ضرورة إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في العراقالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 10:15:40

أ.د. يعرب قحطان الدُّوري

جامعة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

يعتبر التعليم العالي والبحث العلمي جزءًا أساسيًا في بناء الأوطان والأمم، إلى جانب الصحة والإسكان، بل يتعداه ليكون سببًا في بناء الأجيال المتعاقبة. لكن عندما يكون في معضلة ووضع كارثي، فلا بد من إرادة وطنية تبدأ من صناع القرار (القرار السياسي) مع حنكة المستشارين أولي الخبرة، والرؤية الثاقبة لوضع النقاط على الحروف. لقد أصبح جليًا وجود انعكاسات سلبية عديدة لها تأثير بالغ الضرر، ومنها هذا المجال الحيوي في العراق على وجه التحديد. بل امتدت انعكاساته على مجال البحث العلمي ومخرجاته. وعلى سبيل المثال جاء العراق بالمرتبة الأخيرة عربيًا والـ 172 عالميًا من أصل 180 دولة في قائمة الدول الأكثر نظافة، حيث بلغت عدد نقاطه 30.4 من أصل 100 نقطة حسب تقرير مؤشر الأداء البيئي الأممي الصادر في أغسطس/آب 2024. لكن التعليم العالي والبحث العلمي مرتبط بمفهوم الرقي والنمو ومعيار للتقدم والتطور، وبهذا يعتبر هدفًا مهمًا لدى الدولة المتقدمة، فنجد كبرى الجامعات مثل لندن وأوكسفورد وكامبردج في بريطانيا وهارفارد وماساشوستس في أمريكا ومراكز البحث العلمي مثل ماكس بلانك في ألمانيا والمركز القومي للبحث العلمي في فرنسا ونظيراتها في بقية دول العالم، قبلة أنظار صناع القرار لبلدانهم، كونها مصنعًا لخريجي الحكمة والعلم والتكنولوجيا، بل تعتبر نقطة التطور المركزية لأوطانهم. ومن المعلوم وجود الكثير من المؤتمرات والندوات والورش العلمية لإرساء مقومات التعليم العالي والبحث العلمي، حيث ظلت الطريقة المثلى لتبادل المعرفة بوسائل شتى بين دول العالم. وأجزم أن البحث العلمي متمثلا بالبحوث العلمية والتكنولوجية كثمرة للتعليم العالي هو منقذ البشرية من مشاكلها وآهاتها، بل اللبنة الأساسية للاقتصاد الوطني المتين المبني على التنمية المستدامة. لذا نلاحظ العرى الوثقى بين الانفاق على التعليم العالي والبحث العلمي وربطهما بالقطاعين العام والخاص من جهة وتقدم الدول من جهة أخرى، كما مطبق فعليا في دول العالم المتقدم خصوصا، وكذلك دول العالم الانتقالي مثل ماليزيا.

لقد كثرت الدراسات والمقالات للنهوض بالتعليم العالي والبحث العلمي في مختلف أنحاء العالم، لكن سنركز نقاشنا على العراق للحصول على مخرجات إيجابية تنتقد الإخفاقات وتبرّز النجاحات لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة والحفاظ على الوطن. وآخرها التي كتبها أ.د. محمد الربيعي، الخبير في شؤون التعليم العالي لدى اليونسكو في العراق عن "لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ (إصلاح التعليم العالي الطريق السليم لإصلاح الدولة)"، المنشورة في صحيفة المدى بتاريخ 28/7/2024، حيث تناول بمهنية موضوع الإصلاح معتقدًا إن إصلاح التعليم يمكن أن يأخذ الأولوية على الإصلاح السياسي في العراق، ومستندًا الى حجج علمية تبعها تحديد العناصر الأساسية لهذا الإصلاح. 

وهنا ننظر بجد وحزم إلى الوقت الحالي الملائم للخروج من مرحلة التشخيص الى العلاج الفوري. فما تحتويه المكتبات والجامعات ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي من مخططات ودراسات وأبحاث واستشارات ومقترحات، تؤدي دورها الإيجابي (إن اجتمعت) واُخذت على محمل الجد إلى إرشاد صناع القرار إلى ما يجب العمل عليه لإصلاح فعلي عملي شامل. لقد أصبح لزامًا مراجعة الآلية التي تتم من خلالها تلك الاصلاحات، ويستوجب على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مراجعة الإستراتيجيات والمخططات، وطرح السؤال المنطقي: لماذا نفشل؟ ففيما يخص إصلاح التعليم العالي، فلا شك أن مخرجاته مرتبطة بنسبة الجودة في التربية والتعليم، وما يشهده الأساتذة الجامعيون من انتكاسة طلبتهم من حيث التواصل سواء بالتخصصات العلمية أو الإنسانية لشيء محزن حقًا. وبلا أدنى شك فالحالة المادية لعوائل الطلبة الجامعيين تلعب دورًا هامًا في تحديد توجيههم ورسم الطريق لهم نظرًا لوجود التعليم الحكومي والتعليم الخاص، ومكرسًا مفهوم الطبقية. ومن الملاحظ أن طريقة التسجيل في الجامعات المتبعة المعتمدة على الانتقائية المبنية على معايير في تخصصات عديدة تعد نقطة تحتاج إلى مراجعة حقيقية، إذ تقضي على أحلام الكثير من الطلبة. ونشير إلى ضرورة الاشتراك في خطة التنمية المستدامة والتي حددتها الأمم المتحدة في عام 2015 لتحقيق أهداف التنمية الاستراتيجية السبعة عشر (SDGs) الرامية إلى تحقيق الرخاء الاجتماعي والاقتصادي للناس وللأجيال القادمة. أحدها هو الهدف الرابع المتمثل بالمساواة في التعليم كما هو موضح في: "التعليم الجيد الشامل والمنصف وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع". ومن جانب آخر، تصنف العلوم الى أربع طبقات: رابعها، العلوم الدقيقة (العلوم والهندسة والطب)، وثالثها فلسفة العلوم، وثانيها العلوم الإنسانية، واولها العلم اللدني. فلا بد من إعادة الاعتبار للمسالك المتعلقة بالعلوم الانسانية. فقد أثبتت التجارب والتاريخ أن البلدان التي وصلت إلى مستويات متقدمة من الرقي والازدهار هي تلك التي كانت تعير اهتمامًا بالغًا بالعلوم الانسانية بما في ذلك الأدب والشعر والفلسفة والمسرح وباقي الفنون، كالحضارة اليونانية والإسلامية وغيرها حيث سما فيها مستوى الفكر والإبداع وكان العلم يعج بحلقات النقاش والمناظرات، وكان للبحث العلمي فيها حظًا وافرًا، فأنتجت فكرا برؤية ثاقبة وغزارة ملحوظة وصل إلى الصين شرقًا والأندلس غربًا. وفي عصرنا الحديث نجد الجامعات الأمريكية مثلا تلتزم باعتماد المواد التكميلية أو الاختيارية (Elective courses) بالإضافة إلى المواد الرئيسية، وهذا ما اتبعته جامعة آل البيت بالأردن في تسعينيات القرن العشرين ما جعلها قبلة النخبة من الأساتذة الجامعيين في الوطن العربي. ونحن من جهتنا نتمنى أن تنهج جامعاتنا العراقية نفس المنحى لأننا نريد طبيبًا ومهندسًا وعالمًا متقنًا لتخصصه، وفي نفس الوقت ملما بالفن والأدب بشكل أفضل. ولا ننسى إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية والجامعات ضمن ضوابط علمية بحتة، وتحديث وتطوير المناهج الدراسية، وفضائها الجامعي بما ويتوافق مع العصر الحديث. وخلق كراسي علمية في جميع التخصصات. ومن الضروري بمكان العناية القصوى بالموارد البشرية وهما الأستاذ والطالب وتطويرهما، وهما المعنيان الأساسيين بالتفاصيل التعليمية. مع التأكيد على تطبيق جميع معايير الجودة الشاملة بعيدًا عن أي مزايدات إيديولوجية أو سياسية أو حزبية أو محسوبية تفضيلاً مصلحة الوطن والأمة عليها. ويتبعها إرساء تعاون جاد وحقيقي مع كبريات المؤسسات التعليمية في العالم المتقدم، يرافقها ابتعاث حقيقي للطلبة الاكفاء حصرًا بلا محسوبية أو ولاءات إلى الدول المنتجة علميًا وفي كافة التخصصات بجدول زمني يتوافق مع خطط التقاعد الالزامي للجامعيين الحاليين الحاصلين على الشهادات العليا والترقيات العلمية بعد 2003 والتي رافقها شوائب أثرت على مستوى التعليم العالي. كذلك وضع خطة وزارية مركزية مؤقتة لبضع سنين لإدارة الجامعات العراقية، يتبعها استقلالية أكاديمية ومنهجية وعلمية للجامعات العراقية بغية النهوض الشامل. ويجب إعادة النظر في حجم الجامعات الأهلية مقارنة بنظيرتها الحكومية، وبرامج الدراسات العليا وربطها بحاجة السوق المحلية، وضوابط التعيينات في الجامعات ومراكز البحث العلمي والترقيات العلمية. ويتوج كل ذلك بتأسيس مجلس تعليمي أعلى للتعليم العالي والبحث العلمي يراقب عن كثب مسيرة الإصلاح ويتعقب الهفوات والخطاء لمعالجتها وتلافيها وضمان استدامة الإصلاح ونهضة التعليم العالي.

وفيما يخص إصلاح البحث العلمي والذي يعتبر ركيزة أساسية في مشروع الإصلاح الشامل، فإن البحث العلمي غاية الإنتاج الفكري ومحط أنظار مؤسسات التعليم العالي كقاطرة للتنمية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الانساني. والمؤكد أن البحث العلمي له دور كبير في رفع المستوى المعرفي والفكري للمجتمعات. وقد حان الوقت لمراجعة كل ما يتعلق بالبحث العلم من سياسات وخطط، والوقوف على مواطن الخلل بغية وضع الأهداف ورسم خارطة طريق واضحة المعالم. لأن الحاجة ملحة للبحث عن مصادر تمويل وفي مقدمتها الدعم الحكومي، ووضع مشاركات فعالة مثل ابرام اتفاقيات بين الجامعات والمؤسسات الصناعية وتحفيز القطاع الخاص، والتعاون العلمي الدولي، واستقبال علماء العالم والتعاون وتبادل الخبرات معهم. كما تبقى الحوافز مهمة جدا للباحثين والمبدعين لحفظ حقوقهم وخصوصياتهم الفكرية، فلا يأتي تطور وإبداع من فقر وإقلال.

وأتفق مع أ.د. فهر حياتي، عميد كلية الهندسة سابقًا في جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بالإمارات بتعليقه على مقالة الربيعي الآنفة الذكر: "واضح من المقالة لماذا أنك تدعو لإصلاح التعليم العالي أو التعليم بكل مراحله وما يؤدي إليه هذا الإصلاح. ونجحت في إرسال هذه الرسالة ولكن يبقى السؤال: أين نبدأ ومن يتولى إدارة هذا الملف ومن يديره ويتمكن من تنفيذه؟ برأيي المتواضع أقول إن للفرد المتعلم المتمكن الواعي القدرة على أحداث تغيير في حدود عمله ولكن ماذا لو كان هذا الفرد وحده وحوله عشرة يعارضونه ويحاربونه وفي أقل تقدير لا يساندونه لأن ذلك يكلفهم راحتهم أو يؤثر على مصالحهم وهم غير مستعدين للتضحية؟ ولو افترضنا أن هذا الفرد هو رئيس مؤسسة أو جامعة وهو في العراق ويؤمن بما كتبته فلماذا لا يصلح التعليم؟ وكيف يصلحه إذا كان حوله وبموقعه آخرون يرون مصالحهم الشخصية أهم من السير بهذا الطريق ومستعدون أن يتخلوا عنه وعن دعمه؟ ولهذا فالحل ليس فردي والحل الفردي يكون بتأثير ضعيف جدًا ومحلي ولا يؤثر في المجموع. فلهذا مثل هذا الحل لا يأتي إلا من سلطة واعية تعرف وتفهم وتعي وهي صاحبة قرار وصاحبة نفوذ وقوة وهيمنة".

وهنا أشير بصراحة وصدق لا يقبل الشك إلى ضرورة تفضيل الحل السياسي عبر صناع القرار لتنفيذ سياسات إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي في العراق. وهنا أمثلة حية خلال القرن المنصرم. اتخذت المملكة العراقية في عشرينيات القرن العشرين قرارًا سياديًا بالبعثات العلمية للطلبة العراقيين إلى أمريكا وانكلترا فأنتجت لنا عمالقة التدريس الجامعي والفكر والبحث العلمي مثل الكبار أحمد سوسة وعبدالعزيز الدوري وصالح أحمد العلي وعبدا لعزيز البسام وجميل الملائكة ونازك الملائكة وزوجها عبدالهادي محبوبة ونجيب خروفة وآخرون أسسوا للتعليم العالي مكانته العالمية ومستدلٌ على أن خريجي كلية الطب بجامعة بغداد منذ ستينيات القرن العشرين لم يحتاجوا إلى معادلة شهاداتهم الجامعية في المملكة المتحدة لدليل على رصانة التعليم العالي آنذاك. كذلك حقق اليابانيون والألمان نهضة بلدانهم بعد خرابهما في الحرب العالمية الثانية بقرار سياسي من أجل رفعة بلدانهم وتقدمها، فأصبحت جامعاتهم ومراكزهم البحثية محط أنظار كل دول العالم أثمرت على العشرات من جوائز نوبل والجوائز العالمية في مختلف التخصصات. كما يجدر بنا الذكر القرار السياسي في قانون الكفاءات العراقي في 1974 ذا الأثر الكبير في جذب حملة الشهادات العليا العراقيين من الخارج ومنحهم امتيازات مالية وتشجيعية ما صنع ثورة علمية حقيقية حيث كانت ابحاثهم تسبق ماليزيا بعقود وتنافس أمريكا في حينها. وأتذكر ندوة التعليم العالي في 1991 والتي عالجت الإخفاقات وأسست لنهضة غير مسبوقة بالرغم من الحصار المفروض على العراق وقتذاك، ونتج عنه ابتكارات عديدة مثل لقاحات وأدوية طبية مبتكرة، ودراسات تكنولوجية لطائرة درون وغيرها. وانقل تجربة الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية السيد الشاذلي القليبي والتي نقلها على شاشة MBC في تسعينيات القرن العشرين، والذي أشار إلى أول قرار اتخذته السوق الأوربية المشتركة في خمسينيات القرن العشرين كان توحيد سعر الطماطم بين دول السوق ليس لأهمية المنتج فحسب، بل لضرورة واهمية القرار السياسي على بساطته.

وختامًا، أؤكد على ضرورة الإصلاح السياسي وأولويته على إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي وكذلك بقية مجالات الحياة على السواء.


عدد القراء: 842

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-