«مزامير المدينة» تصدح بسوناتا البقاءالباب: مقالات الكتاب
غازي سلمان العراق – بغداد |
الكتاب: "مزامير المدينة "
المؤلف: علي لفته سعيد
الناشر: دار الفؤاد في القاهرة
تاريخ النشر: 2018
عدد الصفحات: 272 صفحة
«أنا أكتب بالرغم من كل شيء وبأي ثمن، فالكتابة كفاحي من أجل البقاء»: كافكا
استحصلت الرواية العراقية ما بعد السقوط الدراماتيكي للنظام السابق عام 2003 وما تلاه من تغيير عاصف، فضاءاتها المستحقة من الحرية التي كانت قد أُستلبَت خلال عقود تسلطه، تلك الفضاءات المحظورة نزهتها فيها أو محجوبة محمولاتها عنها بمغاليق تعسفه، ممثلة بالتاريخ، والهوية الوطنية وثقافات الأعراق والديانات والمذاهب، إضافة الى تابوات السياسة والدين والجنس، فكان لابد للرواية من إعلان قطيعتها مع رؤية سلطة ذلك النظام المنغلقة، بغية استعادة الهوية الوطنية من براثن الفن التعبوي الرخيص، وهتك مفاهيم حقبته المعنونة بكل أشكال الاستلاب والقهر، واستثمارها كثيمات جديدة تضاف إلى فضاءات واقعها بعد التغيير المحتشدة بمستجدات السياسة والتاريخ والفساد والاقتتال الطائفي، فما الرواية إلاّ نتاج المكونات السوسيو- ثقافية والتاريخية والجمالية للواقع، التي ما أن تتظافر في النصّ حتى يتشكّل فضاؤه السردي من خلال فاعلية توظيف طاقة الكاتب التخييلية المدعمة بأفكاره، وعمق وعيه المعرفي، ليتخلّق واقع مواز أكثر عقلانية وإقناعًا، وهو ما تمكنت منه رواية ما بعد التغيير عبر صياغة مضامينها المغايرة عن أدب تمجيد حروب حقبة الديكتاتورية وغسل الوجه القذر للنظام، فنجحت بذلك من تجسير الثقة بينها كفنٍ وبين المجتمع كمتلقّ له، تعرّفه بحقوقه وقيم الحياة السامية لما تمنحه من فهم مغاير عن التحوّلات الاجتماعية والفكرية المستجدة، مستثمرة الأساليب الحديثة في السرد وموروث تقنيات الرواية العراقية والعالمية معًا.
والكاتب علي لفتة سعيد أحد الكتاب الذين أبكروا في رفد المنحى الجديد للرواية العراقية المتّسم بالنزوع الى التجريب والتجديد في الأساليب السردية للتعبير عن المتغيّرات التي أنتجها الواقع الجديد. إذ يصحبنا عبر فضائه الاستعاري (مزامير المدينة) وهي إحدى منجزاته الابداعية، إلى مضماري مرحلة الديكتاتورية وما بعدها، وقد تزوّد منهما زوّاداته بانتقاء الرحالة المخضرم الذي عايش كلا الحقبتين، كاتبًا قصصيًا وروائيًا، لينطلق في سفر السرد الذي بدا وعرًا، وهو يخوض غمار البنى الاجتماعية والسياسية الهشّة على مستوى الأمان والسلم المجتمعي، وقد تعاقبت دمغة تسلط الأنظمة من خلال استمرار حضور أيديولوجيا الماضي في ذهن البنى السياسية الجديدة، وحيث ما زالت السياسة نقيضًا للثقافة والفنون، وما برحت السلطات الحاكمة (تتحسس مسدسها كلما سمعت بكلمة ثقافة) – جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي- إلّا إن واقعَ ما بعد الديكتاتورية، لم يزل مسكونًا بصراع ثلاثة قوى فاعلة فيه: السلطة السياسية الحاكمة، والمجاميع الدينية برموزها المتحصنة بالمقدّس، والمثقفون المستقلّون، فلابد وأن تشتبك نوتات مزاميرالكاتب مع السياسة وتتشابك بالأفكار، وهو يبحث في مكونات الواقع بإطاره البانورامي، راصدًا ذلك الصراع في ظل طبيعة العلاقة النفعية بين السلطة الحاكمة والجماعات الدينية التي دفعتهما الى التحالف والتعاضد بغية تشديد الخناق على الإبداع والثقافة، لمواجهة التيارات السياسية والاجتماعية المدنية والنخب الثقافية ذات التوجهات المتعالية على تأثير الغيبيات ومفهوم المقدّس وما ينتج عنه من محظورات، واهتزاز في موقف المثقف الذي تتنافس تلك الأطراف على استقطابه واستمالته أو إلحاق الأذى، أيّ أذىً به، الأمر الذي وجدت فيه "شخصيات الرواية المثقفة "نفسها بين فكيّ رحى، (الحكومة - التيارات الدينية السياسية) التي طالما سعت لانتزاع مساحات لها من حرية التعبير لتخطّي تراكمات ايديولوجيا الماضي ومجابهة إعادة إحياء انساق محظوراتها التي تشكّل عائقًا أمام انطلاقة تجدّد الأفكار وإعادة النظر في القيم المجتمعية المتوارثة.
وقد حسم الكاتب بوعيه المعرفي أمرَ التعبير عن ذينك الحقبتين، من خلال فاعلية شخصيات روايته المثقّفة، ودورها المؤسّس في تعيين سمات الفضاء الأيديولوجي والثقافي.. فالروائي كمثقّف لابد وأن (يُضمّن عمله ملامح من صورة المثقف وفقًا لمنظوره الخاص والتي ربما تتطابق مع حقيقة المثقف في الواقع، لكنها بالتأكيد تعبّر بطريقة أو بأخرى عن مكانة المثقف في المجتمع)1، تلك المكانة التي أفصحت بوضوح عن أزمة المثقّف العراقي الباحث عن الحرية والكرامة الانسانية، إلا أنه لم يقبض إلّا سرابًا:
(كل شيء في هذه الدنيا كذبة ونحن الحقيقة المالحة، صرنا مزدوجي الحقيقة والرأي والاتجاه المتغير) الرواية ص203
فحين مدّ المثقّف قامته خارجًا من ظلمة النظام الديكتاتوري السابق، وهو ينوء بثقال الآمال المؤجّلة وخيبة الأمل، دخل بعد اسقاطه قبرًا، لم يكن ليتوقعّه، ليجد وطنه وقد أضحى مِزَقًا، مكتشفًا أنه في مواجهة السلطة مرّة أخرى:
(حين كنت تقف أمام صورةٍ معلقةٍ في باب المقبرة، تطلق سيل احتقارك وتلعن الزمن الذي جعل الصورة تلطّخ الجدران حتى في المقابر وقد زادت على صور صدام 1000 مرة وتلعن الساعة التي جاء بها هؤلاء وهم يلوّحون بالمحابس ويهيجون الناس باسم الدين والتضحية في سبيل الله) الرواية ص72.
عزز الكاتب سطوة الراوي بضمير المتكلّم، ما أتاح له توسيع دائرة التشخيص من خلال استبطان العوالم الداخلية لشخصياته واستقراء انفعالاتها ورؤاها وأحلام يقظتها، للتعريف بها والتعرف على مواقفها من الصراع القائم بين الاتجاهات الفكرية السائدة، مستدعيًا حكاياتها المتماضية إلى حضرة الحاضر، عبر مسارات روي بلغةٍ بالغة التكثيف، متواصلة التداخل، بدت مستوياتها متناغمة مع حركة شخصياته، رغم تباين مراوحة السرد عند الكثير من المساحات المكانية والزمانية المختلفة حيث لم يكن الكاتب ليشيّد فضاءه الروائي على حدثٍ واحدٍ بدأ بالتنامي لينتهي عند حدّ معيّن. ما منحه حريةً أوسع في التخلّي عن التنظيم المتسلسل المنضبط لعناصر السرد، وتبويب فصوله التي جاءت بعناوين مضمرة لها إيقاع الشعر المنثور، حصرت فهم المتلقّي بما سيرد بعدها. وكل ذلك جعل النص متماثلًا فنيًا مع غائيته باعتباره نصًّا تحليليًا للذات الساردة المنتهكة بأزمنة عنف مغشية بالموت، الموت الذي أصبح فضاءً دلاليًا للرواية.
ولكي يكسب الكاتب شخصياته مشروعية حضورها، منحها فرصًا وافيةً للانعتاق من سلطته اللغوية، بإدراكه كيفية ترسيم وعي كل منها، من حيث تنوّع ثقافتها واختلاف مهنها وانحدارها الطبقي، معبّرًا عن رؤاها بمنطوقي التوصيف والإخبار، وعَبرَ تطويع لغة السرد لمستوياتٍ متناسبة مع قدراتها المعرفية، حتى إنه لم يفرض اللغة الفصحى كلغةٍ معيارية للسرد، بل هجّنها باللهجة العراقية الدارجة مستزيدًا من الأمثال والاغاني الشعبية، وهو ما ساهم في توسعة بلاغة التعبير وإيصال المعنى الذي يبتغيه بسلاسة بذخت على سرديته أنماطًا من الرؤى الجمالية، جعلت النصّ يرتقي بمستوى اللغة الإبداعية المجازية ويحتفي بكلّ جمالية الحكي.
وأحسب لحظتئذ إن الكاتب قد أدرك ما أدركه قبله بعقود من الزمن شاعرنا الراحل (حسين مردان) حين كتب: «إن بعض الكلمات الفصحى قد فقدت حيويتها وخمدت فيها الحركة فهي أشبه بكرات زجاجية، من زجاج كثيف لا ينبعث منه أي شعاع وحرارة، في الوقت الذي نجد بعض الكلمات العامية تحتفظ في داخلها بكمية كبيرة من التدفق اللوني واللهب المشرق والموسيقى الجادة» 2
وما الكاتب هنا إلّا ساردًا متواريًا خلف ضمير المتكلّم متخذًا لنفسه دور راوٍ مشارك بصيغة (الأنا) التي ما أن ولجت النصَّ حتى تحقّق لها تذويتها من خلال تماهيها مع الشخصية المحورية"محسن". فضمير المتكلّم دائمًا ما يستدعي خزين لاوعي الكاتب بنسب متفاوتة، وإن «الكثير من لغة تقديم الشخصية أو وصفها أو كلامها إنما يأتي انعكاسًا بدرجة أو بأخرى من علاقة الروائي بشخصياته المتخيلة، أو المتخيلة التي لها أصول حقيقية، أو الحقيقية في تجربته»3
متوسّلًا ملكة التخييل في تنصيص مرجعية مشتركاتهما الواقعية معا، فنجح في إيهامنا بتخييل الواقعي ماحيًا بذلك الحدود الفاصلة بين ما هو أدبي وبين ما هو واقعي خارجه. وكان من مخرجات التماهي واستغراق الراوي في شخصية (محسن) أن انشطر صوت الروي متوزّعًا بين محسن كشخصيةٍ مخاطَبة وبين مناجاة الذات لذاتها، والمناجاة هي إحدى أوجه المونولوج، اذ راحت الأحداث تصدرعن (محسن) لترتد إليه ثانية، الأمر الذي شكّل منه بؤرة سردية، وبؤرة إشكالية في آن واحد، توّجت ثيمة الرواية برؤيتها.. في ذات الوقت راح صوت الراوي يعرّفنا بالشخصيات الأخرى متحدّثًا عنها، وهو ما يؤدّى إلى «إيجاد نوع من الحوارية الداخلية التي تنبع من داخل البناء الروائي وليس من حوار الشخصيات، من خلال اتحاد الراوي بالشخصية، مثلما يتحد السرد الموضوعي بالذاتي في عملية البناء الروائي»4
إن الأثر الروائي لـ(مزامير المدينة) ما انفكّ يتنامى صراعًا بين موقفين، ينمّ عن تناقض في مفهوم العلاقة بالوطن لدى الفرقاء، وتباين حاد في رؤيتهم لمستقبله. فعلاقة النخب المثقّفة به هي علاقة انتماء إليه، فيما مفهوم علاقة السلطة الحاكمة بتحالفاتها ووعاظها، على إنه غنيمة تحقّق لها أمجادًا زائفةً تتغنّى بها من على أعالي ركام الخراب الذي تنتجه. وفي ظلّ احتدام هذا الصراع الذي سوف لن يتوقّف مهما قويت أطرافه أو وهنت، وتحت وطأة اقتفاء الساسة الجدد سيرة النظام السابق في محاولة اعتلاء ظَهر المثقّف، ودعوته حين الحاجة إليه، لتبرير إخفاقاتهم وتزيين قبحهم، قدّم لنا الكاتب نماذج متعدّدة لشخصيات مثقفة" اختلفت في العلاقة والموقف من السلطات بكلّ أشكالها سواء الحاكمة منها أو سلطة المقدّس والقيم المجتمعية الراكدة.
فشخصيتا (مهند وناهض) قد انحازتا بعد عام 2003، إلى تنظيمات دينية تقرّبت الى السلطة السياسية وتنفذت فيها حيث صاحبا راعي أغنام متجوّل (سيّد) ترك مهنته ليعمل في (الدين -السياسة!) استكمالًا منهما لممارسة دورة الخنوع والانتهازية، إذ كانا يخدمان في جوقة إعلام النظام السابق واستمرارًا لوظيفتهما في إلحاق الأذى بالأخرين، من خلال الوشاية بهم، فكانا يحرّضان "الراعي السياسي" على مضايقة صاحبهما "محسن" ليكونوا جميعًا مصدر قلقه وخشيته باستمرار: «المتقلّب ناهض ربما يتعاون مع مهند في تخطيط المؤامرة، لأني أعرف كيف كانا سابقًا وكيف هو حالهما اليوم، ومن الأفضل لهما التفكير بالتخلص منك من خلال تلك الاتهامات..» الرواية ص221
ويناقضهما في الموقف "محسن" الكاتب القصصي، الى جانب صحبة مثقّفة أخرى، بلا انتماءات سياسية أوعقائدية، ومختلفون في المستويين المعيشي والطبقي: «يوسف صاحب القلب الجميل. ...ساعدته شهادته في الحصول على الاحترام وهو ما يجعلك تنظر إليه على أنه أكاديمي» الرواية ص 179 ومحمود ابن التاجر، وجمعة القادم من بغداد بعد الحرب الأهلية 2007 ليكمل دراسته الجامعية، وشاكر صاحب محل الاستنساخ وهو وكر أريحيتهم وصخبهم، ومجتبى (السيّد) (سليل الرسول) وسليل الثراء، وكاتب الشعر «الذي برز حضوره بعد عام 2003، لم يكن معروفًا، كان منزويًا وخائفًا من النظام، وظلّ يسير كما يقول قرب الجدران لأنه لا يريد العودة إلى السجن..» الرواية ص35، لذا فضّل الانسحاب من الخوض بجدية في أي من القضايا السياسية خصوصًا، وصنع له عالماً يضمن له السلامة من خلال اللوذ بالتفكه والسخرية «كأنه ينتقم من الحزن ويكتم كل ما فيه داخل ضحكة يتيمة تبدو على محياه» الرواية ص79 فتحول جلّ همه البحثَ عن وسيلة لزيادة في عطاءات والده الناقم عليه بسبب كتابته الشعر وصعلكته فلم يعطه المزيد.
إن "محسن" وقد سلك جادّةً ًمغايرةً تمامًا، قرّر ان لا يعتاش على نتاج خزينه المعرفي مفضّلاً العيش على الهامش، هامش الحياة المادي الذي ورثه من فقر عائلته، راح يعمل في مهنٍ عدّة لا تنتمي إليه كمثقّف، حتى قاده العوز الى أن يعمل حفار قبور، ليستعيد بمهنته هذه تسلسلية فواجع الحروب، وذاكرة الخراب المتأبد منذ ما قبل 2003، وهو المؤمن بسلطة الثقافة في المساهمة في توطين ثقافة السلام والحب في أرض يتآكلها الفقر والاقتتال على مر قرون، وجد يقينه في تفاعل الثقافة مع كلّ المسلمات المجتمعية المتخلفة، بما إنها تضفي معانٍ مستجدّةً على موجودات محيطه لإدراك معنى لوجوده كذات فاعلة، وليس عبر توافقية رخيصة مع السلطة الحاكمة والمتحكمة.
فيتحدّث إلى (ناهض): «عليك أن تجد طريقك الذاتي من خلال عقلك لا من خلال وجدانيةٍ مصلحية وعاطفةٍ مزيفة.. وكان يردّ عليك أن لا مستقيم يبقى مستقيمًا ولا طريقًا باتجاهٍ واحدٍ...» الرواية ص.129
لم يكن أمام محسن إذن، إلّا العيش في عالمين متناقضين، عالم بمسلّماته ويقينياته الثابتتين، شاسع مترامي باللاعدالة والمظالم وفوضى السياسة، ضاجًّا بعويل الأمهات الثكالى على أبناء تتلقّفهم آلات الحرب والتصفيات السياسية.
وعالم بفضائه الضيّق يمدّه بنسغ الموائمة المؤنسة، يركن إليه ليستمدّ منه القدرة على الكتابة: «إرم هذا الكسل برصاص الكتابة لأنها وحدها الحقيقية التي يمكن لها مواجهة التعنت..» الرواية ص158، فهو عالمه الذي تَشيّد من الصحبة المثقّفة ومن خيالات والديه المتوفّيين، ليكنز ذلك كلّه في خزائن وحدته "بيته" الذي يختلي إليه محتميًا من شرور واقعه، فهو الحضن الذي يسرّب إليه انشغالاته ومحنه وأحلامه، وهو صومعته التي تتّسع لإحياء طقوس استحضارات (ارواح) كل أولئك، ومنهم الأب، تلك الذاكرة الحية التي كلّما غرف منها محسن يشخّص الوطن أمام المتلقّي مثقلًا بمآسي تاريخه كلها، «قالها لك قبل عقود، الأب المغرم بتفاصيل التاريخ وهو يحكي عن الحرب إن قامت في العراق لن تقف وأسماها مثل طابوقة» الرواية ص 8
فلاغرو ان توشحت نوتات مزامير المدينة بإهدائها له: «إلى أبي مرّة أخرى ... علّمتني مواجهة الصعاب.. وتركتني للأثر) الرواية ص 5
وسيضيّف "محسن" في منزله، أطياف عشيقته "سلوى" التي نمت علاقته بها بعيدًا عن سطوة المجتمع وأيقوناته الأخلاقية «وهي زوجة لعسكري سابق بترت له حرب الانسحاب من الكويت من القرن الماضي رجولته» وهي ضحية للحرب أيضًا، وجدت في رجولته الكاملة ما تفتقده في زوجها، حيث ضمته إلى عالم روائها المطيب بالشبق والنشوة الحميمة ودفء المعاشرة، فيما كان محسن ينهل من عشقها حنان الأمومة الذي حُرّم منه طفلًاً «أعرف إنك تمضي حياتك تبحث عن حنانٍ حتى لو كان في صدر امرأةٍ ليست أمّك. سأكشف لك سرًّا، إني أراك حين كنت تنام مع سلوى تضع رأسك في رقبتها قريبًا من صدرها وكنت أبكي لأنك تعوّض فقداني بها» الرواية ص 167، مستشكفًا عالمها الأنوثي ليشكّل منه عالمًا آخر موازٍ لواقعه المضطرم بالمتضادات: الكتابة والخيال والأحلام الراكدة، والواقع المحتشد بفجائع الحروب وبمكابدات انكفاءاته المتلاحقة، وبمحاولات استعادة هباتها من اللّذة الحميمية في العاطفة والجنس وكأنه يضيء عتمة ذاتها بحثًا عن ما مضيّع من أناه فيها، فقد باتت سلوى تختزل ذاكرة مراحل عمرية كاملة منه، حتى أصبحت سلواهُ وهاجسه إلى سحر الكتابة، ومنفذه خارج ربقة العزلة المرتهنة بالرعب والقلق على مصيرها، بعدما هجرها، حيث ظلّ يستعيدها أطيافًا تؤجّجها جمرات شغفه، وعبثية بحثه المحموم عنها، متعايشًا مع صراعه الداخلي بين ما ينبغي أن تبقى عليه، وبين ظنونه بها مشوّبة بتأنيب الضمير لانه ساهم مع الحرب في تعميق مأساة زوجها: «كنتَ ألعن من الحرب لانك لا تصيب جسده، بل بمعناه في الحياة ... ....كلما فكرت بسلوى عليك أن تتذكر كيف كنت تهرب منها أو أردت الهروب، وكيف تمنيت لو ابتعدت عنك وصرت مشغل مولدة كهربائية فوق سطح فندق حتى لا تعود إليها مساء، وتكفّر عن سيائتك اتجاه زوجها،» الرواية ص 172 وهكذا تبلورت هذه العلاقة لدى محسن بمستوى مفهومها الإنساني، إذ لم تكن حاجته منها إلى الجنس ميلًا حسيًا مجرّدًا بحد ذاته، أو وسيلةً لإثبات فحولته، فقد رفض أن يمارسه حين تهيأت له الفرصة مع فتاة عثرعليها في حفرة قبر مع شريكها. فما سلوى في الحقيقة إلّا إحدى «المخيلات التي تمنحك بعضها قلقًا، وبعضها يدعوك إلى اكمال صناعة الجمال المحفوف هو الآخر بالقلق لمصير سلوى، فكأن الكتابة لديك هو كيف تصل إلى معلومتها لكي تستكمل الرواية في جزئها الثاني..» الرواية ص193
و"محسن" تلك الذات الخلّاقة الحائزة على اكسير الجمال النقي، بما تختزنه من «صفات ثقافية وعقلانية مميزة، تؤهلها للنفاذ إلى المجتمع والتأثير فيه بفضل المنجزات القيمية الكبرى» بحسب "ماكس فيبر-
أي أن دور المثقّف لا يرتبط بطبيعة الحال بالكم المعرفي بل بما ينتجه هذا الكمّ من أفكارٍ تؤهّله لدور ريادي يسهم في تشكيل فكر الفرد وإعادة صياغة وعيه دون أن يقسره على القبول أو التفاعل مع منجزه الإبداعي بل يترك له حرية التفاعل معه، مقارنةً ومقاربةً مع واقعه.
وبهذا عدّ "محسن" الكتابة مرتبةً عليا من الإدراك الإنساني التي ترتقي به موقفًا من العقائد الدينية والاجتماعية السائدة، التي ما انفكت تنخر في القيم الحضارية لتكرّس قيمها الهزيلة، قيم الصراع على السلطة والمال التي تكلّف المجتمع مزيدًا من الانقسام والتناحر، فالكتابة فعل تخليق الجمال في مواجهة القبح تأكيدًا للصراع الأزلي بينهما، وهي الفن - كما يراه "كافكا" «أن تبهر انظارنا الحقيقة، فليس هناك ضوء حقيقي إلاّ الضوء الساقط على الوجه القبيح المتراجع.»5
لتكون الرواية التي يأمل "محسن" اتمامها هي منجزه القيمي الكبير وملاذًا لذاته المسكونة بالتوجّس من فقدانها هويتها ومسخ استقلاليتها، ووسيلته لتمرير أفكاره غفلةً عن أية سلطة، ووثيقة إدانة تمتلك سلطتها المؤثّرة. وهي بالتالي مزاميره الصداحة من اجل البقاء.
مثلما هي سوناتات (مزامير المدينة) التي ما انفكت تصدح بمرارة المحنة، محنة جلجامش التي تلتم عندها أوجاع وطن ينتظر دومًا حربه القادمة. (يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم، يهلك الرجل وهو محزون القلب، ها أنا ذا أنظر من فوق الأسوار، فأرى الجثث تطفو على النهر، وأنا سيحل بي حقًا نفس المصير).
* رواية الكاتب العراقي علي لفته سعيد –الصادرة من دار الفؤاد للنشر والتوزيع- ط1 – 2018.
1. هويدا صالح – الصورة الروائية للمثقف - موقع صحيفة البلاغ 2013 /11/02
2. محمد الجزائري - ويكون التجاوز، دراسات نقدية معاصرة في الشعر العراقي- مطبعة الشعب - سنة 1974
3.جماليات الشخصية في الرواية العراقية. د. نجم عبدالله كاظم- دراسة - موقع كتاب العراق- 4/12/2010
4. د.قيس كاظم الجنابي – الرواية العراقية أنماط ومقاربات- منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2012. ص87
5. روجيه غارودي واقعية بلا ضفاف- ت. حليم طوسون - دار الكاتب العربي -1968 ص196
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- سيرة حياة المكان في رواية «خلية النحل» للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا
- واقعية الخيال روايـة الـعـطر «ذاكرة الدعاية النازية»
- رواية «الذباب والزمرد» من رثاء ذات إلى مرثاة وطن
- ما يتبقى من الحرب: الحكاية والموقف في (رواية لحن ماثوركا على ميتّين)
- استعادة الحياة من أزمنة الخراب في (ما لم تمسسه النار)
- الحقيقة في رمزية المخيف .. قراءة في رواية الحمامة للكاتب باتريك زوسكند
- «مزامير المدينة» تصدح بسوناتا البقاء
- الرؤية المكانية في (خانة الشواذي)
- جمجمةُ تشرين: ذاكرةٌ تنهضُ من رماد الموت
- رواية (عرس الشاعر): سحرية النص وواقعيته
اكتب تعليقك