رواية «الذباب والزمرد» من رثاء ذات إلى مرثاة وطنالباب: مقالات الكتاب
غازي سلمان العراق – بغداد |
الكتاب: "الذباب والزمرد"
المؤلف: عبدالكريم العبيدي
الناشر: دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع - 2011
إن أهمية دور الراوي في الفن الروائي والقصصي تُعد تواصلاً مع دوره التاريخي والريادي في مهمة "الحكي" حين كان يمارس وظيفته تلك بصيغة شفهية على جمهور في زمان ومكان معلومين، وقد وظف الأدب السردي ذلك الدور باعتبار الراوي أحد مكونات بنيته الرئيسية، من خلال اللغة المكتوبة في زمن ومكان معلومين أيضًا، ما أدى إلى خلق المعنى بصيغ مغايرة متقدمة وبهذا حدث هنا تحول في دور الراوي وعلاقته بالمؤلف، إذ أصبح دوره وعلاقته بالنص السردي قابلين للبحث والتفسير العقلي المنطقي والفني، بسبب تطور وعي المتلقي وذائقته في العصر الحديث وتطلعه إلى الابتعاد عن الخرافة وإلى الكشف عن كُنه العلاقة بين الزمان "المتحرك" وبين المكان الثابت نسبيًا وكلاهما أحد أهم عناصر الأدب الروائي والقصصي.
ولأن الراوي، كما اعتبره "بيرسي لوبوك": «الشخصية الحساسة في القصة والتي تتمحور حوله، ليس ذاتياً تماماً، فقد كُرس كلياً لمهمة النظر والشعور نيابة عن القارئ».(1)
فإن المروي وهو مجمل النص السردي يكون ثاني أحد المكونات، أما ثالثهما فهو "المروي له" وهو "المتلقي" الذي يستوعب "المرويَّ – النصَّ" بما يترشّح لديه من ذلك النص من معان ودلالات وتأويلات، ومواقف سواء تضمنتها رؤية الكاتب أو لم تتضمنها، فتنتج مشتركات مفاهيمية ومعرفية بين النص والمتلقي المؤلف "الراوي".
الذي سيكون في مواجهة المروي له منذ الوهلة الأولى للسرد، إذا كان راويًا حسب، أو شخصية مشاركة في أحداث العمل الروائي لما له من تأثير في سرد الأحداث بصبغة نزعته الذاتية و: «بصلته الحية بذات الكاتب لهذا يمنح الرواية بعدًا فنيًا وتواصلاً واضحًا يبغي الكاتب منه ضرورة خلق الموازنة بينه وبين ضمير الغائب أو تعبيرًا عن سيادة الصوت الواحد، صوت الراوي المتكلم وهو يسهم في تفجير الأحداث أو روايتها وترتيبها».(2)
ويتوزع دور "الراوي" في العمل السردي الواحد على أربعة أنماط من الضمائر مختلفة طبقًا لتأثيره ووفقًا لـ "زاوية رؤيته" في عملية السرد، المرسومين له من قبل الكاتب خالق النص وخالقه أيضًا:
1. ضمير الغائب: وهو تقنية سرد قديمة يرجع استخدامه إلى الملحمة، وسارده كلي العلم والمعرفة، فيما يخص الشخوص والحوادث والأمكنة و: «يكاد أن يكون سيد الضمائر السردية، وأكثرها تداولاً وأيسرها استقبالاً بين المتلقين، وأدناها إلى الفهم لدى المتلقين والأشيع استخدامًا، وقد يكون استعماله شاع بين السّراد الشفويين ثم بين السّراد الكتاب آخرًا»(3).
2. ضمير المتكلم: إنه راوي الأحداث، لكنه ليس البطل تمامًا بل يوهم به، ذلك أن الراوي هو مَنْ يتكلم في زمن حاضر عن بطل كأنه هو الراوي و: «لضمير المتكلم القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعًا إذ أن كثيرًا مما يستحيل السارد نفسه في هذه الحال إلى شخصية، كثيرًا ما تكون مركزية»(4)
«وكأن هذا الضمير يأتي استعماله وسيطًا بين ضميري الغائب والمتكلم، فإذا لا هو يحيل على خارج قطعًا، ولا هو يحيل على داخل حتمًا، ولكنه يقع بين بين: يتنازعه الغياب المجسد في ضمير الغائب ويتجاذبه الحضور الشهودي الماثل في ضمير المتكلم».(5)
غير أن سطوة الراوي على مسارات السرد مستأثرًا بالمعرفة الكلية، باعتباره الراوي الأوحد، سواء أكان بضمير المتكلم الحاضر أو بضمير الغائب، ستختزل الأصوات الأخرى داخل النص ويجيرها الكاتب وفقًا لرؤيته، إلا إنه يمكن للكاتب من أن يحدَّ من سطوة راويهِ من خلال تدعيم النص بأصوات مشارِكة أخرى في مهمة الروي وفي إدارة الأحداث، ليحتفظ بمسافة ملائمة ما بينه وبين ما يرويه، وبهذا فإن نسبةُ تدخله تُوضّح هويتَه الفنية. فاختلاف نبرات اللغة المعبرة عن نوازع ومزايا – الأصوات الأخرى – الشخوص المختلفين طبقيًا وثقافيًا داخل النص الروائي خلال عملية السرد، يمنح أولئك القدرة على التعبير عن أنفسهم والتحليق في فضاء الرواية مغردين بأصوات تبدو مغايرة، بالرغم من إنها مقترنة بالكاتب عينه. ومع ذلك ينبغي التفريق بين الروائي الكاتب الخالق لعوالم السرد وبين شخوصه بما فيهم "الراوي" الذي اختاره هو ليُنيب عنه كصيغةٍ لسرد النص فحسب، أو أن يكون "الأنا" الرديفة له. إن تماهى صوته معه في النص وتطابق.
وربما تحيلنا شخصية الراوي في رواية (الذباب والزمرد) للكاتب عبدالكريم العبيديSS، على شخصية الكاتب نفسه وتوهم بها، وقد جاء السرد وفق صيغة ضمير المتكلم بصوت شخصية محورية غفلا من الاسم، لكن المتلقي سيمكنه التعرف عليه كمجموعة من صفات شخصية ما يمنحه فرصة المقارنة والمقاربة بينهما، فهو "الراوي" حاضر داخل المتن الروائي، ولقد منح التداخل المنظور بين "الأنا الراوية" وبين الأنا الكاتبة "النصَّ تفاعلاً حيويًا بينهما من حيث تداخل الخطاب السردي والتباس تحديد وجهة النظر فيما بينهما، من هنا فإن رَويه ليس إلا استبطان لذاته ويشي بشيء من ملامح أتوبيوغرافية، ذلك إن "أنا الراوي" تلك ما انفكت حاضرة طيلة مسار السرد، تروي الأحداث وفق سطوة رؤيتها، تزيح ركامًا بعد أخر عن كاهله، وتعريه، تفضح نواياه، وتطلعاته إلى عالم أفضل وأنظف، تكشف عن حدود تصوراته، جَلَده، ضعفه، استلابه وإحباطه، تردده وعدم يقينه من أي أمر، وكذلك عبثيته التي تترجمها مواقفه من مما دار حوله في فترة التسعينيات من القرن الماضي المريرة، دون أن تتوقف عند عتبة السرد بل أبقت "الراوي" مساهمًا مركزيًا في لبنات بنيتها النصية فـ: «بالرغم من أن الراوية غير مرئي للقارئ كما هي حال الآخرين، فإنه في كل لحظة أقرب منهم بطاقته في العين الباصرة، وامتداد النظر وهو لا يستطيع أيضًا أن يرجئ مهمته، فعليه أن يستمر بثبات في النظر والوصف».(6)
استمر الراوي حريصًا على "نزف" منولوجه الداخلي بصيغتيه المباشرة وغير المباشرة بغية الولوج عميقًا في ذاته هو، وفي ذوات شخوص الرواية الآخرين بالرغم من تنوع أفكارهم ومواقفهم وأديانهم، متنقلاً بسلاسة من شخصية وحدث متعلق بها إلى شخصية أخرى بحدث مختلف ثم العودة إلى هذي وتلك بعد فوات سرد طويل دون أن يلحظ المتلقي أية هوة فاصلة أو تقطع أو عدم ترابط في الأزمنة والأمكنة، ولأن السارد الراوي ظلّ مصاحبًا لشخوصه مستقطبًا لهم وكشخصية محورية فيه "داخل النص"، فهو لا يستبق التعريف بهم أو بالحدث المتعلق بهم قبل أن تصل كل شخصية بذاتها إلى دائرة ضوئه، فبدا الكاتب عبدالكريم العبيدي ذو دربة ودراية في فن الراوية، ومعرفة بتاريخ الأمكنة والحوادث في بيئته البصرية والتي أغفلت علوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع وغيرها تدوينها وتفسيرها، موظفًا كل ذاك في بنيته السردية دون أن ينحو إلى تجميل ماضيه أو ماضيهم، بل راح يعريه، ويعيد استكشافه ويقدمه بصدق كما كان، لا كما ينبغي أن يكون، مستثمرًا جمالية اللغة الاستعارية ودلالاتها النفسية والفولكلورية والإيديولوجية، وما اكتنزته تلك اللغة من إيقاع ينظم العلاقة بين السياق اللغوي والحدث المروي، ناهيك عن قدرة على الإيحاء والتوصيف وإعادة تشكيل صور الأمكنة والتعبير عن الحالات الشعورية للشخوص، الأمر الذي أبرز تنوع في اسلوب السرد، كما عمَد الكاتب إلى اختزال الجمل المكتنزة بالموسيقى في توصيف الصور المرئية والمشاعر متسقة على حد سواء مع الأحداث، وراح يحلّق بقارئه في فضاءات شعرية فـ"النثر يطير ولكن الشعر يحلق عاليًا" كما قالها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف: «يأتي المساء إلى هناك هرمًا قبيحًا، يتوكأ على عكاز يتلمس له الوحشة والضجر كي يقشطهما بخبث عن كل أماسي مدن الدنيا وينثرهما على رؤوسنا..» الرواية ص67.
لقد وسم الكاتب نصه بمسميات أمكنته المختلفة متماثلة مع مظهرها الخارجي ومع حقيقة وجودها الفيزيائي نابعة من مرجعيتها الواقعية، مثل اسم المدينة الكبيرة "البصرة" وأحياءها والشوارع والمقاهي، أسماء باعتها في أسواقها الشهيرة وأثراها بالميثولوجيا (بما ضمّنه عن حجر الزمرد) والفولكلور بتضمينه (بشارة أول نضوج التمر) مثلاً، وباستذكاره الشخصيات البصرية البسيطة الممتهنة لمهن معينة أو لصفاتها الشخصية الخارجة عن المألوف، فأضحى لهم حضورًا شعبيًا في ذاكرة المجتمع البصري وجزءًا من نسيجه المجتمعي من مثل "ياشنكر لال الهندي، وكاظم أبو الباصورك وزرزور أبو الحب ومالو الأطرش وجاسم أبو السفرطاس وتومان العبد"، وببعض من مواطنيها اليهود بأسمائهم الحقيقية الذين كانوا مؤثرين في الحياة الاجتماعية والحكومية قبل تهجيرهم إبان فترة الحكم الملكي في العراق، ولهذا كله غدا المكان المقترن بعناصر السرد الأخرى أكثر اتساعًا وشمولاً، ليتخلق منه فضاء الرواية، الواقع الروائي – التكوين الفني – الذي رسم أبعاد وهوية النص وأدام فاعلية الشخوص، متجاوزًا ذلك المكان بواقعيته الثابتة أو حاضنته الصامتة التي استوعبت الأحداث وأنشطة شخوصها، فـ:«إن البنية الاجتماعية تخلق تماثلاً بينها وبين شكل النص الأدبي الممثل لها، لكونه تعبيرًا عن رؤيتها وهي بهذا المفهوم تستعين به كوسيلة للاتصال أولاً وكصنف سردي يمتلك بلاغيته وأسلوبه عن طريق العرض والوصف والاحتجاج».(7)
استهل الكاتب روايته بوصف لعبة الصبيان "الشرطي والحرامية"، يكسب الشرطة العدد الأكثر فيما يتقلص عدد "الحرامية" في مجموعتهم، وفي النوبة التالية حدث العكس، زاد عدد "الحرامية" بمقابل شرطيين معاقين! فقط، وهو استهلال يشي عن سعيه إلى نسج شرانق بنية الفشل والإحباط تكشفت عنها رؤيته، بتعبيره الواقعي التراجيدي والمتهكم لتلك الحقبة الزمنية من تاريخنا تحت نير نظام البعث الفاشي، ألا أن لا أمل يمكن أن يرتجى بعدُ، خصوصًا حين تزامن مشهد اللعبة في النوبة الثانية، مع فشله وهو العاطل عن العمل في مشروع عمل اقترحه عليه صديقه "ازيريه المسيحي الشماس"، لزراعة الزهور في علب فارغة جمعها من المزابل ومن ثم بيعها، وتزامن ذلك أيضًا، مع أحداث غزو الكويت ثم هزيمة النظام بانكسار الجيش العراقي وإذلاله في معركة غير متكافئة مع قوات التحالف الدولي آنذاك، وإذ لاح بصيص من أملٍ في انتفاضة شباط عام 1991 حتى أخمدها النظام أمام أنظار من أصبحوا أعداءه بعد غزو الكويت وبمباركتهم، فخبا ذاك الأمل البصيص أيضًا في لجة الخيبات المتتالية، ليبقى الشعب جائعًا بفعل الحصار الدولي عليه، أعزلاً، وحيدًا بلا مناصر، يجابه وحشية ودموية نظام فاشي استقوى عليه، وأمعن فيه وفي قواه السياسية ونخب كبيرة من شريحة المثقفين آنذاك، قتلاً وتشريدًا، فكان أن شقَّ في جسد أرضنا أفواهًا وأفواه لتبتلع آلافًا من العراقيين تحت أديمها بمقابر جماعية، وكأن الراوي، أو الكاتب نفسه، أراد أن يشير بأن الجوع والاستبداد والقهر والإخفاق والزيف بإمكانها أن تمسخ الناس وتحيلهم إلى ذباب في مواجهة (بلورة الزمرد) :«وها أنا يا ازيريه في أتون الحصار أعاصر السموم واليورانيوم والسرطانات والتشوهات الخلقية وأشهر هجرة إلى بلاد المهجر، أنا ابن مفردات الحصة التموينية الشحيحة، أنا خطية يا ازيريه مزقتني الحروب والسواتر وعيون القتلى…» الرواية ص11
إن تلك الأحداث بكل قسوتها التي ما انفكت تتفاعل فيما بعضها لتنتج، غيلانًا مطيعة بأيدي غول السلطة، والانتهازيين والقتلة، وتنتج من هو قادر على المجابهة والرفض، أو مَن يصمت رافضًا، تنتج المهادن، والخانع أيضًا، تلك هي ذات المواقف التي استطاع الكاتب تحريرها من شراك أزمنة القهر والإذلال، وخص بها أبطال روايته.
وبما أن "الشخصية" هي إحدى مكونات العمل الروائي الرئيسية، تتكشف صورتها وتتعين من خلال دورها المرسوم لها وتضافره مع مكونات الرواية الأخرى ومن حيث: «لا يمكن تحديد صورة الشخصية باعتبارها مكونًا واستخلاص سماتها إلا بوضعها ضمن سياقها الجمالي والأسلوبي وذلك بضبط قواعدها الفنية التي تستند إليها الصورة الروائية بصفة عامة».(8)
فإن الكاتب عبدالكريم العبيدي تمكن من بناء كل شخصية من شخوص روايته على كثرتهم، بناءًا مختلفًا عن الأخرى متمثلاً الفروق الفردية لهم كذوات إنسانية وآخذًا بنظر الاعتبار الانتماء الطبقي والديني وتشكلات الوعي والثقافة لكل شخصية متعاملاً معهم ككائنات حية، ذلك إن- العمق الإنساني لأي شخص هو الذي يحدد ملامح هويته.
إن شخوص الرواية ككل كانوا قد جايلوا عمر النظام الديكتاتوري وحروبه العبثية، واستبداده، هم نماذج من جيل التجويع والاستلاب عايشوا الخوف والتوجس من الاقتراب من "بلورة الزمرد" التي بين يدي "نيرون العراق". لكل منهم قيمه النبيلة، ولكل موقفه المختلف من النظام السياسي الحاكم، ولكنهم يتماثلون في موقف عدم الرضا منه ورفضه، وعدم إمكانية التصالح معه. فالراوي شخصية مثقفة، بقيمها النبيلة التي (كما يشعر) لا يمكنها التعايش مع واقعها ولا تقوى على تغييره، واقعه الذي خَبره جيدًا، والذي ينعته بـ "البالوعة"، لكنه يعاين-ها- باستهجان وقرف، دون ان يستشرف أي أفق في المستقبل، إنه الذات الضائعة في ركام هائل من خراب الوطن والنفوس على حد سواء: ..«كل قوارب نجاتنا مازالت مشغولة بالصدمة، والنهر يجري سريعًا يا ازيريه، والضفة الأخرى تبدو بعيدة، بعيدة جدًا» الرواية ص11
فكانت حلقات "السُكْر" مع أصدقاءه في مقبرة اليهود وشقة "بشير التمار" البرجوازي الثوري"والتسكع هي أوجه الهروب والهزيمة واللواذ بالصمت، إنه يرى في أقرانه من الأصدقاء حقيقة ضعفه وضياعه ولا جدواه، لكن موقف كل من "سليمان الموسوعي" أستاذ مادة التاريخ الذي أودى به إلى الإعدام حين هدر صوته ليزيح عنه ثقال صمته فيهين "مخبرًا تافهًا" للسلطة برمي ساعته إلى الشارع رافضًا تصليحها، وتصليح الساعات عمل أرغمته عليه ظروفه المعيشية إبان سنوات الحصار الاقتصادي على العراق، وكذلك موقف "بشير التمار" الذي كان يؤسس لحزب معاد لنظام الحكم وصلابته "الثورية" وهو يواجه الإعدام مرفوع الرأس أمام جلاديه، هذين الموقفين يُشعرا الراوي بالغبطة وبشيء من قوة على نزرها لكنها كحبات رمل وليست حصى نثرت في بحيرة رفضه فبقيت ساكنة أيضًا: «يالبؤسي يا سليمان أشعر أنني أقف بين نارين لا تتهادنان: حرائقك التي بلا دخان كحرائق باصورا ونيران بشير التمار، ولكن تبقى بينهما فاتورة تزداد مما يجعل اشتياقي في ذلك البعد المطاط ينشطر إلى حنينين مشلولين لا نبض لهما، عدا ما أدركه فيكما من وجود محسوس يصد انجذابي العاثر إليكما ويشعرني بالغثيان». الرواية ص 66
وبطلنا الراوي كان قد اعتقل مع "بشير التمار" وهو من عائلة برجوازية مترفة، و"شفيق" اليهودي النسب من جدته لأمه الذي كان يحلم بالعيش في إسرائيل و"داود" اليهودي أيضًا الذي "سمعنا به ولم نره" فبقي من الشخوص الهامشيين في الرواية، و"أوسم" المصاب بـ (انتي نوستالجيا) أي (عدم حب الوطن أو مسقط الرأس)، شقيق "ازيريه الشماس" الذي أعدم قبله.
"اوسم" هذا الحالم بالهجرة إلى أوروبا، الشاعر شديد الحساسية، والعاشق الوحيد بينهم فقد ارتبط بقصة حب مع فتاة تركته لأنه شاعر ليس إلا: «كيف لي أن اقترن بشاعر بوهيمي صعلوك لا وطن له عدا الجملة الشعرية» الرواية ص13
"اوسم" هو الشخصية المحورية الثانية إلى جانب "الراوي" الذين هيمنا على حبكة الرواية وكان لهما الدور الأبرز في بلورة ثيمتها، وهما فقط الذين نجيا من الإعدام حيث أُفرج عنهما، وظلا يعانيان طويلاً من آثار التعذيب الوحشي الجسدي والنفسي في سجون النظام الرهيبة، فبرأ "الراوي" منها فيما بقي "اوسم" يصارع مرض الكآبة الحادة وانفصام الشخصية ما زاد من أعراض الانتي نوستالجيا فانتحر في لحظة دون صراع من أجل البقاء، دون ندم على اختيار الموت. فهو «كمن قدم من أقصى الحياة إلى أقصى الموت، طردته الماسحات المطاطية إلى تلك المنطقة الضيقة والمغبرة التي لا تطالها فلم يعد بنظره أي شيء يستحق التقديس أو العبادة..» الرواية ص12
إنه الشخصية التي ميزها الكاتب بصوت "راويه" على مدار السرد، فقد غاص عميقًا في بحيرة روحها، ولم يكتف بالدوران حولها، أحسبُ إنه كان يتمرّى ذاته في مياه بحيرة "أوسم"، فيكشف تلاطم رعبه المخبوء تحت كثافة الصمت، يعايش وطنه الآخر البديل الغافي في جرح لم يستطع جسده النحيل أن يرممه مثل كل جروح الطعنات، عشقه لـ"ليديا" الذي أخفاه طويلاً، وما أكثر ما اخفى "اوسم" -الشخصية الجميلة المحببة – باستثناء شعلة "الانتي نوستالجيا" التي جاهر بها وكأنه (برموثيوس البصرة) كما وصفها الراوي، إلاّ انه يستبق العلم بنهايتها، بما يعنيه الموت لها قبل انتحارها :«لقد كتب على هذا الفتى الضال أن يحيى في موته أو يموت زاعمًا إنه حي» الرواية ص 16
ويستكمل الراوي سفره في دواخل صنوه المضطربة حين انتفاض "اوسم" راقصًا وقد ادرك تنكر "ليديا" حبيبته له أمام الجميع في حفلٍ عائلي، رقصة تقترب في تعبيريتها من رقصة زوربا في رواية "نيكوس كازانتزاكي" التي جسّد موسيقاها الموسيقار اليوناني "ميكيس ثيوذوراكيس" في الفيلم عن الرواية، وغدت إحدى الرقصات الفلولكورية اليونانية، فتمكن مبدعنا عبدالكريم العبيدي بجدارة من توصيف حركات جسد "اوسم" وارتعاشاته وهي تمظهر الألم الذي ينزّ نزًا بسبب تقادم مشاعر الخذلان والخسارات، والتيه، كان "اوسم" يرغب في ان يستعرض صحوة أوجاعه أمام "ليديا" فهي عالم آخر قد رفضه، ولأنه أدرك أن الرقص لغة الروح لا يدركها إلاّ جسده وحده و – كما أن الرقص هو تعبير الفكر فإن الجنون هو تعبير الثورة – و: «من لم يكن مجنونًا فلن يستطيع أن يقطع الحبل لكي يصبح حرًا» "رواية زوربا".
حين يضع "اوسم" حدًّا لاستمرار رقصته، حياته، معلنًا موقفه من قيود المواطنة ومن الحياة سوية، يكون الراوي قد أكمل الانسلال من بحيرة تلك الروح بعدما جفت، متمسكًا باللاشيء، خفيفًا من أية إثقال للماضي، يشعر بخزي استئثاره بالحياة! لأنه الناجي الوحيد، لأنه تخلص من كل قيود البقاء مصارعًا في حلبة (قلب الأشياء) تلك الحلبة التي قص علينا فيها نهاية مصائر أبطاله، مصير وطن: «سأحتفل ألان بشفائي من عقوبة المواطنة الصالحة، أو ما أطلق عليها عقوبة عشق البلاد.. بلادي التي أكرمتني القميص» الرواية ص149
و( بلادي التي اكرمتني القميص) جملة شعرية للشاعر الراحل لطيف الراشد: «الذي كان شاعرًا مهمًا وإنسانًا عاش في المساحة التي لا تطالها الماسحات المطاطية المتأرجحة على زجاج السارات الأمامية، عاش ميتًا، إلا من حلم واهن، ومات بهدوء بارد، أبرد من أف قصيرة». (9)
تلك المقالة التي كتبها الروائي بحق الشاعر "لطيف الراشد" قد ظننتها قيلت في حق "اوسم"!! رثاءً.
*رواية الذباب والزمرد للكاتب عبدالكريم العبيدي – دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع- 2011.
المؤلف:
** عبد الكريم العبيدي، روائي وإعلامي عراقي حصل على بكلوريوس كلية الآداب - قسم اللغة العربية من جامعة البصرة 1984. ساهم في تأسيس الكثير من الصحف العراقية حصل على العديد من الجوائز في مجال الصحافة منها الجائزة الثانية في مهرجان الصحافة العراقية الاول، والمرتبة الأولى من معهد صحافة الحرب والسلام وعلى شهادة تقديرية من دار شرق غرب، عمل مراسلاً لإذاعة البي بي سي في بغداد، وعمل أيضًا في الإعلام المرئي كقناة الحرة والحرة عراق... الآن يشرف على الصفحة الثقافية في جريدة طريق الشعب.
صدرت له روايات: (ضياع في حفر الباطن) 2007، (الذباب والزمرد) 2009، (كم أكره القرن العشرين)2017، ومجموعة قصصية (ثمانية أعوام في باصورا). فاز بجائزة "كتارا" للرواية العربية 2018، عن روايته (اللحية الأمريكية – معزوفة سقوط بغداد) والتي اقتنصت جائزة كتارا من بين "596" رواية مشاركة.
المصادر:
1 - بيرسي لوبوك: صنعة الرواية. ترجمة: عبدالستار جواد؛ دار الرشيد؛ سلسلة الكتب المترجمة؛ 1981، ص 231
2 - د. قيس كاظم الجنابي- الرواية العراقية المعاصرة أنماط ومقاربات. منشورات اتحاد الكتاب العرب. دمشق 2012- ص 62
3 - د. عبدالملك مرتاض في نظرية الرواية. سلسلة عالم المعرفة 1998. الكويت ص153
4 - د. عبدالملك مرتاض المرجع السابق ص159
5 - المصدر السابق ص163
6 - بيرسي لوبوك، صنعة الراوية ص232
7 - دانيال تشاندلدر – أسس السيميائية. ت. د طلال وهبة – ط1 – المنظمة العربية للترجمة 2008.
8 - دكتور جميل حمداوي. العبث الوجودي في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ – مقالة –
http://bac015.blogspot.com/2015/01/blog-post_17.html
9 - عبدالكريم العبيدي . أنا و"وعبد اللطيف الراشد" في علبة سردين. مقالة منشورة في جردة طريق الشعب
http://www.iraqicp.com/index.php/sections/literature/38731-2016-01-30-19-40-52
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- سيرة حياة المكان في رواية «خلية النحل» للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا
- واقعية الخيال روايـة الـعـطر «ذاكرة الدعاية النازية»
- رواية «الذباب والزمرد» من رثاء ذات إلى مرثاة وطن
- ما يتبقى من الحرب: الحكاية والموقف في (رواية لحن ماثوركا على ميتّين)
- استعادة الحياة من أزمنة الخراب في (ما لم تمسسه النار)
- الحقيقة في رمزية المخيف .. قراءة في رواية الحمامة للكاتب باتريك زوسكند
- «مزامير المدينة» تصدح بسوناتا البقاء
- الرؤية المكانية في (خانة الشواذي)
- جمجمةُ تشرين: ذاكرةٌ تنهضُ من رماد الموت
- رواية (عرس الشاعر): سحرية النص وواقعيته
اكتب تعليقك