جمجمةُ تشرين: ذاكرةٌ تنهضُ من رماد الموتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 20:19:54

غازي سلمان

العراق – بغداد

الكتاب: جمجمة تشرين

المؤلف: عبدالكريم العبيدي

الناشر: منشورات الاتحاد العام والكتاب للطباعة والنشر والتوزيع _ بغداد

سنة النشر: 2022

يبدأ كلُّ شيء في رواية (جمجمة تشرين) من عنوانها باعتباره العتبة النصية التأويلية الأولى التي منحت النصَّ تكثيفًا وإيحاءًا دلاليًا، وكذلك انفتاحًا أمام المتلقي قارئًا أو ناقدًا، حيث يتنامي النص وتتضح علاقته بالعنوان بدءًا من نسغ العنونة ومرورًا بدينامية الروي، وقد جاءت دلالة العنوان مباشرة لتحيل إلى الشخصية الرئيسية (باهر) شهيد التظاهرات ببغداد في العام 2019 إذ سيتنبه المتلقي بعد أن يقطع شوطًا في قراءة الرواية على حيثيات ثيمتها المستترة خلف السرد، وعلى علاقة بنية النص العميقة بهويته (عنوانه).

 (إلى الأعلى إلى ذاكرة الفيل.  هذا موّال يصدح في عتمات الروح،.....) الرواية ص7

لكن الأحداث في الرواية تبتدأ فعلاً بهذا المفتتح الاختزالي الحواري الذي سيفسر للمتلقي دعوة (القاتل -القناص-الطرف الثالث) للقنبلة "الطيّعة" لأخذ زمام المبادءة في عملية قتل المتظاهرين التي جنحت بزمن الرواية وهو يوم واحد نحو الفاجعة التي ستتوغل في الفضاء الروائي فيضج بها، في حيز يضيق حينًا وآخر يتسع بفعل نسغ السرد وهو يغذيها تحت وقع أقوى لألمها، بحيث تظهر جلية أثارها على اللغة وأسلوب الروي بمفردات دالة عليها من مثل (الموت، مقضي عليك بالموت، هذا هو نهارك الأخير....) وغيرها منذ بداية الفصل الأول للرواية وحتى صفحات فصولها التالية. وتستمر حوارية المقذوفة(القنبلة) متأرجحة بنشوة القتل مع سيدها القاتل، وتحت وطأة ذاكرتها حين كانت حبيسة الصناديق والمغلفات في موطنها - صربيا - عالمها الذي خُلقت فيه، وأحاسيس نشوتها بمهمتها في العالم الذي انضمت إليه في هذا الوطن الذي تعيث فيه غيلان الموت، حيث تجد هنا مرتع رغباتها الساديّة ووظيفتها كما تجد صنوها في وظيفة (القتل): (.. هذه دوافع تلذذية ياسيدي، لحظات تثير النشوة وتؤجج مشاعر اللذة) الرواية ص 10

  وخلتني وأنا أتابع حوار القنبلة مع القناص إنها تعرفه جيدًا بكل صفاته السلوكية وخباياه النفسية، وما ترسب في ذاكرته وما يستجد فيها من أفكار ومشاعر، فهي تعرف حتى دقائق أسرار حياته الشخصية، وتدرك مناجاته لنفسه قبل الهمس بها، ولهذا كدت أصدق الإيهام بأن الحوار يكاد يكون مونولوجيًا لشخصية واحدة:

* اظن أنني أعرفك معرفة واضحة، وعلى دراية مسبقة بك، وبخبايا شخصيتك الخفية، أسرارها وخفاياها ونقاط ضعفها...) الرواية ص66

 (... أنت وحشٌ، وحشٌ بشريٌ متخف، بحوزته قاذف قنابل ومتأهب للقتل... من المحال ياسيدي أن تنتصر رغبتك الإنسانية على رغبتك الحيوانية، لأنك ببساطة حيوان ولست بشرًا، تحركك نوازع بدائية متوحشة، وتغدو عدوا ماردا لدودًا للبشر متى دنوت منهم، يدفعك إلى ذلك طغيان الشر الكامن في نفسك...) ص18

(هل مازلت تعاني من الدوار؟ أراك مرتبكًا مهمومًا، وغير قادر على التركيز.. تتسارع أنفاسك ودقات قلبك ونوبات متكررة من الشعور بالقلق...هذه المناجاة ممطوطة بلا طائل، تتمدد في متتالية تصاعدية باذخة...) الرواية 14

وبمسعى من الكاتب لتجاوز طبيعة العلاقة الواقعية بين الموجودات والظواهر المألوفة بنمطيتها، فقد لجأ إلى توظيف تقنية الأنسنة لتخليق علاقات مغايرة بينها، تنحو نحو رؤية الواقع وفق منظور جمالي يعتمد على مُلكة التخييل باعتباره استراتيجية ابداعية تصحب المتلقي نحو عوالم متعددة وممكنة التحقيق.

ولقد نفخ الكاتب الحياة في القنبلة M مبتدعًا خلقها ومن خلال (أنسنة) القنبلة M وابتداع خلقها يكون الكاتب قد انتقل بها من فضاء الجماد الثابت الضيق إلى فضاء الرواية الأوسع الذي يمور بالحياة، مستلاً إياها من خصائصها المادية الميتة، وقد صيّرها (شخصًا) يمكنها التعبير عن كينونتها الجديدة:

 (..أنا "M" أمَةٌ مملوكة قبل أن اكون قنبلة فتاكةً، والمهمة المنوطة بي هي أن اخترق رأس الجوكر..) الرواية ص25، وبذا فقد ظلت (شخصية) فاعلة شأنها شأن أية شخصية أخرى ولكن بفاعلية المحورية منها إذ منحها الكاتب مساحة وافية في النص لتتحرك فيها وبما يناسب دورها المرهون بقدرتها ووظيفتها المصنعة لأجلها، متتبعًا دورة حياتها وهي تخوض غمار محيطها الذي رسمه لها بعناية فائقة. ليتحول اللامعقول هنا حكيًا في المعقول ويمهد للحدث الفنتازي- الفجائعي في مسار سردي يتوازى مع مسارات أحداث الرواية ككل مقترنا بالدهشة.

 وخلال متابعة حوار القنبلة مع القناص، وبعد كل مقدمات التهيئة واكتمال   واجبات الشخصيتين المنوطة بهما، وتبشيرهما بأوان حدوث عملية القتل، سيظل المتلقي منتظرًا وقوعَ حدث ما، يقلب الطاولة ليشهد النصُّ برمته حدثًا مثيرا يخلخل وشيجة عقدته وينطلق به إلى فضاء تراجيدي مدهش. حتى يتدارك الكاتب انتظاره، فيختار تاريخًا محددًا يفضي إلى الحدث الأعظم تاثيرًا في خِضَم الرواية، لكن لا يبدو تدوينه التاريخَ هنا عرضيًا، وغير مقصود، وإنْ كان قد أخبرنا مستهلاً الرواية: (هذه الرواية من نسج الخيال). 

تقول القنبلة وهي تعني تاريخ اطلاقها من فوهة القاذفة لتستقر في رأس أحد شباب التظاهرات:

 (في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر 2019، نلت حُريتي..)

(تذكّرني الوحشُ بحنين جارف وضمّ على أصابعه، ثم رفعني ووضعني في كأس الإطلاق لم يحدثه شيء يفصلني عن رقصة موتي، اقتربتُ من يوم عرسي،)

ثم: (لم أمهله لحظة، هشمتُ جزءا من راسه، واخترقتُ جمجمته، وملأتها بالغاز القاتل، ما أجملها من نهاية..) الرواية ص 26-27

وهنا مكنت تقنيةُ الأنسنة الكاتبَ من إعادة هندسة الجمجمة (بما تحويه) لتتسع لمخياله، إذ منحت القنبلة لنفسها حرية التنقيب الموسع في خفايا دماغ (باهر) بل حرية هتك أسراره الشخصية وقرصنتها، إذ ذاك تحول الدماغ من كونه عضوًا بشريًا مغلقًا بقحفة الجمجمة إلى مُستَقَرا ومكانا لانطلاق حكاياتِ تنبض بالحياة من (صناديق متعددة  كانت مغلقة) متجاوزًا هيئته ووظيفته البايولوجية ليستوعب كل أحداث الرواية ويفسرها ضمن فضاءات متعددة تنضدت فيها الذكريات والأحلام المؤجلة، والشِعر ومشاعر العشق غير المعلن، وقد تجلت في حلةِ حبكة فنتازية يتلاشى فيها الحد الفاصل بين العالمين الواقعي والفنتازي المشكلين للرواية: (...هذا الجوكر صنع الفرجة داخل رأسه، سردَ عوالم تخييلية مشوقة، مكتظة بالصور والمشاهد والتواريخ والأشخاص، عالم حافل بالدهشة والسحر،..) ص75

وإن مشاعرالدهشة التي وسمت سلوك القنبلة قبل حادثة اختراقها الجمجمة، هي ليست نفسها التي سترافقها بعدها، بل أصبحت ممتزجة بالحماسة لتحقيق هدف عملية الاستيلاء على جميع مكنونات باهر النفيسة جدًا والغائرة عميقًا في تلافيف جمجمته، وبزهو الاحتفال بالانتصار بعد قتله مرتين وهذا هو الهدف الأكبر:

(مرة في تهشيم رأسه، ومرة باستباحة كرامته، وتدمير خصوصيته، وتحويلها إلى فضائح، هذا هو سبيل

النصر والتمكين...) ص78

ومن هنا يبدأ الموتُ سفره في النص، كذاكرة مستفَّزة بالانتهاك، حيث تنفتح التصورات المقترنة به على الأحداث بأوجهها المتغيرة، فتتجدد فضاءات تعبيرية وتخييلية غنية بالإيحاءات والدلالات، راحت  تتجذر في بنية النص طافحة بالرعب والألم، وكأن الكاتب عمد على أن يصيّر من "الموت" (شخصية تراجيدية) مضافة إلى شخصيات روايته الأخرى، وأن يكون للموت وظيفته الرمزية الدالة على رؤيته التي يختزلها (باهر) المثقف والشاعر، العاشق والمسالم، والتي تختزلها بدورها ذاكرته (جمجمة تشرين) حيث تجاوزت ذاكرته فردانيتها وأنويتها لتمثل ذاكرة جماعية.

وسوف تكون ردة فعل القنبلة شديدًا وهي ترى مصداقية باهر كذاتٍ نقية سريرتها وثقافتها وحبها لوطنها، عند مقارنتها مع ذات (القاتل) المتعطنة بالانحلال الاخلاقي، والنذالة، والشعور بالدونية، الماكرة، متبلدة الأحاسيس، والقاتلة:

(احتقرتُ وجودي داخل الجمجمة، شعرت بالعار، بفداحة الجريمة التي ارتكبتها، وازدادت حالتي سوءًا، كم كنت نادمة...) ص93

(هذا ماحصل لي، هذا مايسمونه بالانقلاب الذاتي، شكل من أشكال الانقلاب، تمكنت خلاله من فك شراكتي معك، وتحرير نفسي من عبثك وغرورك ومنذ تلك اللحظة، تحولت بوجهتي إلى أمر آخر، انصرفت عن عفونة عالمك الأزرق...) ص94

وبهذا ينفرط عقد صداقتها وعبوديتها مع القاتل الممثل "لسطة الحكم" فتنقلب على سلطته وتمنح نفسها سلطة "مدعي عام" وهي تقرأ عليه (لائحة الاتهام) من حقك أن تبقى صامتًا، أن تكون آخر من يتكلم، ولكن لا بد من محاورتك في أمور التهم الموجهة إليك، ومجابهتك بالأدلة القائمة ضدك، ومطالبتك بالرد عليها، لن تنتفي براءتك إلا بعد إخراجك من مساحة الإباحة إلى مساحة التجريم، وهذا هو ما أسعى إليه. ص66 

وعقب انحياز القنبلة إلى جانب باهر وتماهيها معه، كأنسان وقضية، سيضوع عطر (روحه - ذاكرته) الآخاذ: في قصر الطبيب وابنته (يارا) التي ألهمها حبُّ باهر التضامن مع (التشرينيين)، فغادرت القصر (قوقعة الأسرة) لتصبح أحد ثوارهم، وفي المستشفى حيث يتعرض الطبيب إلى الضرب والتهديد وهو يعاين بألم جسد باهر المسجى، فقد خرج من قوقعة حياديته وهويحتفظ برصاصة القنبلة التي أخرجها من رأسه، وفي بيت أُم باهر هناك في أشدّ أحياء الوطن بؤسًا، حيث جذور عالم باهر (.. الحنون، عالم المنسيين خارج البلاد، المنبوذين في أقاصي المدن...) ص 135

 تحمل الأم المفجوعة سعودة (كالا الهة الشفاء السومرية، الطبيبة العظيمة) القنبلةَ "أداة الجريمة"، مجرد أداة، إلى ساحة التحرير، مختنقة بعبرة الثكلى، إذ صاح أحدهم بصوت عال حين لوّحت بالقنبلة:

 (..سعّوده، أم الشهيد باهر، هذه أمّنا...... أشعلت الحماسة في نفوس المعتصمين،.... وجعلهم يهتفون باسمي، ويذكرون مآثري ويرددون بصوت واحد كلُّنا باهر..( ص139)

وبالرغم من هيمنة الحوارعلى بنية النص، لم يوصد الكاتب الباب بوجه راويه العليم في (-فصل ثانٍ - وفي فصول أُخرى) من الرواية، بل منحه فرصة التعريف بشخصيات الرواية الاخرين، (بسعاد أم باهر، والطبيب وابنته يارا) حيث تعمل بسعاد خادمة في منزلهم المترف، وقد أخذ الكاتب هنا دور الملقن المتواري خلف كواليس المسرح حيث لا يمكن للمتلقي رؤيته، وفي نفس الوقت، كأننا نراه ونسمع صوته وهو يخاطب (بسعاد) مقاطعًا راويه العليم بمعنى أنه بقي على علاقة فعلية بما يُروى.

(.. نعم يحدث ذلك يا بسعاد طالما هذه البلاد تشتعل والأحداث تتلاحق...) ص30


عدد القراء: 4437

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-