العلم والإيمانالباب: مقالات الكتاب
أ.د. يعرب قحطان الدُّوري جامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة |
في الصراع بين منهجين معلنين، لا بد من تحكيم العقل والاستدلال بأفكاره المنطقية وحججه العقلانية. ثم علينا استدعاء مخزون الذاكرة من خلال الخبرة الشخصية والتراكم المعرفي النظري والتجريبي معًا لبلورة الفهم الصحيح بعيدًا عن الظنون والافتراضات المجتزأة. وهنا تكمن عظمة دمج العقل (العلم) والقلب (الإيمان) معًا للخروج بصورة متكاملة للوصول إلى الحكمة هدف الفلسفة وهي رياض العلوم بكل فروعه، وانتهاءً إلى الحرية والجوهر. تكمن العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان إلى الرابطة الكيميائية التي أنتجت العلوم والمعارف في مختلف الأزمنة والأمكنة، فكلاهما حافز للآخر بل والتزود من بعضهما البعض الآخر. وتنطلق القصة التاريخية من أفكار أرسطو وحِكمه المعبرّة، مرورًا ببراهين نيوتن التي كان يُعتقد أنها الجواب الصحيح لتفسير نظام الكون، واستثمارًا للمفاهيم الرياضية لنسبية أينشتاين عكس ثوابت نيوتن وبداية الأفكار الكمية تعمقاً إلى الذرة ومكوناتها وحقيقة أصل الكون من القوى الأربع، وصولاً إلى معتقدات ستيفن هوكينج بالغور عبر الزمن وفلسفته. ولن يتوقف العلم ما دامت العلوم والمعارف في تطور مستمر. فما تزال خيالاتنا وتفكيرنا وأسئلتنا تتحدى قدرة العلم في وضع الإجابات الكافية الشافية. بل والأدهى من ذلك، ما تزال تلك الإشارات العقلية على شواطئ المعرفة حاليًا. وما يزال التقصير العقلي جليًا في وضع تفسيرًا منطقيًا للحياة حول الحياة والكون. وبالمقابل نرى الذين تجاوزوا الإيمان إلى العلم، يحاول الملحدون جاهدين أن يبتزوا مدى حدود الجهل بالأشياء والظواهر الطبيعية، فما زلنا صغارًا للإحاطة بكل شيء من حولنا وأننا لم نحط بكل شيء علمًا، بل أوغلوا أكثر بالقول أن نسبية أينشتاين ما تزال لم تفسر جُل الظواهر والحوادث الكونية، وأثبتت الأيام اللاحقة أنها لم تغنِ ولم تسمن من جوع بلا جواب منطقي للحوادث. تقودنا هذه المحفزات للبحث والتساؤل عن الأصول والظواهر المتعلقة بتكويننا وماهيته ومراحل الوعي واللاوعي للجنس البشري، لنصل بالنهاية أننا مخلوقات تجاهد للوصول إلى الحقيقة الكاملة والتفسيرات الشافية لكل شيء محيط بنا في كوننا الفسيح.
وبغية تحقيق التكامل بين العلم والإيمان يرى البعض ضرورة نقاش الظواهر فوق الحسية والكشف عن تأثير الإيمان به، وقضية الوعي وعلاقته والكون. ويصل العلم بفرعه التجريبي إلى تفسير هذه الظواهر من خلال المستوى الكمي بالتعمق داخل الجسيمة مكانًا وحجمًا مثل النانوتكنولوجي، فمهما صغرت الأحجام زات المسافات المكانية. وهنا يتجلى إبداع التفكير للكشف عن الابتكار والجديد. وهذه بحد ذاتها علاقة جديدة وعميقة ووثيقة بين منهج العلم والإيمان لإثبات بعض الألغاز الكونية والحيوية ولا يمكن لأحدهما الانفراد بالحل دون الآخر. ولا نستبعد وجود الأكثر غرابة بما فيه من ظواهر ما زالت فوق إدراكنا وأحاسيسنا. فكلما زاد وعينا ومعرفتنا، ما زلنا طلبة علم نجهل الكثير مما قد تتضح صورته مستقبلاً أو كانت حلمًا لأسلافنا في الماضي. فالعلم والإيمان هو امتزاج الوعي والروح لتوضيح الحقيقة.
ولا شك أن العلم يضيف يوميًا الجديد والنافع، ويقدم اكتشافًا جديدًا لإماطة الغموض ولم يعد الشغف العلمي له حدود بل أصبحت جميع العلوم يربط بعضها بعضاً، وفي مقابل كل اكتشاف علمي جديد تثار قضايا يراد لها أن تكون تشكيكية أكثر منها علمية على الرغم من أنها لو نوقشت بشكل علمي رصين لم تكن لتحظى بكل هذا الأثر السلبي في نفوس المستمعين. لكن قد يوظف العلم لخدمة فكرة أو أيدلوجية فكرية أو غاية سياسية، كما فُعل مع الدين في أوربا بالقرون الوسطى وكما نراه اليوم في الشرق الأوسط. لقد شهد التأريخ البشري تقدمًا علميًا متميزًا لدى الغرب حالياً والعرب سابقاً، ولنقتفي أثرهما:
تقدم العلوم عند الغرب
إذا كان الصراع قائمًا بين منهجين، أحدهما يتطلّب تصديقًا بالقلب، وهو الإيمان، والآخر يفترض تصديقًا بالعقل، وهو العلم، فكيف يمكننا أن نجمع بين المتناقضين، الإيمان الذي لا يمكن شرحه منطقيًا وإدراجه ضمن معادلات حسابية، والعلم ذو المنطق الحسابي من خلال الاختبار العقلي والتجريبي. وكذلك أن الإيمان لا يخضع للمنطق في حين أن العلم يخضع له. هنا يكمن التحدي، خصوصًا والحقائق العلمية مقنعة للعقل البشري أكثر من الحقائق الإيمانية.
لقد حارب رجال الكنيسة العلماء في القرون الوسطى، نظرًا لاكتشافاتهم المتناقضة والمعلومات الموجودة في الكتاب المقدس، وحفاظًا على مكتسباتهم الشخصية من صكوك الغفران، والقرابين، وأموال التبرعات، وإغواءات النساء، رافضين الانفتاح على العلم بحجة عدم المساس بالكلام الإلهي، مهما كانت الدراسات العلمية حقائق مثبتة. كما لا بد من الإقرار أن الكتب المقدسة التي تلقفت الكلمة الإلهية ليست كتبًا علمية أو تاريخية. لأن العلم قابل للنقد والتطور. وقد تنفي نظرية علمية نظرية سبقتها. وبالتالي يستحيل اعتبار الكتب المقدسة كتبًا علمية فهي تعتبر إهانة بحق الله. فطبيعي على الكتب المقدسة أن تنفتح على العلم، وتقبل باجتهاداته الفكرية، وتحترم نتائج أصول التنقيب والبحث العلمي، مع عدم المساس بالوحي الإلهي. فهدف الإله ليس إعطاء معلومات علمية أو تاريخية للبشرية، بل إشراك الإنسان في تحقيق السعادة وإثبات ذاته فكريًا. وهنا نرى في كل عقيدة أو دين مفاهيم متنوعة نتيجة فهم الإنسان لعقيدته، كذلك يستطيع العلم التدخل في الدين وتصويب ما أمكن تصويبه، لكنه لا يستطيع أن يتطفل على الإيمان، ولا يمكنه شرح الإيمان من الناحية المنطقية البحتة، لأنه نتج عن هذه العلاقة مودةً بين العلو والسمو، يصعب على العلم تحليله وفهمه.
فعندما يكون المصدر الإلهي منقطع بين العلم والإيمان، هنا يكمن أهمية الفصل بين العلم والإيمان، فالأول يخضع للتحليل والاختبار الحسي والمادي، والثاني حرٌ لا يخضع إلا لإرادة الإنسان، وقدرته على استيعابه. إلّا أنه ينبغي أن يكون علاقة العلم والدين، من حيث إثبات الحقائق الكتابية وتاريخية النصوص، وصحية حدوثها، لا من حيث حقيقة الوحي. فالعلم ساهم إلى حد بعيد في الوصول إلى تفسير ظواهر عديدة عجز عنها الدين ذو المهمة الروحية وليست العلمية. ولذا على الدين أن ينفتح على العلم للخروج من القوقعة الدينية والانغلاق الفكري، ومن إقناع نفسه بامتلاك الحقيقة المطلقة. هذا اللقاء بين العلم والدين، لا ينفي بطبيعة الحال حضور الوحي الإلهي، فليس من شأن العلم إثبات هذا الوحي، مع التّأكيد على انعدام قدرته. ينطلق العلم من حقائق وإثباتات ودراسات، وينطلق الدين من واقع إنساني لشرح ما لم يفهمه. فالتباين موجود بين قصة الخلق في الروايات الدينية والإثباتات العلمية. وهذا لا يهدد الدين، لأن الإنسان لم يكن شاهدًا على عملية الخلق، فما قدمه العلم بهذا الخصوص يخضع للدراسة لغرض الإثبات واستبعاد ما ليس منطقياً. عندئذٍ سيصب العلم في خدمة الدين. ففي القرن الرابع عشر الميلادي تغلبت سلطة السلاح (القوة) على سلطة رجال الكنيسة، ثم تغلبت سلطة الطب (العلم) في القرن الثامن عشر. فكان انتقال تسلسلي أدى بالثوابت العلمية والاستدلالات الواقعية إلى فرض السعادة بالعقل لا بالقلب.
تقدم العلوم عند العرب
ولتشخيص الحالة فالدول ذات الأغلبية المسلمة تقف موقف الند للإسلام أو لا تعطي حقه المرجو في العلوم والمعارف وتجعل الإسلام مجرد شعائر لا غير. ومن الواضح أن الجو العام في البلاد المشار إليها هو جو غير علمي فيسهل الظن والتشكيك فيما يطرحه الإسلام، ولأن الإسلام أصبح على الهامش بين المسلمين، كذلك أصبح نصيبه من العلم والنظريات والمبادرات العلمية الحديثة ضعيفًا أو منعدمًا وأصبحت مراكز الأبحاث يصرف فيها النزر اليسير بقيود وضوابط تحد من قدراته. وما يزال البعض يحاول بمبادرات فردية الرد العلمي على ما يطرحه العلم ولكنها مجرد محاولات. يدعو الإسلام إلى العلم والاعتماد على العقل والتفكر في هذا الكون الفسيح، والعلم يدعو إلى البحث وسبر هذا الكون العميق ومعرفة ظواهره وقوانينه وخصائصه، بما يعين على استنباط التقرب أكثر من حقيقة الإيمان بالله تعالى.
ومن الواضح جلياً، أن رسالة العلم والإيمان تصبان في خدمة الإنسان. فالعلم يسعى إلى تحقيق الصورة الإنسانية بطريقة مختلفة عن تلك التي يسعى إليها الإيمان. فالعلم يحاكي ما هو منظور، ويعالج ما هو مرئي، ويستنتج وفقاً لدلائل مادية. أما الإيمان فيتعاطى مع الإنسانية وسلوكها بشكل غير منظور لتحقيق الكمال الإنساني. ولأن جُل العرب مسلمون، وتوسع الإسلام للشعوب الأعجيمة غير العربية، فالبديهي أن الإسلام دينٌ ودنيا، وإعجازٌ علميٌ وعقليٌ، وبلاغيٌ ونحويٌ، ووَحيٌ وعلمٌ، حوى قصص الأولين والآخرين، فالعلم بدون إيمان، يحوّل الإنسان إلى وحش، والإيمان بدون العلم، يحوله إلى خرافات وهرطقات.
لذا عندما يكون المصدر الإلهي متصل بين العلم والإيمان، هنا يكمن أهمية التوافق بين العلم والإيمان، وأي خلل بينهما خارج نطاق العقيدة الإسلامية الصحيحة مثل تقديس المعممين والسادة والعلويات (لا قدسية لمخلوق)، والتكيات والحسينيات (الأصل في المساجد)، والتوسلات والتبركات بالمخلوقات (الحقيقة في التوجه للخالق وحده)، والشركيات والدونيات (الأساس في التوحيد)، كلها تقود إلى انتهاك حرمة الإنسان، والاعتداء على كرامته بغلبة الجهل على العلم. وطالما أن العلم في خدمة الكرامة الإنسانية، فهو متوافق مع الإيمان. فعندما يكون الإيمان سليمًا يكون العلم ناجحًا. أن العلم والإيمان جناحا الإنسان، يطير بهما نحو الإنسانية الكاملة. والتخلي عن أحدهما يسهم في اعوجاج السير نحو اكتمال الإنسانية.
وفي حقيقة الأمر، توجد مدرسة علمية عربية اللسان، وإسلامية الثقافة، وحديثة العهد وضعت قدمها على الطريق الصحيح وتحتاج إلى دعم مادي بلا حدود لتحقيق نهضة علمية حقيقية يقوده فريق يقدّر العلم ويلزم الإيمان، وذو استقلالية إدارية وعلمية ومالية، ومؤيدة ومدعومة من قبل صنّاع القرار. فالتقدم العلمي مرهونٌ برفض العلماء لكافة البدع والخزعبلات والهرطقات والشعوذات أقولاً وأفعالاً.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أنهار خفية أم مياه جوفية: نظرة تراثية
- المدهش عند المصريين القدماء
- دبلوماسية العلوم
- الطاقة الشمسية في المشرق والمغرب العربي
- تعريب معامل التأثير
- البطالة التكنولوجية
- تهافت التكنولوجيا في زمن الكورونا
- العلم والإيمان
- وَهْم التكنولوجيا
- التعليم عن بعد والتنمية المستدامة
- مساهمة النانوتكنولوجي في التجديد التكنولوجي
- البحث العلمي التجاري في العراق
- ثقافة الإتقان في البحث العلمي
- قصة اكتشاف مادة الجرافين النانوية وجائزة نوبل
- التحفيز العلمي وجائزة نوبل
- أهمية الكتابة العلمية في اللغة العربية
- آفاق التكنولوجيا العميقة
- ضرورة إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في العراق
اكتب تعليقك