزلقة تحجب الصورة الأصل.
يشير روجر بول دروا Roger-Pol Droit إلى أن فوكو يمتلك لوحة ألوان من الضحك المتنوع جدًّا، إذ يمكن أن ينطلق الضحك لديه من مجاله غير المستثمر إلى ضحك خافت، وآخر رائع، مرورًا بالضحك العالي الرنان، وهذا الضحك من هذا النوع يجعل متلقيه مندهشا، فـ"عندما ترتد، كلمة، أو ذكرى، أو حركة، من دون سابق إنذار، فإنها لا تكون إلا لحظة في عالم المغازلة ولقاءات الصدفة".
تحدث جميع أصدقاء فوكو عن ضحكه، وقد أشار المؤرخ بول فيين Paul Veyne إلى أن ضحك فوكو كان "ضحكًا هائلاً". وكتب الفيلسوف اليسوعي ميشيل دي سيرتيو Michel de Certeau عن "ضحكه" قائلاً: إن ضحكه كان "براقا"، وتجاوز ذلك بأن "الخطب كانت مؤطرة جدًّا"، كما أنها تخلخل الأفكار المألوفة.
لم يكن فوكو يعلن دائمًا عن شذوده، بل كان أيضًا يعرف كيف يمارس (الجنون) كما كتب ذلك صحفي بجريدة ليبي libé. وهذا ما تؤكده الحكاية التالية؛ "يحدث المشهد في كون ملبد في مكتبة رسائل المدرسة العليا". ويصرح أحد زملائه، أن فوكو يزعج جميع القراء بصراخه: «آه، فعندما نراه، نفكر في جملة قالها نيتشه: "ما قد يشكل ألمًا، قد يكون أيضًا جميلاً».
يفتتح ميشال فوكو كتابه الشهير (الكلمات والأشياء) بضحكة عالية، إذ يحكي أنه ضحك إلى حد البكاء عند قراءته لنص للكاتب الأرجنتيني بورخيس Borgès الذي يستشهد فيه بـ(موسوعة صينية معينة) كُتب فيها أن الحيوانات تنقسم إلى : أ- يملكها الإمبراطور، ب- محنطة، ج- داجنة، د- خنازير رضيعة، هـ- جنّيات البحر، و- خرافية، ز- كلاب طليقة، ح- ما يدخل في هذا التصنيف، ط- التي تهيج كالمجانين، ي- حيوانات لا تحصى، ك- مرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل، ل- إلى آخره، م- التي كسرت الجرّة لتوها، ن- التي تبدو من بعيد كالذباب.
ويصرح قائلاً: شخصيًا، فإن مثل هذا التقسيم يجعلني أضحك كثيرًا. ومثله أيضًا، ذلك الجرد الذي قام به بريفي Prévert في كتابه (الكلام). إن فوكو منبهر جدًّا بهذا التصنيف المشين، والبادي "كسحر غرائبي لفكر آخر" مسل ٍكثيرًا. فإن هذا التصنيف بالنسبة إليهم، هو "تعاطف مذهل لعالِـم الأحياء المبتكر للطبيعة". يقول فوكو في هذا الصدد: إن التصنيف هو إقصاء، ويمكن اختصار فلسفته في تاريخ الإقصاء. فالوحوش، والخوارق، والمجرمون، والمجانين يستحقون كلهم الاهتمام، ذلك إذا أردنا الإجابة عن السؤال الأول للفلسفة: ما هو الإنسان؟
يُظهر فوكو في كتابه (تاريخ الجنون) أن الخط الفاصل بين الجنون والعقل لم يكن دائمًا هو ما نعرفه اليوم. بينما نجده يهتم في كتابه (المراقبة والمعاقبة) بموضوع السجن، ويدافع من أجل تحسين ظروف معيشة السجناء. لقد جدد فوكو التحليل التقليدي للسلطة، وأنشأ مفهومًا جديدًا هو (البيو - سلطة)، وهو مجموعة من التقنيات القسرية التي يتم تطبيقها على أجسام الأفراد والشعوب، إنه أقرب ما يكون بـ (مكيافيلي) حديث. كما يعرّف نفسه بأنه "متشكك"، فقد كان يشك في "إرادة الحقيقة". وكان مرهف الإحساس من سخرية التاريخ، إذ نجد في كتابه (تاريخ الجنسانية) غير المكتمل، مقاطع عريضة من الضحك. يقول متسائلاً: «هل تعتقد أن الأخلاق البرجوازية جعلت من موضوع الجنس من الطابوهات؟ لا ثم لا، بل بالعكس، لقد أصبح الجنس مثيرًا للنقاش منذ القرن التاسع عشر، فلم يهتم الإنسان المحافظ إلا بهذا الموضوع. لقد كان هذا من أكبر اكتشافات فوكو، الذي جعله يضحك كثيرًا».
قال فوكو يومًا: «لم أكتب غير قصص خيالية»، إننا لسنا ملزمين بمتابعته في مثل تعقيداته. لقد كان ينتقل في باريس على متن دراجته الهوائية، مثل أي شخص آخر، لكنه كان يتجول في المكتبة بطريقة لم يماثل فيها أحدًا. وقد قال أيضًا عن نفسه أنه لم يكن إلا "قارئًا فقط". يعتقد ميشال فوكو أن المجتمع الحديث يفكر بوثيرة متقدمة، لكن مع هوسه في التصنيف والتقييم قد يكون الأمر فضيعًا، فقد كتب في (حفريات المعرفة): «أنا لست هنا حتى تراقبونني، لكن أنا هنا حيث أراكم ضاحكًا».
الهوامش:
عنوان المقال:
Foucault - La bibliothèque qui coulisse.
Foucault, son vaste savoir et quelques anecdotes sur son rire légendaire.
مقتبس من :
Filippe Arnaud,Le Rire Des Philosophes, Arléa, Paris, Février 2017,pp 187- 191.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- شبنهاور: العالم مثل مزحة سيئة
- فوكو المكتبة المنزلقة (عن معرفته الواسعة وبعض الحكايات عن ضحكه الأسطوري)
- حرب الضحك عند نيتشه
- خمسة مفاتيح لإطالة أمد الصداقة
- هل بالإمكان استبدال العلاج النفسي بالتنمية الذاتية؟
- النرويج وسنغافورة: مدرستان نموذجيتان
- هل يوجد فعلاً عقل اجتماعي؟
- كاميناندو: الطبيعة فضاء للتعلم
- كيف تمنحنا صور الطبيعة الإثارة والبهجة؟
- العيش مع موتانا: حكايات وأقاصيص
- مجتمع الاتصال وتطورات التفكير الطارئة
- بين البنغال وروسيا .. مصير امرأتين
- حجر رشيد في ذكرى مئويته الثانية
اكتب تعليقك