واقعية الخيال روايـة الـعـطر «ذاكرة الدعاية النازية»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-10-11 21:46:39

غازي سلمان

العراق – بغداد

الكتاب: العطر

المؤلف: باتريك زوسكند

المترجم: كاميران حوج

الناشر:دار الجمل 2009

عدد الصفحات: 288  صفحة

 

تتحرك الشخصيات في الأدب والفنون الإبداعية الأخرى من واقعها الافتراضي إلى الواقع الحياتي، في أي زمن ومكان، وتتكاثر فيه كلما تجددت الحاجة الإنسانية إلى فعل القراءة الذي يحيي علاقات معقدة بين القراء والموضوع الإبداعي إذ يدركون أنه من خلال الأدب والفن وحدهما يمكنهم أن يعيشوا أكثر من حياة واحدة في أكثر من واقع، بتأثير تفاعلهم مع تجارب تلك الشخصيات التي أصبحت رؤاها جزءًا من المعايير السلوكية والفكرية للواقع الحياتي وان اختلفوا أو اتفقوا مع رؤية المبدع التي هي بالتأكيد رؤية شخوصه..

و"غرينوي" بطل رواية – العطر- الصادرة في العام 1985 أحد أولئك الشخوص، ابتدعه الكاتب الألماني باتريك زوسكند (ولد في أمباخ 26 مارس 1949) بحدة ذكاء، يندر أن نجد شخصية تماثله من بين كل شخوص الفنون الإبداعية الأخرى، إذ تتسم شخصيته بالغرابة والاعتلال النفسي، عنيف، مخادع، غير ودود، وليس جميلاً، لكنه غير قبيح، لم يتحمل أية مسؤولية اجتماعية أو أخلاقية، ولا يعير أية أهمية لقيم وأخلاق أو ديانة ولا يعرف الله!، لم يندم على أي تصرف خاطئ أو جريمة ارتكبها، لم يضحك إلاّ مبتسمًا مرة واحدة حين جعل حشود الناس تخضع لشخصه، ولم يبكي أبدًا، إلاّ مرة واحدة إبّان خلوته في كهفه فرحًا منتشيًا، لم يتمكن من التكيف مع ضوابط وأنظمة المجتمع، لم يعرف الحد الفاصل بين الحياة والموت إلا بما يتصل بوجود رائحة أو بفقدانها، اعتاد الصبر والجلَد من أجل تنفيذ ما يقرره، مهما كلّفه هو الأمر، أو كلّف الاخرين، يمتلك قدرة هائلة على التمسك بالحياة، تلك القدرة التي يريد البعض سلبها منه، بما فيهم والدته التي حاولت وأده إذ ألقته حين ولادته مع أحشاء السمك النتنة علّه يلاقي حتفه شأنه شأن مواليدها الأربعة السابقين. لكنه أطلق صرخته الاستهلالية بغريزة الاستنكار حتى انتبه لوجوده آخرون، لم تكن صرخته تلك، استدرارًا للرحمة أو الحب، بل للمطالبة بالبقاء حيًّا فقط، فالتُقِطَ وتم انقاذه، لينتقل من مرضعة إلى أخرى، لم ترضَ أي منهن أن يبقى لديها إلاّ أيام معدودات، لأنه بلا رائحة مثلما يمتلكها سائر الأطفال الآخرين.

ساعدته قدرته تلك أيضًا على النجاة من شتى الأمراض والأوبئة التي أصابته، كالحصبة والجدري والزحار، وكذلك سقوط الماء المغلي على جسده، ولأنه ولد مع حاسة شم خارقة جدًّا وغير انسانية إطلاقًا، فإنه قد حفظ روائح محيطه بشوق العاشق عميقًا في ذاكرته في محاولة يائسة لاستعادة رائحته "هويته" الخاصة به عبر استخلاص العطور.

فلم يدرك "غرينوي" الإنسان والموجودات الأخرى، في بيئته ـ كحيوات لها سمات وأشكال ذات عناصر جمالية، لها أحاسيس وأخلاق، أو سلوك وحتى أن لها لغة تفاهم، بل روائح فقط، روائح مختلفة يدّخرها في ذاكرته مثل كلب بوليسي، بإمكانه تنسم أية رائحة من على بعد كيلو مترات وأيضًا التمييز ما بين ملايين الروائح التي اختزنها وبإمكانه تفكيكها إلى جزيئيات أصولها. لكنه يكتشف فيما بعد أثناء عزلته عن البشر في كهف جبلي إنه شخص بلا رائحة، إذ أخذ يتشمم مفاصل في جسده:

 «لم يشم شيئًا، لا من قدميه ولا من عضوه الذي انحنى عليه قدر المستطاع. غريب، هو غرينوي، الذي يتنسم كل إنسان على مسافة أميال، لا يستطيع شم عضوه ..» الرواية ص 147.

ومنذ لحظة ولادة الطفل في سوق السمك يدرك القارئ بأن القاتل قد ولد، فالعنوان الفرعي للرواية – قصة قاتل – يوحي سردًا لتاريخ حياة القاتل، فبعد قراءة سطور قليلة نعرف إنه تسبب في إعدام أمه بتهمة قتل مواليدها الأربعة، من خلال تنبيه الآخرين على جريمتها بصرخته المستنكِرة الأولى!!

تبنى الكاتب "الخيالَ" في عملية الخلق الإبداعي، باعتباره أحد أهم العناصر في الأدب الروائي فهو عنصر "بنائي مجازي" الأمر الذي هيأ له امكانية تخليق عوالم حلمية مغايرة وموزاية لواقع – باريس في القرن الثامن عشر-، مفعمة بتصوراته وأخيلته، فأعاد خلقه وفهمه، وإذ تقاربت الرؤى مشتتةً حينًا هنا أوهناك مع الفضاء الواقعي، فإنها (الأخيلة) نسجت خيوط ارتباطها معه بغموض وببطء، وبفعل تماهيها مع لغة السرد المتفاعلة مع اللغة السائدة، فقد أُنتجَت عملية توليدية لهذه اللغة، مع استثمار نسيج وايقاع الكلمة من أجل تجاوز المعنى المجرد لها، لغة روائية ثرية بثقافة ودراية المؤلف في عملية استخلاص العطور ومرجعياتها، وتاريخ فرنسا إبان القرون الوسطى،  تلك اللغة المفعمة بالسخرية وبالقدرة على الاقناع القادرة على تحفيز المجادلة لدى المتلقي في دلالات العوالم المتخلقة التي غدت جزءًا من الواقع الباريسي الذي انتخبه الكاتب.

وحقًا، أثبت الكاتب باتريك زوسكند، في هذه الرواية إن مثل هذه اللغة كافية لأن تجعل الخيال الابداعي المشتبك بنسيج واقعي مثل عطر تتقبله الأنفس. لكنه لم يكيّف هذا "العطر" الرواية، مع وجهة نظر متلقٍ ما، لأنها تتعامل مع مسارات وهمية وصور سوريالية أكثر مما هي عليه كروايةٍ درامية أو بوليسية، بل رغب الكاتب في أن يستدعى متلقيًا يعرف كيف يتأمل (الحقائق) ويكوّن منها إحساسًا ذاتيًا وفهما قرائيًا خاصا به فـ«القراءة اتفاق على الكرم بين الكاتب والقارئ، يثق بمقتضاه كل منهما بالآخر، ويستند عليه، ويطالبه بما يطالب نفسه، هذه الثقة ذاتها كرم وسخاء: ما من أحد يقدر أن يجبر الكاتب على الاعتقاد بأن القارئ سيستخدم حريته، وما من أحد يقدر على أن يجبر القارئ على الاعتقاد بأن المؤلف استخدم حريته» جان بول سارتر – ما هو الأدب؟

إن المتلقي يواجه الراوي – والمؤلف معًا، فلم يكتف المؤلف بدور – الراوي العليم – فقط بل تعداه إلى أن يطرح نفسه منافسًا له في أكثر من موضع، مثلما في تقاطع صوت المؤلف في الإخبار عن نهاية حياة آخر مرضعة لغرينوي (مدام غايار) مع استرسال الراوي وهو يتحدث عن نيتها في التخلص منه: «ولأن مدام غايار تترك القصة في هذا المكان ولن نصادفها في المستقبل أيضًا فلا ضير أن نصف موتها ببضع جمل …» الرواية ص 34-35.

أو أنه يصف ساخرًا "غرينوي" بالقُراد: «مثل هذا القُراد كان الطفل غرينوي ينغلق على ذاته وبترقب زمنًا أفضل، لم يمنح العالم أكثر من برازه، لا ابتسامة، لا صرخة…» الرواية ص 27.

غير أن المتلقي لم يشعر بأي ضَعف في هيمنة "الراوي– المؤلف"، فالأخير يُبقي متلقيه على مسافةٍ قريبة منه دائمًا، مصغيًا إلى حيوية خطابه المكتفي بالتسلسل الزمني التصاعدي للأحداث التي تتمحور حول حياة ومن ثم موت بطل الراوية الدراماتيكي، موضوع الرواية كله ولا أحد غيره، فلا توجد أحداث جانبية في الرواية خارج دائرته، والدته والأب "تيرير" ومرضعاته، والدباغ غريمال والعطار بالديني والماركيز والارستقراطي ريشي والد آخر فتاة ضحية من ضحايا "غرينوي" كل أولئك لم يوجدوا إلاّ بسبب من وجوده هو، وظروف حياته ومراحل سيرته، وبقاءه حيًّا هو الذي يقرر مصيرهم موتًا بحادثة وبأخرى، أو بانتهاء لدور مرسوم لهم، لكأن "غرينوي" يمتلك القدرة على احلال لعنة الموت على الآخرين.

مع بداية الجزء الثاني يمنح الكاتب الرواية دفقًا متسارعًا من الفانتازيا، صورًا ورؤى تجسّم عالم "غرينوي" الداخلي في خلوته بالجبل، حيث الطبيعة المترامية القصية، النائية عن رائحة الآخرين، أناسًا وموجودات، أزقة ومياهًا، "متعففًا" بأنفه عن باريس التي تستغرقها النتانة، هنا في الجبل وفي كهفه، في أحلام يقظته، في عزلته التامة الخرساء، إلاّ من روائح الضباب والكهف والرطوبة، الطحالب والحيّات التي يأكلها، استطاع الكاتب أن يعيد بناء موجودات الامكنة بأدق تفاصيلها، بكل توحشها وغرائبيتها وبما يتلاءم مع هواجس بطله وشخصيته الانعزالية العدائية، فالبركان بالرغم من هموده، مازال متسيّدًا على ما يحيط به من جبال وأحراش وبضعٍ من سحالي وطحلبيات وخفافيش، ينيط بهم مهام حماية إمبراطورتيه الخربة، طاردًا لكل أنواع الحياة بما فيها روائحها، إلاّ ما ندر! لتبقى أكثر انعزلاً وأكثر انغلاقًا عن كل ما يحيط بها، إنها تتماثل كثيرًا مع عالم: "غرينوي" الداخلي الانعزالي بعدائيته، والطارد لكل ما هو إنساني من داخله أيضًا «كان على جبال اوفيرني، على سفر خمسة أيام جنوب كليرمون، على فوهة بركان يقع على ارتفاع ألفي متر اسمه بلومب دي كانتال، يتألف الجبل من صخور عملاقة وتحيط به مرتفعات لا نهائية تحرسها أدغال كئيبة وطحلبيات كئيبة، تنبثق عن نتوءات صخرية كالأسنان المنخورة وبعض الشجيرات المتفحمة» الرواية ص 129.

وإذا كان الراوي قد، جعل "غرينوي" يستدل المكان بغريزته الشمية الخارقة، بأنفه البوصلة، فإن ذلك البركان قد سمح لـه بالعيش سبع سنين في بيئته، هذا لأن "غرينوي" ذاتٌ انغلاقية أصرت على الاستمرار حية وفق ظروف الحياة تلك التي انتجتها ثورته المدمرة. لكن "غرينوي" يضع نفسه الآن ندًا للبركان المضيف، كإمبراطور ثان أو إله!، بينما هو في مواجهة ذاته، يدنو منها "يسبح في كينونته" مستلقيًا في كهفٍ، كما القبر، كما الرحم! لا يعكر صفوة روحه أي شيء خارج عنها.

ربما بدا عالم "غرينوي" الداخلي قبيل أحداث الجزء الثاني من الرواية، ضيقًا جدًا لأنه لم يشتبك مع ما يحيطه إلا بخيوط روائح واهنة، ففي عالم المدينة، لم يشأ أن يرتبط بعلائق اجتماعية أو عاطفية أخرى، سوى علاقات عمل لدى الدباغ "غريمال" وبعدها لدى العطار "بالديني" باع خلالها جهده ليبقى حيًّا، وقايض عبقريته أيضًا، في استخلاص العطور بأقل الأجور زهدًا في ظرف معيشي أقل ما يقال عنه إنه متواضع جدًا، لكي يكتسب خبرة انتاج العطور. حتى إن الكاتب لم يستطع الولوجَ إلى ذلك العالم المنغلق إلاّ من منفذِ كوةِ الأنف الخرافي، في عزلته هذه يبدأ الكاتب بتوسعة عالم بطله، ليضع في ذهن "غرينوي" تصورات غرائبية، بخيال جامح، تتفاعل مع مخزونه الروائحي فتتكثف الفنتازيا في استمراءه لأحداث مجونه الاحتفالية في إمبراطورتيه المضطرب: «أمر غرينوي العظيم المطر ليقف، وكان إن وقف المطر، وأرسل غرينوي العظيم شمس ابتسامته الرؤوف على الأرض وكان أن تفتح بهاء ملايين الأزهار، من نهاية الملكوت إلى نهايته الأخرى، في بساط أوحد ملون منسوج من الوف مؤلفة من حقق الطيب النفيسة .. » الرواية ص137.

إن المتلقي الذي أدرك محدودية خيال غرينوي في التحليق، وضيق أفقه وعدم قدرته على الاستعارة التخيلية، قد فاجأه الكاتب باتساع عالم البطل اللامحدود بما استزاده من حكايات حلمية سوريالية، واتخم ذهن بطله بما لا يستطيع هضمه وإدراكه، مستغرقًا بعمق في عالمه الداخلي مسترسلاً بمزيد من التفصيل دون أن يخشى عيوب الاستطراد ملقمًا نار السرد الهادئة بخيالات ذهنية معبقة بالروائح التي يستذكرها "غرينوي" في ذهنه ليمنح النص مزيدًا من التوهج. لقد جعل الكاتب من "غرينوي" أن يستطيع تنصّيب نفسه إلها أو إمبراطورًا على عالمه الداخلي، كأي متوحد اغتنم حرية كاملة: «وإذ وصل جان بابتيست غرينوي إلى البيت استلقى على الأريكة الأرجوانية … استلقى صفّق وأمر خدمه بالحضور بين يديه الكريمتين، … الخدم غير المشمومين وهذا هو الأهم .. وأمرهم بالذهاب إلى الحجرات وإحضار هذا الكتاب أو ذاك من مكتبة الروائح..» الرواية ص139.

بعد كل ذاك الطواف والاندفاع عميقًا في عالم بطله الداخلي يكون المؤلف قد أكمل صياغة عالم الرواية بإنضاجه شخصية "غرينوي"، إلاّ أن هذا لم يكتشف ذاته بعد، لم يستطع أن يعيّن هويته كفرد مادام بلا رائحة، فوقع فريسة لأنياب الخوف والقلق ولعبق الفتاة ذات الشعر الأحمر، أول قتيلة له، وأول عطر امتصه منها امتصاصًا، ومافتئ يعب منه كؤوسًا بعد كؤوس, دون أن تتحقق له نشوة خالصة لذاته المهدمة، أحس إنه عشق هذا العطر من بين ملايين العطور كلها، عبق هذه الصبية و– لا رائحته هو – حفزا "غرينوي" على أن ينهي خلوته ويستجمع كيانه للعودة إلى المدينة، ليبقى تحت عناية ورعاية الماركيز "تاياد اسبيناس" للإفادة من "غرينوي" في أثبات صحة نظريته الغريبة "محفز الموت الترابي" ويسمح غرينوي له باستغلاله من أجل أن يتمكن من بحثه عن هويته ـ رائحته- وبمساعدة الماركيز حصل على عمل في مشغل للعطور في مدينة مونبيليه فأخذ يجدُّ في البحث لاستخلاص رائحة الإنسان، وفعلاً اكتشف تلك الرائحة خليطة من براز قطة، بضع قطرات من الخل وملح وجبن متعفن، نشارة القرن شحم خنزير صمغ وكحول … وهكذا من كل شيء فيه نتانة فائحة، ليؤكد سخريته من الإنسان واحتقاره له، وحين ضمخ جسده به اكتشف فاعلية هذا العطر وتأثيره على الآخرين: «نعم عليهم أن يحبوه إذا دخلوا دائرة عطره، عليهم إلا يتقبلوه كمثيل لهم فحسب بل أن يعشقوه عشقًا جنونيًا، أن يضحوا بأنفسهم في سبيله، أن يرتجفوا ويذهلوا عليهم أن يصرخوا ويبكوا من النعيم دون أن يعلموا لماذا عليهم أن يخروا على ركبهم …» الرواية ص161.

لكن هذا ليس نهاية لمهمته وجشع أنفه في الاستنشاق فرائحة الإنسان وقد حصل عليها بسهولة، لكنه يبحث عن عطور أفراد نادر وجودهم، "يلهمون الحب" وهؤلاء هم ضحاياه  وهكذا بدأت سلسلة جرائمه في اختيار صبيات نادرات الجمال، ويُتمَّ جريمته الخامسة والعشرين، وعندها يلقى القبض عليه، ويساق بَعدَ المحاكمة إلى ساحة الإعدام.

إن الكاتب يتجنب وصف تفاصيل وقع فعل القتل على القتيلة، إلا من خلال وصف مشاعر الناس إزائها، ثم يذكر الجرائم كرقم، وحتى الضحية الاخيرة، "لور" إذ كان فعل قتلها خاطفًا ويصفه عبر حالة استعداد القاتل نفسه وهو يهوي بالهراوة على الصبية وهي نائمة، وكذا حين يباشر باستخلاص رائحتها فكأنه يصف إجراء عملية تجميل جراحية دقيقة جدًا. ربما كان لا يريد أن تتحول روايته إلى رواية بوليسية أو رواية رعب!.

يبقى غرينوي شخصية مثيرة للاهتمام والإعجاب حقًّا، وسيرته سفر يمضي فيه المتلقي دون أن تفارقه الدهشة، أكسبه المؤلف ثقافته دون مواربة بل بصراحة بليغة. إنه يفتقر إلى الإيمان بأي سلطة إلهية أو شخصية، أو مجتمعية، غير المنتمي إلى مجتمع، بل يرفض الانتماء إلى كل ما هو إنساني بفعل كراهيته واحتقاره له، فكان شخصية مركبة من عنصرين أساسيين، هما "وهم حب السيطرة والعدوانية". وهذين العنصرين لا تتصف بهما الشخصية السوية ولكنهما يتشكلان في الشخص "السيكوباتي" مثل "غرينوي"، بل إنه عبقرية سيكوباتية استطاعت أن تفتن الجماهير، وتتحكم في مزاج إرادتها وإخضاعها وجَلدَه، وتحييد تعاطفه، والنظر إليه كملاك أو إله، بتأثير من "العطر" الذي قلب موقف تلك الجماهير المحتشدة في ساحة إعدامه، الناقمة عليه بشدة والتي كانت تتوق إلى تمزيقه إربًا، إلى موقف متعاطف معه مفعم بالحب والهيام بشخصه، حتى توهموا إنه من المستحيل أن يكون قاتلاً، بل إن هذا الجمع: «حلت فيهم المودة، الرقة، الحب الطفولي، بل ليعلم الله إنهم عشقوا الرجل الصغير القاتل ولم يستطيعوا، لم يرغبوا في مقاومة مشاعرهم كانت حالهم بكاء لا يستطيعون الوقوف بوجهه..» الرواية ص245.

يقف "غرينوي" مضمخًا بـ – العطر – في مواجهة الجموع التي كان قد تبادل معها الكراهية والقرف والنزوع إلى الانتقام قبل حين وقفته هذه، وكأنه لم يقف على منصة إعدام بل على عرش إلهي، كمحارب منتصر يراقب جموع أعداءه خاسئين مستسلمين لعظمته، خانعين إلى ما توحي إليهم نظراته وابتسامته الشامتة الهازئة بممارسة طقوس حفل خلاعة ماجن: «تجامع القوم وتزاوج في أوضاع وأزواج لا تعقل، الشيخ بالعذراء، الأجير بزوجة المحامي، الصانع بالراهبة، اليسوعي بالماسونية … صار الفضاء مثقلاً برائحة عرق الشهوة اللذيذ والصراخ العالي، بأنين ولهاث عشرات آلاف من الحيوانات البشرية، كان مأدبة الشيطان» الرواية ص 247.

وتقرر المحكمة:

«اعتبار قضية "غ" منتهية، وتجميد الملف وتدوينه في السجلات دون قيد وإعادة فتح قضية جديدة بحق مجرم مجهول ….» الرواية ص254.

لم تهدأ نفس غرينوي أبدًا في مقابل هدوء نفوس الجماهير المهتاجة بعد طقوس الخنوع والمجون، بفعل تأثير زوبعة عطره، فمازال لم يحقق الرضا الكامل عن نفسه، قد أيقن أنه ذات دون هوية دون تفرد بالرغم من امتلاكه أكسير قدرته بيده الذي منحه هوية وحب زائفين وبالرغم من إنه: «أقوى من سطوة الذهب والإرهاب والموت، القدرة التي لا تقارع القدرة على الإيحاء بالحب لكن قدرته ليست قادرة على شيء واحد، ليست قادرة على أن تجعله يشم نفسه إنه يبصق على كل شيء، على العالم، على ذاته، وعلى عطره» الرواية ص 260.

في 25 يونيو 1767، وصل غرينوي إلى باريس في يوم قائض من أيام تلك السنة يتماثل في سخونته وروائحه مع يوم ولادته، مخلفًا وراءه أعداءه الذين تلذذوا بخنوعهم خلال طقس أطاح بنظام الحياة التقليدي.

لم يهرب إلى باريس بسبب من الشعور بالإحباط والخسران فحسب، بل أن تلك القوة الجاذبة التي كانت قد أودعته ذلك الجبل هي نفسها التي جذبته إلى مجموعة من اللصوص والقتلة والعاهرات في باريس، مسقط رأسه، وحين تضمخ بعطره انجذبوا إليه تستدعيهم إليه دوامة عطره الغاضبة فراح: «كل منهم يريد أن يلمسه، كل يريد جزءًا منه، ريشة، قبسًا من ناره السنية مزقوًا ثيابه، نزعوا شعره سلخوه، فتتوه، نشبوا أظفارهم ومخالبهم في لحمه، أنقضوا عليه كالضباع .. بعد نصف ساعة اختفت كل ألياف غرينوي عن وجه الأرض» الرواية ص 262.

لا بد وأن "غرينوي" قد ضحى بنفسه طواعية، لأنه أدرك إنه سيبقى منبوذًا أبدًا، وإن آكليه هم وحدهم الذين تصرفوا صادقين بغريزية الحب معه التي لم يكن ليشعر بها آخرين غيرهم إزاءه: «شعروا بالعز والفخار، فهم لأول مرة في حياتهم قد فعلوا شيئًا بحب» الرواية ص263.

هل من المكن أن يفسَّر مثل هذا السلوك الجمعي للجماهير، إمكانية التصالح مع الجريمة والمجرم؟

هل أراد باتريك زوسكند أن يجعل الذاكرة تعود بنا لنتشمّم عطر فترة تأثير الدعاية النازية في المانيا وتأثيرها على الشعوب وتسيّد هتلر وكل الديكتاتوريات اللاحقة، وإن نتشمم أيضًا عطور الزعامات السياسية في بلداننا لتزكم أنوفنا قبح روائح جمهورها الذي لايني إلاّ أن يخضع بيسر وطواعية فيتطبع بطباع زعيم سيكوباتي.!! 


عدد القراء: 6244

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-