الحقيقة في رمزية المخيف .. قراءة في رواية الحمامة للكاتب باتريك زوسكندالباب: مقالات الكتاب
غازي سلمان العراق – بغداد |
الكتاب: "الحمامة"
المؤلف: باتريك زوسكند
المترجم: كاميران حوج
الناشر: منشورات الجمل
سنة النشر: 2016
عَمد الكاتب الألماني باتريك زوسكند إلى تبني الشخصية الواحدة "الميلودرامية" في روايته القصيرة (الحمامة) الصادرة عام 1988، ما منحه حرية التركيز على هذه الشخصية باعتبارها محور عمله وأن يدير الحبكة بقليل من الأحداث الجانبية وبعدد أقل من الشخصيات التي تظل هامشية، بأسلوب سردي قائم على التكثيف والاختزال في الصياغة وبلغة تتميز بدقة معرفية وجمالية، مستعينًا باستبطان العالم الداخلي للبطل والافادة من فاعلية تياري الوعي واللاوعي في البوح والاعتراف واستدعاء بعض من ذكرياته من خلال الهذيان والتداعي الحر في تعرية الذات، ويفضح هشاشة علاقتها بما يحيط بها، وخصوصًا فيما يتعلق بتعايشها المستمر مع عقدة الاضطهاد لأنه من أسرة يهودية (على ما تبين)، نالت نصيبها من شوفينية النظام النازي في معسكرات الاعتقال. فحين عاد بطل الرواية "جوناثان نويل" اليافع، من صيد السمك إلى البيت وهو يخوض مستمتعًا ببرك الماء المتخلفة من المطر عصر يوم من تموز/يوليو عام 1942، متوقعًا أن يجد أمه، فلم يجد سوى مئزرها المعلق على الكرسي الأمر الذي سلب منه تلك المتعة التي سوف يستعيدها وهو في الثالثة والخمسين من عمره، ويبدو أن شعوره المتلازم بالاضطهاد بعد حادثة الاختفاء القسري لأمه ومن ثم لوالده، أحد الأسباب الرئيسية في نزوعه إلى الانطواء والعزلة وإلى الالتزام المنضبط الصارم في سلوكه كفرد مهادن دائمًا، ميال للرتابة، متخوف من المفاجآت والكاره للفوضى، اتقاءًا لشرور الناس، وهي الرغبة الوحيدة التي يتوق الى تحقيقه:
(قال له الأب إن الأم ذهبت. وقال الجيران انها أُبعدت، وإنها نُقلت بداية إلى فيليدروم ديفير، ثم شُحنت إلى معسكر درانسي، الذي تؤدي دروبه الى الشرق حيث لا يعود أحد بعد … وبعد أيام عدة اختفى الأب أيضًا) الرواية ص6
كان الكاتب حاذقًا حين استطاع أن يسرد موجِزًا حياة "البطل" كاملة في سطور قليلة، وفي غضون يوم واحد، هو زمن الرواية كله، بدءًا من استعراضه لطفولته وشبابه إبان الحرب العالمية الثانية وانتقاله للعيش مع عم له بعد فقدانه لوالديه، ثم زواجه بشكل مهين حسب اختيار وأوامر ذاك العم، متأملاً من الزواج السكينة والانطواء بعيدًا عن أية أحداث لكن زوجته تتركه هجرانًا هي الأخرى بعد عدة أشهر من زواجهما مع تاجر خضار تونسي، حتى يرتحل إلى باريس وهو الذي لم يجرؤ قط على أن يتخذ قرارًا بشأن يخصه، إلا بعد أن شعر إنه خُذِل فعلاً وتيقن من: (أن الناس لا يمكنه الوثوق بهم، وأن عليه إذا أراد الهدوء والسلامة أن يبتعد عنهم). حينئذ نلتقي بـه وهو في سن الثالثة والخمسين، يسكن شقة أحبها لأنها أشبه بجزيرة نائية عن عالمه الجائر المتقلب، ويعمل حارسًا في مصرف بباريس، وهي المهنة التي تأكد له إنها ضيّقت كثيرًا من مساحة الاحتكاك بالأخر.
لكنه وفي لحظة اكتشافه لحمامة تحط أمام عتبة باب شقته وهو يهم بالخروج صباحًا إلى عمله أدرك ولأول مرة في حياته، أن نمطية حياته سلوكًا وتفكيرًا ومشاعرًا قد تعرضت إلى زلزال اهتز له توازنه الداخلي وبانَ هزالُ نسيجه، محدثًا شرخًا في سِتره الذي يتحصن فيه لدرء تدخلات العالم الخارجي، كما أدرك فعلاً أن نمط عالمه الذي حافظ عليه طيلة أكثر من ثلاثين عامًا كاد ليستمر في نعيم ركوده، لولا أن القى حادث وجود تلك الحمامة الحصاة فيه على غير ما يتوقع، فلم يكن يتخيل أن يحدث أي طارئ مهم سوى موته هو. لقد تَهَدّمَ بُناه النفسي الذي انفق عقودًا من عمره في تشييده، تجنبًا لأي فوضى من أحداثٍ مارقة، فمثل هذه الفوضى تكمن فقط في ماضيه البعيد، إبان طفولته وشبابه والتي لم تعد لديه رغبة في استعادتها كفعلٍ، أو كتذكر.
استطاع الكاتب أن يوظف هذا الحدث "المفزع" سردًا للمنولوج الداخلي للبطل المضطرب بانثيالات المخاوف والوساوس جراء هتك العالم الخارجي لحصون حياته التي تستقوي بالانطواء، فكان عليه أن يرتدّ بعد صدمته لمرأى الحمامة ويلوذ بغرفته، صومعته، لأنها تسّور طمأنينته، وإنها "الكائن" الوحيد الذي يمكن أن يثقَ به، ليحيل نظام معيشته فيها، عاداته وعلاقته الحميمة الميكانيكية بموجوداتها، إلى أفعال فوضوية لم يتخيل يوما إنه سوف يقوم بها:
«من المرعب التبول في حوض جميل، أبيض، نظيف، لم يتصور إنه سيهبط إلى مثل هذا الدرك. "هي هذه المرة فحسب" وكأنه يعتذر من حوض الغسيل، من الغرف» الرواية ص17
وإذ يشعر "جوناثان" إنه حوصر عميقًا داخل نفسه، وإنه ربما يذهب إلى السجن إذا أطلق الرصاص عليها، وإنه ربما ينتهي هنا بجلطة دماغية، وها هو إزائها إلا مجرد كهل لا يرتجى منه ما يفيد في الخروج من محنته، فلا بد من أن يخطط للخروج من قمقمه، من غرفته التي بدأت تضيق، لكن عليه أن يتحاشى ذلك الكائن المخيف، الحمامة، بأرجلها الحمراء ذات المخالب وريشها الرمادي الأملس والتي تكاد أن تقتله دهشة أو خوفًا، أن تسجنه في غرفته حتى نهاية عمره. وإذ نجح فعلاً في تنفيذ عملية الفرار شعر وكأنه انتصر، وإن كان "مهزومًا" أمام ذلك الكائن- القذر-، الذي جَعَلَه يرتدي ملابس الشتاء كلها في يوم صيفي قائض، ويتخلى عن حبيبته، "غرفته" التي أمِن إليها طوال ثلاثين عام.
في أول وقفة له على موضعه كحارس للمصرف بعد فراره من غرفته، تنفرط حبّات عَقد أفكاره القليلة التي كانت متراصة حتى قبيل لحظات، انفصلت منجذبة بتسارع نحو الفوضى المحيطة بمكانه، لم يستطع بصره التوقف لحظة ليرى تفاصيل المشهد أمامه، بل راح يرى جزءًا صغيرًا من كلية الشيء وما يلبث ان يضيع في تلك الفوضى لتلتقط عيناه شيئًا آخر، أو بالأحرى تتعثر بشيء آخر، وهذا ما لم يعتد عليه "جوناثان نويل" المكتفي بمشاهدة ما يحتاجه في عمله فقط، أبواب المصرف ودرجات السلم وسيارة مديره. فيما العالم الذي كان يتحاشى النظر إليه أو الانضمام له أصبح الآن أكثر اتساعًا وتنوعًا وضجيجًا، فأشعره بالدهشة والخوف حتى أفقده القدرة على تأدية عمله الروتيني الرتيب إلا بمشقة، لكنه بقي واقفًا بقليل أو بكثير من تماسك الجسد، بالرغم من كل هذا الصخب المحيط، والأفكار التي تتلاطم في ذهنه، وتخيّل أن الموت ربما يغافله على حين غرة، ربما يمرض الآن أو أن يضحى متشردة.
لم ينفك الكاتب من مصاحبة بطله في دوامة الهروب والنفور من الآخرين، منزويًا في قوقعة الخوف والتوجس، وفي بحثه المحموم عن إعادة الانسجام مع عالمه الخارجي الذي افتقده قبل ساعات دون جدوى ليأتي مشهد الرجل المتشرد الذي يجلس بالقرب منه في تلك الحديقة والذي يعرفه جوناثان جيدًا منذ ثلاثين عامًا، ليجسد أمامه كنه وجوده هو، لكنه الساعة يغبطه بل يحسده:
«فبينما على جوناثان أن يؤدي خدماته يوميًا في تمام الساعة التاسعة، كان المتشرد يقبل في العاشرة أو الحادية عشرة مترنحًا، بينما على جوناثان أن ينتصب في وقفته، كان ذلك يسترخي غير عابئ على قطعة كرتون ويدخن فوق ذلك. بينما على جوناثان أن يحرس بنكا» الرواية ص42
إلا أن مشاعر الغبطة والحسد لم تستمر طويلاً حين يتمكن ذهن جوناثان من قلب الصورة، صورة المتشرد المسترخي الكسول المنسجم تمامًا مع نفسه وعالمه إلى صورة رجل "محتاج" لأن الحاجة بالنسبة لجوناثان هي ما يحدد معنى الحرية، فهو(جوناثان):
(يكسب كل قرش بجهوده وشراء كل ما يلزمه بنقوده، زاهدًا، نظيفًا دقيقًا في مواعيده، ولم يستدن قط نقودًا) الرواية ص47
غير أن الأمر ينسحب أيضًا على فعل بسيط، تافه حين يتذكر "جوناثان" إنه شاهد المتشرد في يوم ما من أواسط الستينيات، قابعًا بين سيارتين بجوار حافة الرصيف يقضي حاجته، فتلاشت كل مشاعر الغبطة والحسد في نفسه إزاءه فقد كان قد توصل إلى عرفان:
«إن جوهر الحرية الإنسانية يكمن في امتلاك مرحاض مشترك». الرواية ص45
ولأن (جونثان) يمتلكه فإنه أحس بلذة الحرية الجوهرية (!). وأدرك الفرق في الشعور بالطمأنينة بين من يتغوط في الشارع كاشفًا عن عجزه! و بين مَن يتأكد مِن خلو الحمّام من شخص ما، بين من يتغوط وينام في العراء وبين من يدلف إلى غرفته، صومعته ويحكم إغلاق بابها. منذ الآن لن يكون نمط حياة المتشرد تجسيدًا استفزازيًا لجاذبية الحرية وسحرها أبدًا حسبما اعتقد "جوناثان". إنه يرى الآن صورته المعاكسة التي رسمها لذاته ويعي معناها. أضحت صورة المتشرد حصاة ثانية تلقى في بحيرة حياته، بعد حصاة حادثة الحمامة، بفارق أن الثانية ألقيت في مياه مضطربة بينما الأولى كانت في مياه ساكنة.
إن تفاهة المخيف في – رمزية الحمامة – لدي "جوناثان" إنما يكمن في المخيف الكامن في شخصيته لهذا يستمر في خوفه لأن دواخله باتت مشرعة أمام الخوف من "الحمامة" التي تركها وراءه عند باب غرفته لكنها مازالت تنقر جدران طمأنينته الهشة تنسخُ مخاوفَ أخرى في داخله، ليكون تمزق بنطاله حين كان يتناول غداءه في الحديقة، خوفًا "تسلسليا"، لا يقل رعبًا عن وجود الحمامة، فيتعاظم خوفه، هواجسه ووساوسه لأنه أصبح مبعثًا لأثارة انتباه الآخرين، وتحت وطأة انظارهم، وهذا ما يتسبب له بقلق وازعاج مضاعفين:
«كأن ما تمزق ليس بنطاله، كأن شرخًا عميقا جرى في ذاته، في المقعد، في الحديقة، كفلقٍ أحدثه زلزال، وتصور أن الناس المحيطين به قد سمعوه ولا بد، هذا الـ – زيق – المرعب ويصبون على مسببه جوناثان، نظرات استغراب من فعله الشنيع» .الرواية ص51
هذه الحادثة التي ألزمته التحدث إلى الخيّاطة، مع مشهد المتشرد المقزز الذي استذكره إضافة إلى تمسكه بجزئيات سلوكية أخلاقية ثابتة، ينبغي عليه الالتزام بها مثل نسيانه لعلبة مشروب فارغة على مقعد الحديقة وغفلته عن سماع صوت سيارة مديره في حينه ومرأى الآخرين وهم يؤدون أعمالهم، نادل المقهى والزبائن، سائقي سيارات الأجرة، ورواد الحديقة التي كان يجلس فيها، كل تلك المشاهد وغيرها قد خلقت حالة من المقارنة الصادمة بين شخصه الملتزم بواجباته الاجتماعية وتأديته لعمله بدقة متناهية، حتى إنه عاد ليتفقد مكانه في الحديقة لمعالجة ما ظنه "خطأ فادحًا" ليرمي العلبة الفارغة في سلة المهملات، ومن ثم تأنبيه لنفسه بما يشبه جَلدَه لذاته لأنه أغفل سماع سيارة مديره وتأخره لحظات عن أداء واجبه، وكذا انتقاده لسائقي السيارات الذين يتسببون في الضجيج والتلوث، وذلك النادل الذي يستحق الرفس، لأنه يستغل الزبائن، الأغنياء الذين يسترخون ويشربون المشروبات بالغة الغلاء، بهذا يكون "جوناثان" قد اكتشف العالم الخارجي من جديد، نشأت علاقة جديدة مختلفة بينهما. وأنّ موقفًا مغايرًا تم تبنيه من قبله. لقد انتهك فعلاً حدود عالمه الداخلي المغلف دومًا، متجاوزًا ذاته التي بدأت بالانفتاح على محيطها الخارجي، لكنه بالرغم من تمني الاقتصاص منهم بتطرف، لا يستطيع تنفيذ ما تخيل من رغبة في القصاص من الآخر لأنه:
«جوناثان الذي صاغ في روحه جمل الوعيد والتهديد الشرطية المرعبة، كان واثقًا في اللحظة ذاتها ان لم يتمكن قط من تحقيقها لم يكن ليفعلها، لم يكن يصاب بمرض الأموك، لم يكن ليرتكب جريمة بدافع الحاجة النفسية» الرواية ص 64
كذلك إن هكذا جريمة تبدو دائمًا بشعة من وجهة نظره، إنه ليس رجل الفعل، بل مسالم دائمًا مهادن ومتمهل جدًا.
إن تحرير ذاته من شرنقتها العتيقة المتحصن خلفها لأكثر من ثلاثة عقود، وما أثار فيه قصف الرعد والعاصفة من هاجس مرعب معتقدًا بأنه الكائن الوحيد الناجي بعد نهاية العالم، منحه القدرة على مواجهة ذاته التي ترتهنه في عمقها، شعر لأول مرة في حياته بالحاجة الآخرين كي ينقذوه، ينتشلوه من وحدته مناجيًا:
«إلهي، اين هم الآخرون؟ لا أستطيع الحياة دون الناس الآخرين، كاد أن يصرخ أراد أن يصرخ بجملة إنه لا يستطيع الحياة دون الناس الآخرين في وجه السكون إلى هذا المدى بلغت حاجته إلى هذا الياس بلغ خوف الطفل العجوز من الإهمال». الرواية ص75
لقد أيقظه صوت انفجار الرعد والبرق من سباته فتمزقت حصون دواخله، ليعود إلى غرفته الأنيسة الرحبة، عشيقته، التي تنتظره كـ "جوناثان" آخر وقد اغتسل بقطرات المطر خائضًا ببرك الماء، حافيًا مستعيدًا متعته الطفولية التي سلبتها حادثة اختفاء والدته .. متخيلاً عيون الحمامة المروعتين، "ستطير الى الاعلى بخفقة جناح وتلمسه بجناحها" لكن الممر إلى غرفته الآن خاليًا والحمامة قد اختفت، لا ريش و لا زغب يرتعش على البلاط الأحمر.
بالرغم من عدم ذكر الحمامة في الرواية إلا لمرات نادرة، إلا إننا ندركها محلقة في فضاء الروي، تستهدف يقين قناعتنا بوجودها فعلاً في الممر أمام باب غرفة "جوناثان نويل"، مع الايحاء لنا بأنها ربما كانت موجودة أصلاً في لاوعيه الذي أطلقها في لحظة مناسبة من أُخريات عمره، مرتجيًا أو مطالبًا بتغيير نمطية حياة البطل المسورة بالانطواء وعدم الثقة بالآخرين . ليمس باتريك زوسكند في "الحمامة" كينونة الوجود الإنساني، ينفذ إلى دواخل الشخصية كما في روايته الأخرى "العطر" باحثًا عن النقيض الآخر المختبئ في أعماق الإنسان.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- سيرة حياة المكان في رواية «خلية النحل» للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا
- واقعية الخيال روايـة الـعـطر «ذاكرة الدعاية النازية»
- رواية «الذباب والزمرد» من رثاء ذات إلى مرثاة وطن
- ما يتبقى من الحرب: الحكاية والموقف في (رواية لحن ماثوركا على ميتّين)
- استعادة الحياة من أزمنة الخراب في (ما لم تمسسه النار)
- الحقيقة في رمزية المخيف .. قراءة في رواية الحمامة للكاتب باتريك زوسكند
- «مزامير المدينة» تصدح بسوناتا البقاء
- الرؤية المكانية في (خانة الشواذي)
- جمجمةُ تشرين: ذاكرةٌ تنهضُ من رماد الموت
- رواية (عرس الشاعر): سحرية النص وواقعيته
التعليقات 1
تحليل أكثر من رائع... قرأت الرواية قبل أكثر من ثلاث سنوات، و بالرغم من نسياني لتفاصيل وقائعها، إلا أنك أرجعتها لي بانسيابية و خفة، مع فهم أعمق للغة زوسكيند الصعبة.
اكتب تعليقك