آفاق التكنولوجيا العميقةالباب: مقالات الكتاب
أ.د. يعرب قحطان الدُّوري جامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة |
يشهد العالم اليوم تسارع النمو والتطور التكنولوجي، فنجد وضعنا وسط حدث هائل وعظيم يسمى بـ"التكنولوجيا العميقة"، والمتوقع آثارها تغير العالم في مجالات عديدة مثل الصناعات والخدمات والتعليم وغيرها. تعتبر التكنولوجيا العميقة ليست مجرد تطور يمر عليه مرور الكرام، بل يعتبر انتقال جذري يشمل كافة جوانب الحياة، معرضة حياتنا إلى التغيير والتبديل والتطور، وعلى أثر الاستفادة الجمّة من التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، وعلم الروبوتات والبيانات الضخمة، سنشهد كما متوقع تشكيل طرق جديدة لمعالجة المشكلات التي تواجه الرعاية الصحية والتعليم والصناعة والزراعة وغيرها. كما يمكن الاستفادة من التكنولوجيا العميقة في البحث والتطوير لخلق حلول مبتكرة لغرض عمل تحسينات واقعية في فعالية وكفاءة وسائل الحياة المختلفة من خلال استخدام البيانات الضخمة لتحليل الاتجاهات والأنماط على درجة عالية من الدقة والضبط مؤديًا إلى حلول سريعة ومتطورة ربما كانت تعتبر مستحيلة يومًا ما. كما يرافق التكنولوجيا العميقة العديد من التحديات تتعلق بالخصوصية والأمان والجوانب الأخلاقية ذات الصلة بالتكنولوجيا المعنية، متطلباً نهجاً واضحًا وبنّاءً من خلال عمل فريق عمل واحد بغية الوصول إلى النتائج الإيجابية المرجوة.
صِاغ مصطلح التكنولوجيا العميقة Deep technology سواتي شاتورفيدي، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة الاستثمار Propel-X، حيث يشير المصطلح إلى فئة من الشركات التي تطور منتجات جديدة تعتمد على الاكتشاف العلمي أو الابتكار الهندسي معتمدة على استثمارات كبيرة لتحقيق نجاح تجاري بما فيها ضمان الملكية الفردية للابتكارات التكنولوجية العميقة مما يجعلها قوية التنافس والولوج الى الأسواق العالمية.
حيث تتضمن التكنولوجيا العميقة مجالات عديدة أبرزها المواد المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وسلسلة الكتل، والروبوتات، والضوئيات، والإلكترونيات، والحوسبة الكمومية/ مشجعة القطاع الخاص على الاستثمار بأكثر من 18 مليار دولار في 2018، موجهة تطبيق مجالات التكنولوجيا العميقة إلى الزراعة وعلوم الحياة والكيمياء والفضاء والطاقة الخضراء. كما تتميز التكنولوجيا العميقة بثلاث سمات رئيسية لها التأثير الجدي وهي:
• تكون الابتكارات التكنولوجية العميقة جذرية، وقد تنشئ أسواقًا جديدة، فغالبًا ما تتصدى شركات التكنولوجيا العميقة للتحديات الاجتماعية والبيئية الكبيرة، ولديها إمكانية التأثير على الحياة اليومية، وتعتبر رقائق السيليكون مثالاً على الابتكار الذي اضفى للعملية الحسابية سرعة وحجم لا يمكن تصورها سابقًا.
• الوقت اللازم للانتقال من العلوم الأساسية إلى تطبيق التكنولوجيا العميقة يتجاوز الوقت اللازم لتطوير نظيراتها القائمة على التكنولوجيا الحالية مثل "التكنولوجيا الضحلة" في مجال تطبيقات الجوال والمواقع الإلكترونية وخدمات التجارة الإلكترونية. فمثلاً استغرق تطوير التكنولوجيا من خلال الذكاء الاصطناعي عقوداً، والآن تتطور شركات الذكاء الاصطناعي بسرعة في العديد من المجالات.
• الطلب على تمويل ضخم في مرحلة مبكرة من أجل البحث والتطوير يجبرهم على التخلي عن تمويل المستثمرين والتي تؤدي لاحقًا إلى البيع التجاري أو الاكتتاب العام.
وبذلك يزداد تمويل شركات التكنولوجيا العميقة باضطراد، ووفقًا لمجموعة بوسطن الاستثمارية، ارتفع إجمالي الاستثمارات من 1.7 مليار دولار في 2011 إلى 7.9 مليار دولار في 2016 متمركزة بشكل أساسي في أمريكا والصين بنسبة 81% من الاستثمارات العالمية في التكنولوجيا العميقة. حيث تعد الصين المحرك الرئيسي في استثمارات التكنولوجيا العميقة مع زيادة التمويل بنسبة 80% كل عام مقارنة بـ 10% كل عام في أمريكا، تليها الدول الأوروبية في استثمار التكنولوجيا العميقة. وبالمجمل بلغ تمويل شركات التكنولوجيا العميقة حوالي 3 مليارات يورو، متضمنة شركات عالمية كبرى مثل غوغل وامازون وفيسبوك وأبل وغيرها اهتمامها العميق في الذكاء الاصطناعي والطائرات من دون طيار والسيارات ذاتية القيادة، وذلك بالتحول من الشركات الرقمية إلى التكنولوجيا العميقة.
ولنتصور وضع لوح شمسي شفاف على نافذة بيتك لتوليد الطاقة الكهربائية بالاستفادة من ضوء الشمس والأضواء الاصطناعية داخل الغرفة. تعتبر هذه التقنية الواعدة والتي تعتمدها شركة Enecoat Technologies اليابانية تطويرها واستعمالاها علميًا وتجاريًا في غضون ثلاث إلى أربع سنوات. وهنا يبرز دور شركات التكنولوجيا العميقة المعتمدة على التقدم العلمي الكبير والابتكار الهندسي عالي التقنية، فهي تتطلب البحث والتطوير المطول، وقد تستغرق وقتًا طويلاً للوصول إلى التطبيق التجاري، فغالبًا ما تتطلب استثمارات كبيرة لتحقيق النجاح التجاري، وعادة ما تكون الملكية الفكرية الأساسية للابتكارات التكنولوجية العميقة محمية بشكل جيد ويصعب إعادة إنتاجها، ما يجعلها ميزة تنافسية قوية أو عائقاً أمام الدخول في عالم الإنتاج والتسويق.
تعتبر جامعة كيوتو اليابانية قوية في مجالات العلوم التطبيقية مثل الطب التجديدي وعلوم الخلايا الجذعية وطاقة التكنولوجيا النظيفة. ولكن من أجل تسويق منتجات شركات التكنولوجيا العميقة يتطلب الأمر وقتًا طويلاً ومبلغًا كبيرًا من المال. ومعلوم أن فترة الاستثمار النموذجية لصندوق رأس المال الاستثماري قد يتراوح من 8 إلى 10 سنوات، وقد تحتاج بعض الأحيان إلى 20 عامًا من الدعم. لذا بدأت جامعة كيوتو في قسم الابتكار وصندوق الاستثمار الخاص جديًا فتضاعف عدد الشركات الناشئة التي أنشأها طلابها إلى 242 شركة. ومن قصص نجاح أخرى هي شركة تصنيع الرقائق الدقيقة في مجال التكنولوجيا العميقة، لصناعة أشباه الموصلات المتخصصة في استخدام الطاقة بكفاءة أكبر، وبالتالي إطالة عمر المنتج، مثل السيارات الكهربائية. فمنذ حوالي 30 عامًا كانت اليابان رائدة في صناعة أشباه الموصلات، لكنها اليوم تمتلك أقل من 10% من حصة السوق الدولية ما يجعله تحديًا خاصة وأن الصين والولايات المتحدة تحاولان أيضًا وضع بصمتهما في السوق الدولية متمثلة بقرار سيادي على مستوى عالي من الدولية لقيادة التنافس في السوق الدولية. وهناك حاجة إلى أشباه الموصلات على الصعيد العالمي، لذلك قد تحاول بعض الحكومات التدخل لضمان الإمداد لأسواقها المحلية، مع العلم أن إنتاج أشباه الموصلات يستغرق وقتًا طويلاً مع الحاجة إلى مختصين من الباحثين والصناعيين والكثير من الشركات مشكلة تحالفات صناعية عابرة للحدود.
يلاحظ نمو قطاع التكنولوجيا العميقة بشكل كبير على مدار العشرين عاما الماضية، إذ قفز عدد الشركات في أوروبا تقريبًا بنسبة 270% بين عامي 2010 و2020. وهناك عدد قليل من الشركات في العالم العربي من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثمار أكثر من 32.5 مليون دولار في 2021، متطلعين إلى الاستثمار في تكنولوجيا العقارات، والتكنولوجيا المالية، وتكنولوجيا التعليم، والتكنولوجيا الصحية، والخدمات اللوجستية والتطوير والعمليات، باستخدام التكنولوجيا العميقة والسبب في محدودية شركات التكنولوجيا العميقة لكونها مكلفة للغاية. مع الاشارة إلى أن كلفتها ما تزال أقل من نظيرتها في العالم المتقدم الأمر الذي يتطلب من شركات التكنولوجيا العميقة جذب الإيرادات من الخارج من أجل تحقيق عوائد جيدة.
ولا بد من التذكير بضرورة توفير مواهب متقدمة للغاية مع أنها مكلفة مثل المواهب الهندسية حيث تواجه معظم شركات التكنولوجيا العميقة نفس المشكلة المتمثلة في العثور على المواهب المؤهلة. إضافة إلى تحدي الثبات أمام شركات التكنولوجيا العميقة الغربية المدعومة ماديًا وتكنولوجيًا. لذا لا بد من إنشاء نظام متكامل للتكنولوجيا العميقة، وليس فقط من حيث التمويل، متمثلة بالتعاون مع الجامعات المختصة والدعم الحكومي للمساعدة في تنمية شركات التكنولوجيا العميقة. كما تقدم شركات التكنولوجيا العميقة القدرة على توليد الطاقة الكهربائية من خلال استخدام توليد الطاقة الكهربائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتشمل التكنولوجيات الصناعية الغذائية أيضا. فهو يتجه نحو الابتعاد عن الثقافة التقليدية في العصر الصناعي. أصبحت هناك تقنيات رائدة لأنظمة زراعية تسمى الزراعة الذكية ذات صلة بقدرات تنبؤية دقيقة للغاية، مما يسمح للمزارعين بحصاد كاملهم وزراعتها بأعلى المستويات اللازمة والإنتاجية والرونية. كما يعد تحليل سوق التكنولوجيا العالمية حتى عام 2028 دراسة متخصصة ومتقدمة لصناعة التكنولوجيا، مع التركيز بشكل خاص على تحليل اتجاهات السوق العالمية، لتقديم نظرة عامة على سوق التكنولوجيا المتخصصة ومن المتوقع أن تشهد تكنولوجيا التكنولوجيا العالمية ارتفاعًا ملحوظًا في المستقبل القريب والمتوسط.
وفي هذا الإطار، تتوقع سوق التكنولوجيا العالمية خلال الفترة من عام 2018 إلى 2028 فيما يتعلق بمناطق رئيسية، وهي أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا ومنطقة المحيط الهادئ (APAC) وأفريقيا (MENA) وأمريكا الجنوبية والوسطى. يتم تحليل التكنولوجيا حسب كل منطقة لاحقا حسب الأصناف والقطاعات العامة. حيث تحلل الدراسة سوق التكنولوجيا وديناميكيات السوق التي يعيشها المجتمع من خلال خصوصيته، أي الفرص والتوجه المستقبلي. مع تسليط الضوء على العوامل التي تشارك في التكنولوجيا العميقة.
وهنا تبرز قدرة سوق التكنولوجيا العميقة على احتواء العديد من الشركات على التنوعات بما في ذلك المنتجات والموافقات على المنتجات وغيرها مثل البراءات والأحداث. وكانت تنامي السوق محدثة توسعًا في الأعمال والأسواق. ومن المتوقع أن تكون هذه شركات التكنولوجيا العميقة اللاعب الأول في السوق الدولية لتحديد فرص التقدم والتطور والتنمية والاستثمار.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أنهار خفية أم مياه جوفية: نظرة تراثية
- المدهش عند المصريين القدماء
- دبلوماسية العلوم
- الطاقة الشمسية في المشرق والمغرب العربي
- تعريب معامل التأثير
- البطالة التكنولوجية
- تهافت التكنولوجيا في زمن الكورونا
- العلم والإيمان
- وَهْم التكنولوجيا
- التعليم عن بعد والتنمية المستدامة
- مساهمة النانوتكنولوجي في التجديد التكنولوجي
- البحث العلمي التجاري في العراق
- ثقافة الإتقان في البحث العلمي
- قصة اكتشاف مادة الجرافين النانوية وجائزة نوبل
- التحفيز العلمي وجائزة نوبل
- أهمية الكتابة العلمية في اللغة العربية
- آفاق التكنولوجيا العميقة
- ضرورة إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في العراق
اكتب تعليقك