الرؤية المكانية في (خانة الشواذي)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-02-01 06:12:13

غازي سلمان

العراق – بغداد

الكتاب: "خانة الشواذي"

المؤلف: عبد الخالق الركابي

الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات: 231 صفحة

يسهم العنوان باعتباره بنية  متضمنة في النص لها مدلولها المعجمي والنحوي، ومدخلاً يسبق المتن الحكائي، يسهم في تحفيز ذهن المتلقي على تأويل النص وإثراءه وفي الإشارة إلى دلالاته، فمنطوقه يفضي إلى تداخل شديد التأويل للمعنى في هذه الرواية، وقد جاء مركبًا من مفردتين أدتا وضيفتهما في فك شفرة دلالة النص وفي إشارته إلى الترابط الجدلي بين الزمان والمكان وعناصر الرواية الأخرى: خانة "مكان أصغر" من مكان أوسع، والشواذي هي مفردة شعبية باللهجة العراقية الدارجة وتعني القردة، وخانة الشواذي هي المقاعد الأخيرة من الباصات التي كانت تجوب شوارع مدننا العراقية، منذ عقود خلت، تنقل مواطنيها من مدينة إلى أخرى، وكانت تلك "الخانة" أدنى أجرة ركوب ولهذا كانت شريحة الفقراء يفضلونها، فهي بالتالي تدل على الفارق الطبقي والاجتماعي، ما يفتح مجالاً للتدليل على النظرة الفوقية لمن هم في مقدمة الباص إلى من هم خلفهم  والشعور بالدونية لدى من يجلسون في الخلف في "خانة الشواذي". ما أعطي انطباعًا عن تشابك البعدين المعجمي والدلالي للعنوان باعتباره أول عتبة أشارت إلى المكان، والذي تردد منطوقه كثيرًا في المتن الحكائي، وهو ما فسّر سببية اختيار الكاتب له كعنوان للرواية.

ومن خلال: "خانة الشواذي" يكون الركابي قد دخل مدينة (بدرة) وكأنه يدخلها أول مرة، لأنه نفذ إليها عبر مدخل مختلف عما في رواياته السابقة، مصاحبًا شخصيات جديدة إلى حيث أزقتها وصحراءها وبيوتها وجنبات تاريخها. فلـ (بدرة) سطوتها عليه، مسكون بها بوعي أو باللاوعي، فهي ضالته الخلاقة وبؤرة الواقعي والتخيلي لديه، ومعينه الذي لا ينضب، في الأعم الأغلب من أعماله الروائية، ما يشي عن قصد مسبق في إعادة تخليقها، ما أن تتوطن فيها حتى تكون قد تحررت من إطارها الواقعي الساكن المحيط بالشخصيات والأحداث والأزمنة، جراء فاعلية جدلية العلاقة بينها كلها مجتمعة.

ولوعي الركابي بفاعلية المكان في إنتاج الحكايات فقد واظب على ترسيم تفاصيل سِيَر حيوات شخصياته، فراح ينشئ المشاهد، ويكشف النوازع ويفسر المواقف، قدر اقترانها بأحداث تاريخية منتقاة من أزمنة بعينها، موجها إياها وفق آصرتها مع الأمكنة التي انطلقت منها، وذلك من خلال إحالة أنظمة تلك الأمكنة إلى اللغة كأداة معرفية، ونسق من الإشارات والرموز، مع استثماره لتمرسه في تقنية مجازها ببراعة، جنبًا إلى جنبِ تخييلِ ماهو تاريخي ومجتمعي معًا، فراحت لغته السردية بوظيفتها البنائية والإيحائية، تتجاوز الصور المرئية المحسوسة، مجتهدًا في تنويع لغته الواصفة لها، كإشارات (موجودات) مكانية، لتتخذ موقعها في نصه رموزًا بكثافة دلالية، فالصحراء بين بدرة والكوت مثلاً التي اجتازتها "ملاك" صحبة "نادر" رغم مخاطر اجتيازها إلا إنها باتت تعني لهما العبور نحو أفق الخلاص والتحرر.

إلا أن المكان لدى كاتبنا الركابي ليس صورة يستفيض في وصفها، بل يجهد في تصييره كائنا بروح متفردة، يستثير ذاكرته فيعمد إلى توصيف سيولة حضوره غاية في التكثيف، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال فاعلية الشخصيات، فتخليق المكان، وترسيمه مجددًا، يمثل أحد ركائز بناء الشخصية الروائية، وبذا اتخذت أمكنته تلك، دور عنصر حي وحكائي مؤثر، يفسر كينونة مستوطينه، ويمنح النص القدرة على إنتاج دلالته. سواء أوجز الكاتب في الوصف أو راح به تفصيلاً. وهو ما أهل لغة الكاتب لأن تستفز تلك الأمكنة عبر استثماره تفاصيل منتخبة منها، بغية استثارة ذاكرة المتلقي واحالته إلى امكنته الواقعية التي ألفها والتي عمد الكاتب إلى الإشارة إليها بأسمائها الواقعية، مانحة إياه فرصة المقارنة والمقاربة، إلا أن انزياح ذاكرته هذا، لن يصمد طويلاً أمام فاعلية أنظمة التخييل الإشارية التي اعتمدها الكاتب.

فبرغم ما يلوح من تماثل الأمكنة الروائية تلك مع نظيراتها الواقعية فلن تغدو إلا (تخليقًا لغويًا يحيل إلى نفسه ويمنح النص السردي المتخيل مظهره الحقيقي)، إلا أن الركابي في هذه الرواية ورواياته الأخرى، لا يأسطر الواقع أو يغرّبه ولن يتخذ لديه مكانًا يؤثث به (خانة الشواذي) بل يستفز ذاكرته، كما أسلفنا، والأخذ بناصيته وصولاً إلى تماهي الواقعي فيه مع المتخيل عنه. وذلك مجتمِعًا هو الذي مكن الكاتب من «رسم صورة بصرية جعلت إدراك المكان بواسطة اللغة ممكنًا»(1) معززًا بها سطوة الأمكنة  المتخيلة على ذهن المتلقي، حيث أن (التبادل بين الصورة الذهنية والمكانية، يؤدي إلى التصاق معان أخلاقية بالإحداثيات المكانية نابعة من حضارة المجتمع وثقافته، ... كما أن الأشياء تتحول في الرواية من مجرد عناصر من العالم الخارجي إلى رموز لها دلالاتها)2

لكن الركابي لا يبتدأ رويه لحكاياته من (بدرة) الأثيرة لديه بل من مقبرة فارهة في (كندا) إذ راح يتتبع عين كاميرا تنقل إليه لحظات دفن شخص ما، مؤكدًا بذلك مرة أخرى، انطلاقة السرد الـ(مكانية – المشهدية) تلت دلالة  العنونة المكانية: (سبعة رجال، ثلاث نساء، خمنتُ إحداهن الزوجة التي ترملت مؤخرًا)ص7 ، تابوت، شجرة عملاقة، القبر، حيث تمت الإشارة إلى هذه الموجودات كعلامات أو شارات مكملة لمشهد المقبرة ولتدل عليها، بما في ذلك "طائر أبيض" (مرق خطفا ليختفي في زرقة السماء) وهي إشارة إلى روح المتوفي الذي دفن توًا، إلا أن الكاتب لم يصرح باسمه لحظتها، وراح يخاتل المتلقي من خلال وصف مكثف لتلك المقبرة، فكانت تلك أولى الحكايات.

ويستمر الكاتب متكتمًا على اسم (المتوفى) فيعود إلى مخاتلة متلقيه أيضًا، وهذه المرة من خلال مكان آخر (بغداد) مقترنًا بزمن ماض، مشاغلاً به زمن الروي، لاستعادة ذكريات (حكايات) تماضت لزملاء دراسته في كلية الفنون الجميلة في ستينيات القرن الماضي يرويها "نزار": (وكأنني أحيي تاريخ صداقة بدأت منذ العام 1966 حتى هجرة طه النهائية في التسعينيات بصحبة زوجته جنان..) الرواية ص16 وحين يردُ اسم "طه طلال" فلن يحزره أو يفطن المتلقي إلى أنه هو المتوفى المدفون، فقد جاء ذكره على حافة ذكرى عملية ترميم "لوحة طه" من قبل الراوي. وسيُحيّن (الكاتب-الراوي) توقيت التصريح باسمه بعد أن طوى مع المتلقي اثني عشر صفحة من الروي بضمير المتكلم الاثير لديه، وهو يسرد تفاصيل علاقاتهما في الكلية. فيخبر زوجته التي كانت زميلته في الدراسة الجامعية قبلاً، بخبر وفاة "طه":

-: يبدو إننا فجعنا بوفاة أعز اصدقاءنا

-: من هو؟ لا تقل إنه طه طلال (الرواية ص13)

ومن هنا يكون "نزار" هو الراوي لحكايات (خانة الشواذي) وقد بدأ سفره العسير في تفكيك لغز مصير "طلال منذر"، ومصائر الشخصيات الأخرى، فكان لا بد من أن يتصدى لسيَر شخصياته ولوقائع التاريخ حاضرها وماضيها، منتقيًا أمكنة خارج حدود بدرة، وأحداثًا خارج نطاق زمن الروي، ليصل المتلقي بحقبة العهد الملكي في العراق والتظاهرات الشعبية ضده، وبمعسكر اعتقال مخصص للأرمن إبان جرائم الإبادة ضدهم عام  1915، ومن هنا نتبين قوة ذاكرة الركابي وغنى معارفه، وهو يغادر عتبات الحاضر إلى الماضي، فكانت حكاية (ملاك) التي ألقي القبض عليها لاشتراكها بالتظاهرات وحكاية بشير المجند قسرًا في الجيش العثماني وابن مدينة بدرة  الذي قرر تهريب الفتاة الأرمينية " كرستينا" من معسكر الاعتقال إلى (يرفان) إلى حيث موطنها في أرمينيا، وزواجه منها وانجابهما "بشير" وفتاتين، ثم تأتي رحلة العودة الشاقة، إلى موطنه "بدرة"، و"بشير" الابن لم يزل فتيًا آنذاك. وستغدو هذه الحكاية ولاّدةً لحكايات مختلفة في أزمنة وأمكنة حدوثها. حكايات لشخصيات الرواية الذين ما انفك الكاتب يرصدهم في أسفارهم من مكان إلى آخر مختلف في الدالات الجغرافية والزمنية الموازية لتحركاتهم، ما مهد للمتلقي إلى النفاذ إلى تفاصيل المكان وتفسير علاقة الشخصية به. وقد تسطّر كل ذاك على وقع الروي المثقل بظلال الأزمنة المعقدة التداخل. مكتظًا في فضاء (بدرة) ومنتظمًا في حيز سردي دائري متحرك، تتقاطع فيه الأحداث وتحولاتها وتقادمها على الأمكنة وعلى أجيال مختلفة تباينت في مستويات سلوكها وتفكيرها.

إن "بدرة" كما هي في هذه الرواية، ليست مدينة مغلقة أو تضيّق على ساكنيها على اختلافهم بل هي عادة ما تنفتح على مدن وقصبات مجاورة أخرى فالطريق بينها وبين مدينة الكوت فراغ مفتوح على اللانهاية في امتداده، ونادرًا ما يعثر المسافر فيه على شارات دالة على امتداد مساراته، إلا من طيور كاسرة وحيوانات مفترسة تنتظر فرائسها دومًا، فهي الطريق المحفوفة بصحراء مهددة بسيول تنجرف من سفوح جبال زاغورس، إلى الصحراء لتنطوي على مخاطر متوقعة وغير متوقعة، ويحتفظ سكان بدرة بحكايات مأساوية جراء تلك الاخطار التي قد حدثت فعلاً، ذلك أن صحراءها لن تحتفظ بأحد ما إلاّ ميتًا، والمارون خلالها لا يتركون فيها أثرًا ما، إلا كونهم جثثًا يتقادم عليها الموت والفناء. 

وتستقبل بدرة وافديها عبر هذه الطريق، بمن فيهم المنفيين الشيوعيين. من بغداد ومحافظات أخرى، فتضاف حكاياتهم إلى خزين ذاكرة المدينة المضيفة "بدرة". تضيفهم إلى فسيفساء مجتمعها المتباين طبقيًا وثقافيًا، ومتغايرًا في النوازع والميول، بطبيعة الحال، الأمر الذي بدت فيه الشخصيات مؤهلة نحو التعاضد والتكافل والتنافر، نحو الانفتاح والمحاورة والمواجهة والصراع، نحو الحب والكراهية، فهكذا هي الحياة كما يقول باشلار (غالبًا ما تنبعث في كل الأشياء عنما تتجمع التناقضات)، إذ حين لم يجد "بشير" عملا يعتاش منه، بعد عودته من سفر "يرفان" يدعوه جاره الطيب "ناظم" ليقتسم الرزق معه في مهنة سياقة سيارته بين بدرة والكوت. حتى انتقل هذا التكافل والشراكة في العمل إلى ولديهما نادر وفيصل. غير أن هذه العلاقة قد اصطبغت بغيضِ نادر من فيصل لأنه عمل رجل أمن، وظيفته مرافقة المعتقلين المنقيين  وتقييدهم بخانة الشواذي، الأمر الذي استهجنه "نادر"، يقابله غيض فيصل من نادر بسبب تودد الفتيات إليه لجماله، وهما فتيانًا، حتى إنه أطلق عليه النار من مسدسه، وهما شبابًا، فكاد أن يصيبه، وسيشتد غيضه أكثر منه حين استأثر نادر بحب "ملاك" الفتاة الأرمينية اليسارية المنفية في بدرة، وهروبهما معًا، لتموت ملاك  حاملاً بجنينها من نادر، في مستوصف بمندلي، وهي التي قد اؤتمن عليها فيصل في بيته ريثما يتوفر لها منزل خاص آخر. فكان لابد من أن يبلغ سيل غيض فيصل زباه، ليس بسبب مسؤوليته الأمنية عنها فحسب، بل بسبب حب ملاك لنادر أيضًا. وحين يتسلم فيصل نادرًا معتقلاً، سيقيده فيصل، كما اعتاد مع المنفيين إلى بدرة، يقيده في (خانة الشواذي) في باصه، فيلقى الجميع حتفهم جراء سيول الأمطار الجارفة في الطريق بين الكوت وبدرة، يصحبهم "طلال" والد" طه"- المثقف التنويري- الناجي الوحيد الذي اتُهم بقتل رجل الأمن "فيصل" ليُسجن في سجن بغداد ويضيع أثره أثناء أحداث المجزرة التي عرفت بمجزرة سجن بغداد عام 1953. فمصائر الشخصيات المحورية في هذه الرواية معلقةً بين الحياة والموت خلال رحلاتها، هروبها، ومغامراتها.

ومن هنا سيتكفل "نزار" بمتابعة البحث في معرفة مصيره من حيث انتهى دور أرشيف مرويات رسائل "طه" إليه بشأن سيرة حياة والده، وكأن ترميم نزار للوحة طه التي تجسد حادثة انجراف الباص جراء السيول على طريق بدرة – كوت وغرقها هو محاولته لترميم الحكاية برمتها والمضي بفك شيفرة الحكاية – اللوحة-

وتلك هي عديد حكايات (خانة الشواذي) التي شكلت بنيتها، تترى متلازمة في وشائجها، لتشدّ من أواصر أمكنتها، وتأثيرها في تبديد حصار الأمكنة المسورة بالانغلاق، حيث سيمتد نسغها ليغذي أمكنة أخرى ويصلها ببعضها، فأصبحت كل الأمكنة مفتوحة على الأمل والرجاء بالحرية، فحكاية "كريستنا" بدأت بالمعتقل لكنه انفتح خلال هروبها منه على أفضية شاسعة من جبال وأودية وأنهار حتى وصولها إلى مدينة يرفان خلال عملية الهروب، لتكتمل وظيفة الحكاية ذاتها في لمّ شمل (بدرة ويرفان) أن جاز التعبير، بمغامرة  العودة صحبة "بشير" إلى مدينته بدرة، فمن غرفتها هنا في "بدرة" تبدد "كريسينا" غربتها، مقاومة ضيق المكان، كلما أظنها الحنين إلى بلادها النائية، باستذكار طبيعة أرمينيا، ووسيلتها بذلك قص حكايتها مع "بشير" على قريناتها من نسوة الجيرة، وغناءً لقصائد شاعر ارميني (سيامانطو): في وديان الوطن".

كنت وحيدًا مع حلمي ذي الأجنحة المتكسرة"(الرواية ص35)

ومن هنا تجلت طبيعة حركية شخصيتها في مكانها الجديد(بدرة) وهي حركة تبادلية، إذ أسهمت في إنتاج فضاء آخر ضمن فضاء غرفتها.

  فيما تحولت غرفة "ملاك" في بيت "فيصل"، إلى حيز يضيق بها عند كل لحظة، يمكنه تجريدها من كينونتها ومن حواسها الإنسانية وغرائزها كأنثى، ويسلب منها كلَّ شعور بالطمأنينة وحلمها بالحرية، فكان عليها أن لا تخضع إلى ما تخلفه مخاوف النفي والأسر، فما (قيمة حياة منفية مثلي) الرواية ص108، حيث قالت. إذ اهتزت ذاتها الأنثوية المغرقة بمرارة العزلة والخيبة، بعد غرامها بنادر، وراحت تنسج خيوط الأمل بالخلاص ومدها خارج حيز حبسها لاستعادة وشائج علاقتها بالعالم الخارجي الفسيج  حيث الحرية، حتى غدت الغرفة  المنغلقة على اليأس كيانًا هشًّا مفتوحًا على الأمل لا يقوى على الصمود أمام تيارات غريزتها الأنثوية ورفضها للاضطهاد، لذا لم تعد غرفتها مكانًا محايدًا، بل اكتسب تجانسه الحسي مع إيقاع نوازع ذاتها الممتلئة بالأشجان والرغبات الحسية وعشقها لـ"نادر" وعلاقتها الطيبة بأمه، وهو ما خفّف عنها وطأة النفي والوحدة مع شعور بالألفة، وقد حفرت فعلاً ثغرة للخلاص، لتهرب معه خلسة وبعيدًا عن عيون "فيصل". في رحلة محفوفة بالمخاطر تنتهي بموتها وهي حامل، في مندلي وبعودة نادر مثقلاً بالخيبة، والخسران. متهمًا بتهريببها، ليقع معتقلاً بين يدي صديقه "فيصل" الذي تحول إلى غريم له. فيلقى حتفه مقيدًا بخانة الشواذي في الباص الخشبية التي أغرقتها السيول.

وقد أسهم تعدد الأمكنة وتنوع فضاءاتها في هذه الرواية في تشييد بنية فضاءها الواحد المتجانس الذي احتوى ثيمتها ككل، فلا (وجود لرواية تجري جميع حوادثها في مكان واحد منفرد وإذا ما بدا  لنا الرواية تجري في مكان  واحد  خلقنا أوهامًا تنقلنا إلى أماكن أخرى )4 إلاّ أن لا مكان بعينه  قد تسيّد على منطق  الرواية أو تسلط على فضاءاتها.

وعود على بدء لمرويات الأمكنة، سنجد أن الروائي كان قد وظف "التناظر والتماثل" بينها كإجراء جمالي، يتحكم فيه المستوى اللغوي المشيّد لجمالية السرد، مؤكدًا بذلك فرادة بنية سرديته (خانة الشواذي) ومن  مظاهر التناظر:

* رحلة عمل الأبوين (بشير وناظم) اليومية بسيارة الأخير (القجمة)، من بدرة إلى الكوت وبالعكس، لنرى نظيرتها رحلة ولديهما (نادر وفيصل) بسيارة الباص الخشبية عبر ذات الطريق المحفوفة بالمخاطر والتي فقد أثرها ناظم حياته غرقًا جراء السيول، فيما يموت نادر وفيصل بنفس السبب وبذات الطريق أيضًا.

* مغامرة بشير" في تهريب "كريستنا" من المعتقل العثماني للأرمن ومن ثم العودة معًا الى وطنه، تناظرها مغامرة ولده نادر في تهريب ملاك السياسية المنفية.

 إلا أنه في ذات الوقت يستمر التنافر والصراع بين بعض من شخصيات الرواية فيما يستقطب هذا الصراع شخصيات ثانوية أخرى، كعناصر مساهمة في إدامة فاعلية الأحداث، في الأمكنة المختلفة مع تقادم الأزمنة، إلا أن التناظر والتنافر لم يمنع النص إلا أن يكون وحدة منسجمة قائمة على جدلية العلاقة بين الشخصية والمكان وعناصر الرواية الأخرى. وإن الكشف عن تلك الجدلية، ناهيك عن الحكايات التي انتجتها الأمكنة المختلفة توضح تفسير رؤية الركابي للمكان الفني، هذه الرؤية التي تعيّن امتدادات المكان وتشابك وشائجه مع ساكنيه، ما اتاح للكاتب النفاذ عبر مغاليق الذات والكشف عن ما يتفاعل فيها من متغيرات المشاعر والمعاناة من الوحدة والعزلة. كما وتقودنا هذه الرؤية (إلى معرفة المكان وتملكه من حيث هو صور، فضلاً عن رسم طوبغرافيته وتجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيدلوجي)5

أخيرًا..

يمكنني القول أن لابد لقارئ هذه الرواية إلاّ أن يمتلك ذاكرة بقضة لتمكنه من وصل أوصال كل حكايات الأمكنة ببعضها فمثل هذه الراوية لا تعطي لمتلقيها فرصة قراءتها بتراخ.

 

الهوامش:

*(خانة الشواذي) رواية للكاتب عبد الخالق الركابي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 2019.

1. سمر روحي الفيصل. بناء المكان، مجلة الموقف الأدبي، دمشق، ع306، 1996م، ص13.

(بإشارة للكاتبة آسية بوعلي للمصدر أعلاه في مقالة لها بمجلة نزوى العمانية).

2، سيزا قاسم، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1984، ص 76.

4. ميشال بوتور، بحوث في الرواية، ت فريد انطونيوس، منشورات عويدات، بيروت 1986ط3، ص61.

5. حسن بحرواي بنية الشكل الروائي- المركز الثقافي العربي، ط1 1990. ص 100 –101.


عدد القراء: 3731

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-