سيرة حياة المكان في رواية «خلية النحل» للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-06-16 02:37:41

غازي سلمان

العراق – بغداد

الكتاب: "خلية النحل طرق ضالة"

المؤلّف: كاميلو خوسية ثيلا

تاريخ النشر: 2016

الناشر: آفاق للنشر والتوزيع

عدد الصفحات: 387 صفحة

 

توطئة:

هذه هي الرواية الثالثة التي قرأتها للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا (1916 - 2002)، قبلها كانت رواية "عائلة باسكوال دوراتي"، وتلتها "لحن ماثوركا على ميتيَّن"، وفي رواياته الثلاث بضمنها "خلية النحل" كان الكاتب يمتلك "الجرأة والمقدرة كاملتين" ليتمكن من فتح أبواب الواقع الاسباني على مصاريعها فينخر في هيكل النظام السياسي القائم ممثلاً بالجنرال فرانكو، أمام الملأ وهو في ذروة قوته.

مع بداية الحرب الأهلية الإسبانية التحق الكاتب مقاتلاً إلى جانب اليمين الذي قاده فرانكو ضد حكومة الجمهوريين التي فازت بانتخابات شرعية عام 1931 بالرغم من إصابته بمرض السّل، ومن الطريف أن الكاتب كان قد عُيّنَ رقيبًا على المصنفات الأدبية والصحفية خلال سنوات الحرب وبقي بعد انتهاءها زميلاً لممثلي تلك المؤسسة الرقابية وحين قدم روايته هذه "خلية النحل" من أجل الموافقة على نشرها، تقرر رفضها بسبب إنها (تهاجم العقيدة والأخلاق.. ), مما اضطره إلى نشرها في الأرجنتين عام 1945 - 1946، لكنها عادت إلى أرض وطنها الأم لتنشر فيها عام 1951.

أحتل الكاتب مكانة مرموقة في الأدب الإسباني ليصبح، بعد سيرفانتس مؤلف دون كيخوته، أكثر مبدعي اللغة الإسبانية ترجمةً وشهرة خصوصًا بعد حصوله جائزة نوبل في الأدب عام 1989، وجوائز أدبية أخرى، ليصبح واحدًا من كبار كتاب القرن العشرين..

للمكان أهمية بالغة في الفنون الإبداعية باعتباره أحد عناصرها الذي يشكل بل ويسم هوية الفرد والمعرفة الإنسانية ومستويات الوعي الجمعي ككل، فهو حاضنتها حيث ينمو ويتطور الوجود الإنساني، وهو الأقدم وجودًا طبيعيًا، من الإنسان نفسه إلا أن الإنسان يعيد دائمًا تشكيله وتكييفه وفقًا لحاجاته الحياتية ورؤيته في منح ذاته قدرة التأقلم معه والاطمئنان إليه. وبذا يكون المكان نتاج اجتماعي متشكل جراء الفاعلية والأنشطة الإنسانية المؤثرة فيه. بحيث يغدو من المستحيل الفصل بين الإنسان كفاعل حيوي في بيئته وبين المكان الذي يكشف بدوره عن فاعلية الفرد التي تمنح المكان قيمة وكينونة متفردتين. ففي:

«بعض الأحيان نعتقد إننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان، والذي يودّ، حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة، أن يمسك بحركة الزمن، إن المكان في مقصورته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي الزمن مكثفا، هذه هي وظيفة المكان»(1).

يغدو المكان المقترن بعناصر السرد الأخرى أكثر اتساعًا وشمولاً رغم ضيقه أو إن قلّـت الإحداث فيه وانحسرت الأزمنة، إنه فضاء الرواية إذن، واقع متخيّل ـ تكوين فني، يقوم برسم أبعاد النص السردي وإدامة فاعلية الشخصيات متجاوزًا ذاك المكان بواقعيته الثابتة أو حاضنته الصامتة التي استوعبت الأحداث وأنشطة الشخصيات، بحيث: يمكن القول بأنه يشكل المسار الذي يسلكه تجاه السرد. وهذا التلازم في العلاقة بين المكان والحدث هو الذي يعطي للرواية تماسكها وانسجامها ويقرر الاتجاه الذي يأخذه السرد لتشييد خطابه, ومن ثم يصبح التنظيم الدرامي للحدث هو إحدى المهام الرئيسية للمكان(2).

والفضاء الروائي تصنعه اللغة فهي أداة الذهن البشري ومرآته، بما تمتلكه من إمكانيات غير محدودة في تصوير كل ما هو مادي بصري، وفي التعبير عن مكنونات النفس البشرية، الحسية والانفعالية منها، وكذلك الحقائق والرموز المجردة، تصويرًا جماليًا مشحونًا بالمعاني، تترادف داخله الحقائق والخرافات التي تنبثق عنها الدلالات وفقا لنسقها في الفضاء الروائي، فينتقل كل ماهو واقع معيش الى فضاء الإبداع من خلال العلاقات القائمة على اللغة بين الذات الواصفة والمعبرة، الذات المبدعة ”المؤلف“، وبين الأحداث في أمكنتها والشخصيات الموصوفة او المعبَّر عنها، فاللغة في الأجناس الأدبية ليست كمًّا من الألفاظ، بل بما تنسجه من مجموعة معقدة من العلاقات بين مكونات وعناصر العمل الأدبي، وإن:

«كل لغة في الرواية هي وجهة نظر، هي أفق اجتماعي، إيدلوجي لمجموعات اجتماعية معينة وممثليها المجسدين».(3)

والمكان في رواية "خلية النحل"، فضاء ينتج قصصًا متساوقة مع فترة تاريخية محددة وبيئة اجتماعية مضطربة، مستوعبًا كلّ العناصر الروائية التي حددت رسمته ككل، بما فيها الحوادث والشخصيات، وعلاقاتها فيما بينها وبين الأمكنة المختلفة من مقاهٍ وبارات وفنادق للدعارة وبيوت، وشوارع لا تمكّن السائر "المخضرم" فيها من تجاوز حدود مدينته "خليته" بحيث أضحت مدينة "مدريد" بل قل اسبانيا، برمتها. تلك المدينة الصغيرة الضيقة، التي يستطيع أناسها سماع كل خبر ومعرفة وقائع كل حدث، بسرعة وخصوصًا الأحاديث المتعلقة السياسة، كاشفًا عن مدى التأثير المتبادل بين الشخصية والمكان من جهة، وتأثير الزمان كقوة مغيّرة أيضًا من جهة أخرى، وحرص الكاتب على البحث عن وفي أرواح تلك الأمكنة والشخصيات، بل هو من نفخ فيها الروح لتحيا في "كتاب"، وفقًا لرؤيته وسطوته على حركة شخصياته ومراقبتهم بعناية دقيقة جدًّا في وسط اجتماعي معين، وكأنه أراد ان تكون (مدريد - الخلية) هي (الفضاء - الهدف) من كتابة ووجود الرواية، فقد وثّق سيرة حياة مدينة، أغفلت الفنون والتاريخ والعلوم الإنسانية الأخرى الكثير من جوانبها، وظلت شاهدة على أحلام الشخصيات التي سحقها واقعها الفاسد بقسوة.

تمكن الكاتب بتشكيله لفضائه، أن يمنحه خصوصيته، من خلال تلازمه مع زمان محدد هو, منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، إبان حكم الجنرال فرانكو، وقد حدّد حركة الزمان في الرواية بثلاثة - أربعة أيام تقريبًا، وهي فسحة زمنية قصيرة تفاعلت مع ذلك الفضاء الروائي غير المقنن، فضاء يعج بمئات الشخصيات (346) شخصية، تنحدر من طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة، شريحةُ الفقراء ومنهم البرجوازية الصغيرة تتقارب وتتشابه في معاناتها، المعاناة من الجوع، والانغماس في اليأس تحت وطأة الفقر وكوابيس الخوف والملل، فجاء فضاءه منسجمًا تمامًا مع سمات شخصياته وانحدارهم الطبقي وانعكاس بنية النظام السياسي الفرانكوي عليهم، كاشفًا عن هشاشة العلاقات الاجتماعية ومنها الأسرية، وعلاقتهم بالماضي، بمعنى الموقف من الحرب الأهلية الإسبانية 1936 - 1939. وبرؤيته الواقعية المتفردة عن أقرانه من كتاب جيله، فقد وسم الكاتب فضاءه الروائي بمسميات أمكنته المختلفة متماثلة مع مظهرها الخارجي ومع حقيقة وجودها الفيزيائي نابعة من مرجعيتها الواقعية، مثل اسم المدينة الكبيرة "مدريد" وأحياءها والمدن المجاورة لها و الشوارع والمقاهي، الحانات والفنادق، أسماء صحف كانت تصدر ما قبل انتصار فرانكو، وكذلك إلى أحزاب كانت فاعلة آنذاك، والإشارة إلى أسماء شخصيات تاريخية معروفة تنتمي إلى ذات الفترة التي تعاينها أحداث الرواية وترتبط بها، إنه بذلك وظّف مكونات المكان المحسوسة والمعيشة فعلاً والرموز الاجتماعية من أجل خلق صورة بصرية بواسطة اللغة التي جعلت إدراك تلك المكونات ممكنًا، ومهّد للمتلقي أن ينسحب إلى هذا الفضاء المتخيّل بأجمله ويتعايش معه دون إدراكه لوهم التخيل وكأنه لن يقرأ كتابًا بل يعيش واقعه هو بكل جزئياته.

يقدم الروائي شخوصه باعتبارهم "وجهة نظر" أو موقفًا من الواقع، يقدمهم بطريقة التقديم المباشر الاخباري، تمامًا مثل مصور كاميرا للبث الحي "وثائقي" فالروائي يجلس في مقهى "دونيا روزا" وينقل للمتلقي، حركة مالكة المقهى "دونيا روزا" بين زبائنها، من طاولة إلى أخرى، لكل طاولة زبونها المخضرم، ومن كل طاولة تتسلل قصة محكية عن أولئك الزبائن "البقايا"، الناجون من فكي رحى الحرب الأهلية الإسبانية 1934 - 1936، لتطبق عليهم قبضة حكم فرانكو الحديدية, حين ذاك لم تتضح اسبانيا نظامًا ملكيًا ولا جمهوريًا، بل نظامًا فرانكويا، راح المنتصرون على أشلاء أحلام إسبانيا يفرضون هويتهم وفكرهم ممجدين أنفسهم ومشوهين كل ما يمت للمهزومين – الجمهوريين - بصلة ، سنّوا قوانينهم التي تحرم العمل السياسي ليبقى حزب "الفالانج" الذي أسسه فرانكو، هو الحزب الوحيد الحاكم بقيادة (الكوديللا، الكتائب) التي تعني الزعيم أو أب الأمة. فصار النظام هو مَن يضبط إيقاع السلوك والتفكير البشري، والقانون هو ما يسنّه ويفرضه قسرًا، كل ذلك أدى بالنتيجة إلى انهيار بنية الذات الإنسانية، بنظمها المجتمعية وقيمها الأخلاقية، وتراجع أحلامها إلى ظلمات السبات، حتى أمست "الخلية" مقبرة تتفسخ فيها الآمال الإنسانية قبل الأجساد البشرية، لم يعد للأفراد أية تصورات عن ما يردون أن يكونوا، في ظل غياب السعي الجدّي نحو الفاعلية الإنسانية والتضامن الجمعي من أجل التغيير، إنهم بلا رغبات محددة، سوى رغبة الحصول على لقمة العيش، كل شيء مرشحًا لأن يكون رغبة لديهم، يدورون في تلك الخلية - الدائرة المغلقة - وفقًا لروتين يومي من العبث والنزوع الى اللاجدوى وعدم اليقين، فتنتحر المبادئ والأخلاق، وتبرد المشاعر وتوهن العلاقات، إنها حياة الضعفاء بدون كرامة أنتجت أفكارًا خاملة مؤطرة بسلوكيات شخصيات بائسة يائسة، ليس لها القدرة على معاينة واقعها الصافن أو الردّ عليه أو تفسيره. أصبحت العلاقات الاجتماعية، الحب، الصداقة، العلاقات الأسرية، قيم المجتمع ككل كل ذاك أصبح "مجازًا" في واقع تخلّف عن سنيّ الحرب الأهلية، ولم تندمل بعد جراحها وتداعياتها إذ خلّفت النزوع إلى الجبن والخضوع، في ظل انقسام المجتمع الإسباني حول الموقف من المنتصر ومن الخاسر في تلك الحرب. ينعتُ أحد الزبائن الأغنياء عازفَ آلة الفيولين في المقهى بازدراءٍ لأنه ردّ عليه، بـ "الأحمر"، و تعني آنذاك إنه أحد المناوئين لنظام فرانكو أو إنه شيوعي، وينبغي أن يطرد من عمله مخاطبًا "دونيا روزا" صاحبة المقهى:

«إما إن تلقي بهذا الأحمر الخسيس الوقح في الشارع وإما فلن أطأ هذا المحل. عندئذ وضعت دونيا روزا العازف في الشارع .. » (الرواية ص47).

وهذا يفسر ما للأغنياء من سطوة على الكادحين وعلى قوتهم، فكلمتهم أمرٌ ينبغي تنفيذه أما الفقراء فلا ينبغي لهم إلاّ الخضوع والخنوع، مثلما هي سطوة "دونيا روزا" القاسية في تعاملها مع عمال وعازفي مقهاها، حتى تعدت قسوتها إلى إنها أمرت أحد عمالها برمي شاب خارجًا إلى الشارع لأنه لم يملك ثمن فنجان قهوة وإنها ستشعر بالبهجة والرضا حين يخبرها ذاك العامل إنه ركل "مارتين الشاب" بشكل جيد، كذلك يكشف مثل هذا السلوك وغيره عن عدم وجود أي تضامن اجتماعي مع المقهور والمضطهد والمستلب والفقير المعوز إلا ما ندر بصفته الفردية المحكومة بصلة رحم، كما ينم عن انقسام طبقي ومجتمعي بفعل التعصب الديني والقومي الذي كان النظام يوقظه وينمّيه في المجتمع وقد (أُستغل ذلك لتسوية الثأر الشخصي فالكل يبلغ السلطات ضد الكل باستخدام البلاغ الكيدي). أضف إلى ذلك النفاق الاجتماعي، وزيف التدين:

"تدين دونيا روزا" وحرصها على ارتياد الكنيسة أسبوعيًا. «..تذهب إلى صلاة الساعة السابعة كل الأيام، دونيا روزا تنام خلال الصلاة مغطاة بقميص من الصوف الرقيق» (الرواية ص346).

والرياء، والخضوع:

«القس الأب دي نافارتيو الذي كان صديقًا للجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا، توجه لزيارة الجنرال وركع بين يديه، وخاطبه في تضرع جنرالي أعف عن ولدي محبة بالله …. !» ( الرواية ص40).

والمهادنة السلبية: الشاعر الشاب مارتين ماركو وهو يتضرع اثناء تسكعه لخفير الشارع «لا أحمل هوية، تركتها في البيت، أنا كاتب واسمي مارتين ماركو … أساهم في صحيفة الحركة يمكن لحضراتكم السؤال ….» (الرواية ص261).

و«"الحركة" إشارة الى التجمع الشعبي الذي شكله الجنرال فرانكو، وحمل اسم الحركة الوطنية».

إن رواية خلية النحل، ماهي إلا تكتل من حكايات متناثرة على فصول الرواية السبعة إذا ما أضفنا الخاتمة إليها كفصل أخير، تنعكس عليها دورة أوقات زمن الأحداث، قصص متقطعة الأوصال، تنمو بشكل لقطات غير متتالية، فتتجاور مثل لوحات رسم تختلف بالشخصيات والأمكنة وبتنويعات الظل والضوء فيها، وتتزايد كلما أفاض الكاتب في تخليق المزيد من الشخصيات داخل فسيفساء "الخلية" الضيقة في حين بدا الزمن فيها ساكنًا حتى ليخاله المتلقي غير مدرَك أو وهمّ، فالكاتب هو من يمسك بخيوطه، وقد ترك الكاتب قصص شخصياته مفتوحة على أكثر من احتمال متكتمًا عن ما آلت إليه، وأناط للمتلقي دورًا في استنتاج خاتمة كل حكاية ومصائر الشخصيات: حيث بقيت علاقة "فيكتوريا" بحبيبها المسلول سائبة بين زياراتها له طريحًا في الفراش، وترددها على المبغى، كذلك وفاة العجوز "دونيا مارقوت" إن كانت وفاة طبيعية أم خنقًا بمنشفة، ومن هو الجاني. أيكون ابنها مثلاً؟. فيما بقي مصير "مارتين ماركو" مجهولاً، وهو يذرع الطرقات متأبطًا "الجريدة" التي نشرت خبر استدعاءه أو القبض عليه دون يطلع عليه.

إن الشخصية في أي عمل روائي هي من يبدأ المتلقي بمواجهته ومصاحبته منذ بدء سفر الحدث وحتى انتهاءه، باعتبارها هي من تتحلق حولها عناصر السرد الأخرى، وهي التي يُودِعها الكاتب رؤيته، فهو خالقها ومحركها، فيبقى نظر واهتمام المتلقي منصبًّا على الدور الذي يناط بالشخصية ومكانتها، من حيث سكونيتها وهامشية تأثيرها لتكون شخصية ثانوية، أو من حيث كونها شخصية دينامية مؤثرة وتمتاز بالتحول فترتقي إلى مستوى "الدور" الرئيسي في الرواية. لكن الأمر في هذه الرواية مختلف تمامًا فلا شخصية محورية رئيسية، لا بطل فيها، هي نموذج لرواية دون بطل، بل ببطولة جماعية، فالشخصيات ومن منظور حضورها وتأثيرها في الأحداث قد ساهمت في تشكيل وهندسة "الخلية" المكان و"الخلية الفضاء" ككل، إنها حقًّا – الرواية –، تقدم درسًا في مفهوم الشخصية وتطوره، وهو أسلوب درج عليه الكاتب في رواياته التي سبقت هذه الرواية مثل "عائلة باسكوال دوراتي" عام (1942) وهي روايته الأولى، و"لحن ماثوركا على ميتيّن" (1983)، لكنه عمد إلى رفع مستوى الأحداث حين جعل من شخصية مارتين ماركو ترتقي قريبة من صفة البطولة، حين منحها نَفَسًا أطول مقارنة بأنفاس الشخصيات الأخرى التي ما أن تظهر لتختفي وكأنها تكمل مهامًا قصيرة محددة لها سلفًا باستثناء "دونيا روزا" التي نافسته الحضور، فهما الشخصيتان، الثنائي، اللتان تظهران في جميع فصول الرواية منذ الفصل الأول، وأول ظهور له كانفي الفصل الأول بمقهى دونيا روزا من الرواية، حينها أشير إليه بصفة "السيد" وليس باسمه، كما يفعل الكاتب مع كل شخصياته، و يطرد ركلاً لعدم دفعه ثمن فنجان قهوة، وسيبقي على مر الأحداث حلقة الوصل مع عديد من شخصيات الرواية فهو أخ لـ"فيلو" التي تأويه وتطعمه "خلسة من زوجها بسبب فقرها المدقع، وعلى معرفة بـ"بنتورا اقوادو" في المبغى، وصديق "ناتي روبلس" منذ أيام الجامعة، وصديقًا لـ "بابلو الونسو" الذي يعمل في جريدة الحركة، و كان رفيقًا له أبان الحرب الاهلية ويأويه هو الآخر، ويعرف "ثلستينو" صاحب البار المعجب بـ "نيتشه" وكذلك "دونا جيسوسا" التي كانت صديقة لأمه وصاحبة مبغى، منحته غرفة لليلة واحدة من ليالي الرواية الأربعة، وشخصيات عديدة أخرى، إلا أن كل هذا لا يفرضه على الرواية أو على المتلقي معًا، كشخصية محورية بالرغم من أهميته. بل إن "الخلية، مدريد، المدينة، إسبانيا" ما انفكت تطن ليل نهار بصوتها الجنائزي الذي لا يماثله أي صوت من أصوات قاطنيها إنما هو مجموع أصوات أولئك "النحل" فباتت هي الشخصية المحورية في الرواية هذه، وإن استحقت شخصية مارتين ماركو من المتلقي الاهتمام الأكبر في سعيه إليها، فليس بسبب من حضورها المتواصل حسب، بل لأنها شخصية مغايرة مختلفة، ولأنه صورة فكرية مصغرة لمثقف وشاعر، عايش الحرب منتميًا إلى اتحاد الطلبة التقدمي في الجامعة وقاتل إلى جانب الجمهوريين، مؤمنًا بالمساواة وبالعدالة الاجتماعية. "مارتين ماركو" مرّ بأطوار حياتية معقدة من الاضطراب والقلق والضياع والصراع النفسي ليصبح شخصية بوهيمية متسكعة في شوارع مدريد، فضلاً أن الكاتب أسبغ عليه الرزانة والاحترام رغم فقره وهيئته المهلهلة، فمارتين ماركو نجا من لذوعية ”لسان خالقه، كاميلو خوسيه ثيلا” وتهكمه، وسخريته، إن شخصيته تنمو متناقضة مع شخصية "دونيا روزا" المتخمة بالجشع وحب المال، وضخامة الجسد، والبلادة، والنفاق، فضلاً عن أن الكاتب نأى بنفسه عنه على عكس دونيا روزا تلك التي لم تتحرر من ربقته، وخلّصه من سطوته عليه فأتيحت له فرصة التعبير عن ما ينوء به من أثقال ذكرى الحرب ومن انعكاس نتائجها عليه لأنه هو الخاسر والمهزوم فيها، فمنحه فسحة للبوح عن ما بقي مكتومًا في أعماقه بصدق، بألم، بتهالك، بجبن المهادن، بخوف هيستيري، من خلال مويجات مضطربة لمونولوج مهموس يضجّ في الشوارع والأزقة، يبدد صمتها، حين لم يكن ليُرفع صوتٌ فيها، وبذا يمدّ فضاء الرواية بنسغ تعبيري مغاير لما ألفه المتلقي في – السرد – متحررًا من الأسلوب التقريري والإخبار: «الشرطي كان رجلاً طيبًا. هذه هي الحقيقة، طلب مني بطاقة إثبات الشخصية تحت ضوء فانوس وهذا- كما هو معروف - من أجل ألا يخيفني … كانت له سن ذهبية و … » (الرواية ص 267).

يبدأ بالتفكير بسرعة:

«خي ، خي! أنا لا أتورط في شيء؟ في شيء! ماذا يمكنهم أن يصنعوا ضدي إذا لم أكن أتورط في شيء؟ .. أي عم أنت يا سلام على السن الذهبية! لماذا أخاف أنا؟ لا نكسب شيئًا من الفزع، فجأة ثاس! سن من ذهب قف، أوراقك؟ ليست معي أوراق، خي، خي! وأيضًا ليس لي سن من ذهب، أنا مارتين ماركو بسن من ذهب وبدون سن من ذهب خي، خي .. في هذا البلد، نحن الكتاب لا يعرفنا أحد، باكو، أي، لو لباكو سن من ذهب، خي ، خي، نعم تعاوَن، تعاوَن، لا تكن أبله، لسوف تدرك في النهاية….. » (الرواية ص 264).

«يشير الكاتب هنا إلى أن باكو صديقه طلب منه أن يتعاون مع الحركة الوطنية لمناصرة حكومة فرانكو ونظامه لعله يجد حلاً لمشكلة الجوع والتشرد، الأمر الذي لم يتحقق» هامش للمترجم.

ومارتين ماركو الخارج من جحيم وظلام الحرب ليدخل قبر "خلية" نظام الفاشيست، يتسكع في "طرق ضالة" - العنوان الثاني للرواية - وحيدًا ، حاملاً جريدة في جيبه، تلك الجريدة التي نشرت إعلانًا للقبض عليه أو استدعاءًا قضائيًا بالاسم، لأنه قاتل إلى جانب الجمهوريين خلال سني الحرب الأهلية، دون أن يقع بصره على موضوع الإعلان، يبحث المقربون والأصدقاء عنه، أحيانًا خوفًا عليه وحيانًا يتوجسون خيفة من أن يلحقهم أذى السلطة هم أيضًا بسبب علاقتهم به، ليبقى هو الوحيد الذي لم يعلم بالأمر، بل كان قد أجّل قراءة صفحات الإعلانات لوقت آخر من أجل البحث عن عم !: «عندما أكون قد تسلمت العمل وكسبت شيئًا من المال فإنني سوف أشتري بعض الحلي لفيلو، والبعض الآخر لبوريتا ..» (الرواية ص 365).

وكأن تلك أخريات الأمنيات والأحلام والآمال التي قد أفلتت من تحت أقدام النظام، أوهي ما تبقى من مقاتل خسر الحرب، ومن شاعر ومثقف استلب حقه في حياة كريمة وآمنة.

وأصبح الحصول على العمل يعني إنه يستطيع يأكل فقط: «الذي أريده هو أن آكل ! آكل! هل أتكلم باللاتيني فلا تفهمون خي, اسمع ركّب لي سن من ذهب هنا، كل العالم يفهون الأمر، خي! خي! كل العالم آكل إيه؟ آكل من يشتري لي علبة سجاير كاملة فلا أدخن أعقاب الدابة إيه؟ هذا العلم نجس..» (الرواية ص265).

ولكنه مع كل ذلك استطاع أن يحصل لنفسه على فسحة من واقعه غير المؤتلف معه، أن يستحوذ على حيز ضئيل من محرماته عليه، من مثل هواء طلق، ثم الانطواء في داخل عالمه الأنوي فيدرك الآن:

«إن الحياة مع الخروج قليلاً إلى الهواء الطلق للتنفس – تأخذ أصباغًا أكثر نضارة، أكثر رفاهة من العيش غرقًا في المدينة»! (الرواية ص364).

تبقى الرواية أطروحة مدهشة، سجل الكاتب كاميلو خوسيه ثيلا إنجازه الأبرز فيها، وذلك من خلال قدرته على التحرر من الاتساق اللغوية الإنشائية مبتعدًا عن الأسلوب التقليدي في السرد الروائي، ومستثمرًا بدراية فذة إمكانيات السرد بأسلوب ضمير المتكلم "الراوي كلي العلم" بما تفكر به شخصياته وتحلم وتشعر، يعرف تاريخها ومصائرها ويتبين ذلك في دقة البيانات الشخصية التي يقرنها الراوي بكل شخصية، وهذا ما جعل الرواية تتسم بتقنية سرد واحدة، ساهمت في رص بنية السرد ومتسامية به إلى صيغة أكثر عمقًا وتطورًا وفاعلية وقدرة على تماسك بنية الرواية، فضلاً عن مسرحة الأمكنة على صغرها فهي تتسع، تنبض بحركة الحياة، وتكشف بجسارة الحالات الشعورية للشخصيات وتساهم في التغيرات التي تطرأ عليها، راحت الأحداث تنساب بحرية تامة بعيدًا عن "مطبات" النظريات، انه لجوء الخبير ودربته إلى واقعية التشخيص الفني والجمالي بعيدًا عن الانثيالات الذهنية والترميز، ما أهّل بنية هذه الرواية لان تتبوأ قمة في التفرد حيث أصبحت بحق نقطة بداية التحول في السرد الإسباني والرواية التجريبية الحديثة أو الرواية في أمريكا اللاتينية خصوصًا، بعدما تم نشرها في الأرجنتين عام 1951 : «إن ظهور هذه الرواية كان من حسن حظ "الروائيين الجنوب أمريكيين، لقد تحولت إلى مدرسة، حتى إنني أرى تأثيرها الكبير في روايات هذه القارة القصاصة، لقد سبق لي ترجمة رواية مائة عام من العزلة، وهي ابنة شرعية، بمفهوم ما للبنوة الأدبية الخلاقة - لرواية خلية النحل» (من مقدمة مترجم الرواية ص35).

 

الهوامش:

* رواية خلية النحل - آفاق للنشر والتوزيع القاهرة – ط1 – 2017 – ترجمة د. سليمان العطار.

1 - غاستون باشلار- جماليات المكان - ترجمة غالب هلسا – المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر ص39.

2 - أهمية المكان في النص الروائي – ”مقالة” آسية البوعلي- أكاديمية من سلطنة عمان موقع نزوى الالكتروني.

http ://www.nizwa.com/

3 - ميخائيل باختين الكلمة في الرواية ترجمة يوسف حلاق ص215.

ملاحظة: العبارات التي وردت بين قوسين من مقدمة المترجم نصًّا.


عدد القراء: 6172

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-