السوريالية وعمارة المفارقاتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-31 05:29:29

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

لم تحدد معظم الأدبيات التي أرخت للحركة السوريالية في الفنون المختلفة، الحد الفاصل لتعريف السوريالية عما سواها من مدارس فنية ظهرت في تاريخ الفنون. ربما كانت الصعوبة الأكبر التي تقفل حائلًا دون الوصول إلى تعريف متفق عليه، تتمثل في هذا التباين الكبير في أساليب الفنانين المنتمين للسريالية. لكن معظم التعريفات المتداولة تدور حول علاقة هذه الحركة بمفهومي الغرابة والحلم. فالسوريالية هي تلك الحركة التي تعلو على الواقع وتتجاوزه وتستدعي أحلامنا عنه فتقيم علاقات غير مألوفة بين الأشياء أو تضع عناصر مالوفة في مواقع غير مالوفة.

ظهرت السوريالية كمدرسة أدبية في العقد الثالث من القرن العشرين في فرنسا على يد الفنان الفرنسي أندريه بريتون في العام 1924، امتدادًا لمدارس واتجاهات أدبية عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى أهمها الدادائية؛ لتؤكّد على أهمية اللاشعور واللاوعي والخيال والأحلام، وضرورة التعبير عن ذلك في الأدب والفن، تعبيرًا صادقًا عفويًا بعيدًا عن تدخل العقل والمنطق. وتعني السوريالية حركة ذاتية نفسية صافية يقصد بها التعبير عن العمل الواقعي للفكرة التي تهجم إلى الفكر في غياب مراقبة العقل، وبعيدًا عن كل اهتمام جمالي أو أخلاقي بطرح الفكرة أو المشاعر، ويتم التعبير عنها شفويًا، أو كتابيّا، أو بأي طريقة أخرى.

كان من أبرز ما جاءت به هذه الحركة، القول بأن العقل هو أداة تحجيم للإنسان وخياله، فهو يؤطر إبداعه وتعبيره اللامحدود، وبالتالي يتوجب إطلاق العنان للخيال في أن يعبر بتلقائية بعيدًا عن حكم المنطق وسيطرة العقل. وما يعبر عنه العقل اللاواعي، هو الحقيقة الموجودة داخل الإنسان، ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا قوة خياله الناتجة من أحلامه ولا وعيه. كما اعتبروا الاتجاه إلى الغموض في الفن والأدب، هدفًا ساميًا لا يمكن الحياد عنه. آمن السورياليون بأن التلقائية أهم أدوات العمل الفني والأدبي، وتعني تطبيق الأفكار الأولية دون معالجتها بالمنطق. كما دعوا إلى تحرير اللغة والأفكار والمعتقدات من قيود العقلانية.

في كتابه تاريخ السوريالية، يعرف موريس نادو الشيء السوريالي على أنه بوجه عام شيء غريب، خارج إطاره العادي، ويستعمل لأهداف تختلف عن الأهداف التي صنع لأجلها، أو التي نجهل طريقة استخدامها. هو أيضًا الشيء الذي يبدو مصنوعًا تلقائيًا، ولا هدف منه سوى إرضاء صانعه. وهو أيضا كل شيء مصنوع وفقًا لرغبات العقل الباطن والعلم. فالأشياء هي تجسيد لرغبات المبدع.

انتشرت السوريالية وازدهرت بقوة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين في واقع غربي متأزم، نتيجة حربين عالميتين مدمرتين، فكانت السوريالية، بأدواتها المختلفة، نوعًا من التمرد على هذا الواقع شديد القتامة. وعلى الرغم من ظهورها في الأشكال الفنية المختلفة من أدب ورسم وسينما وحتى موسيقى. إلا أن القليل من المؤرخين للحركة يتوقفون أمام محاولات الحركة في مجال العمارة، لدرجة تدفعنا إلى التساؤل بالفعل عن وجود حركة حاولت تطبيق مبادئ السوريالية في التصميم المعماري وعن الكيفية التي يمكن من خلالها فهم العمارة السوريالية.

في الواقع كان الفنانون السرياليون مولعون دائمًا بالهندسة المعمارية- خاصة التصميمات الداخلية للمباني. في بداية نشأتها، وكمحاولة للتمرد على "المدن المثالية" المزعجة والعقلانية في عصر النهضة، صمم الفنان الإيطالي جيورجيو دي شيريكو مشاهد تشبه الحلم؛ مكونة من مساحات حضرية مليئة بالبنيات الكلاسيكية الجديدة، والمنحوتات والقلاع التي تعود إلى العصور الوسطى، والتي تبدو على تناقض كبير مع المداخن الصناعية. وبالمثل، حول الرسام البلجيكي رينيه ماغريت بنية الحياة اليومية إلى صور رمزية محيرة في عمله الوقت النافذ Time Transfixed (1938)، ما يبدو أنه محرك لعبة يعمل على مراحل من خلال عباءة داخلية فيكتورية للمدخنة. يصبح المشهد الداخلي المألوف صورة رمزية تشير إلى السرعة التي أصبحت عليها طرق السفر الجديدة وتأثيراتها على الحياة الحديثة.

                                                                   ماغريت (1938)

سلفادور دالي ونقد العمارة الوظيفية

كما هو معروف كانت السوريالية في الأساس حركة موجهة ضد الفن الوظيفي والنزعة الواقعية. تشير بعض الشذرات التي تركها سلفادور دالي إلى موقف معادٍ للنزعة الوظيفية في المعمار. وقد أظهر دالي عداءً كبيرًا لأعمال لوكوربوزية، يقول: "خذ مثلًا أعمال لوكوربوزييه وعمارته المنحطة، وهذا الثقل السويسري الذي يسبب عسر الهضم لآلف المعماريين والفنانين الشبان، لفترة من الزمن كان من الممكن الاعتقاد أن هذه العمارة ستسود مدن البشر، لكن ما الذي حدث الآن؟ إن ثقل الأسمنت الذي استخدمه سيجره للأسفل (مات لوكوربوزييه غرقًا) وتحول عمله الذي كان يقصد منه أن يكون وظيفيًا إلى مجرد فراغ العقل". والآن يتثاءب الناس عند رؤيته، حتى المجمعات الكبيرة التي كان من المقصود أن تكون أساس رؤيته المعمارية قد تم هجرها لصالح "الحماقة" الفردية..فالعالم لديه ما يكفيه من المنطق والعقلانية! التي صورها أساتذة المدرسة السويسرية. ليس لدي شيء ضد رجال البنوك السويسريين أو الحمقى منهم، على العكس ولكن على هذه البلاد أن تتوقف على تصدير العمارة". بالنسبة لدالي يتوجب على العمارة أن تتجاوب مع عصرها الزمني على نحو دقيق، وقد تشبع العصر الحديث بالعمارة الوظيفية التي وصل بها لوكوربوزييه إلى لحظة الذروة فيها، والتي أصبح من المتوجب تجاوزها. إنها، على حد تعبير دالي، واجب منزلي صغير يؤديه تلميذ يحاول أن ينجز مشكلات نظرية، وليست تعبيرًا عن الاحتياجات الحيوية للعصر". العمارة السوريالية كما يحددها دالي ينبغي أن تكون عمارة مفارقة تجمع بين المتناقضات، عمارة تمتلك زخمًا لونيًا يرضي العين ويسر الناظرين.

في عام 1925 يلتقي سلفادور دالي برائد الاتجاه الوظيفي لوكوربوزييه الذي يطلب رأيه حول مستقبل العمارة، فيرد دالي قائلًا "أنا اعتقد أنها يجب أن تكون "ناعمة ولها شعر". يقصد دالي أن تنبض العمارة بالحياة كما لو كانت كائنًا حيًا.

فريدريك كيسلر وعمارة المفارقات

جاءت العلاقة الأكثر شهرة بين السوريالية والهندسة المعمارية في شكل مشروع دام عشر سنوات من قبل المهندس المعماري النمساوي الأمريكي فريدريك كيسلر. جاءت أولى أعمال كيسلر بعد الانتقال من فيينا إلى نيويورك في العقود الأولى من القرن العشرين تصميمًا لدار عرض سينمائي مكونة من أربع شاشات، كانت الصورة تنتقل فيها من شاشة الى أخرى ومنهم إلى السقف أيضًا.  وبعد ارتباطه بحركة دي شتيجل De Stijl، عمل كيسلر في معرض لـبيجى جيجنهايم Peggy Guggenheim، وكذلك تعاون مع كلٍ من مارسيل دوشام وأندريه بريتون في تصميم "خرافة سال" والذي شارك به في "المعرض الدولي للسوريالية" في باريس عام 1947.

بعد عمله مع السورياليين، بدأ كيسلر في التركيز بشكل مكثف على مشروعه الأكثر شهرة- البيت اللانهائي The Endless House. اعتمد هذا المشروع المفاهيمي على تصميماته السابقة للمسرح الذي لا نهاية له، حيث جادل كيسلر حول أهمية الارتباطات الديناميكية بين الأشياء، المساحات، والخبرات الإنسانية. وفقًا لكيسلر، "لا ينبغي استخدام فن النحت والرسم والعمارة كأوتاد تعمل على تقسيم تجربتنا في الفن والحياة؛ إنهم يتناغمون سويًا لربط الحلم والواقع". وفي عام 1933 طور كيسلر بشكل نهائي بيته اللانهائي وهو المشروع الذي لن يكون قادرًا على تحقيقه، لقد أراد كيسلر أن يبتكر (عمارة لانهائية) وقد كان ضد الغرفة المستطيلة والبيوت بأشكال الصناديق وضد الألواح والحشوات. أما البيت اللانهائي فهو هيكل أسمنتي بجدران وسقوف تلتوي الى الداخل لتحقق فضاءً مغلفًا بشكل مثالي. وداخل البيت الذي يبدو للعيان كلاً مترابطًا شبيهًا بالكهف خطط لكل شيء بأدق التفاصيل: النوافذ ذات أشكال وأحجام مختلفة كما تتوفر ثلاثة أنواع من الإضاءة، الأثاث بأشكال نحتية ويندمج مع العمارة في وحدة واحدة. ومثل دالي ودي شيريكو وماغريت، سعى كيسلر إلى خلق مساحات داخلية تجعل فضاء المنزل يبدو، من الناحية النفسية، أجنبيًا ومألوفًا في الوقت ذاته. تم تصميم كل عنصر من عناصر البيت لإظهار العناصر الرئيسة له على نحو شاعري. الأبواب المطوية، تداخل المساحات مع بعضها البعض، الجدران الداخلية الشبيهة بالرحم والضوء الذي يتبع رواد المكان أينما ذهبوا في كافة أرجاء البيت لذي لا نهاية له على ما يبدو.

بينما ظل المشروع بدون بناء، كشفت سلسلة من الدراسات من 1947-1960 عن افتتان كيسلر بالسوريالية ومحاولة تطبيقها على العمارة. لقد قال دالي ذات مرة: "إن السوريالية مدمرة، لكنها تدمر فقط ما تعتبره قيودًا تحد من رؤيتنا". وبالتالي، كان من المحتم أن يتم اختيار المنطق الرسمي للفن السريالي من قبل المهندسين المعماريين المرتبطين بحركة "تفكيك البنيوية" في أواخر القرن العشرين. وبينما لعبت السوريالية ولا تزال تلعب دورًا حاسمًا في العمارة المعاصرة، إلا أن تأثير السوريالية وصورها لم يلاحظها أحد إلى حد كبير في العالم الحديث. وحيث لا يمكن تمييز الواقع الحقيقي عن الواقع المفرط، ازدهرت السوريالية كمنطق غير مرئي وراء التشكُّل المستمر للهندسة المعمارية واستجوابها للواقع.

كيف لنا أن نبني معمارًا سويرياليًا؟

 على هذا فإن وضع الأشجار فوق سطوح الأبنية هي نوع من "السوريالية" أو "عمارة سوريالية" إذا ما خصصت للعمارة تحديدًا. لكن هل "حدائق السطوح" هي عمارة سرويالية فعلًا؟! لا يمكن بالطبع النظر إلى كل حدائق السطوح بوصفها "عمارة سوريالية"، وهذا يدفعنا للعودة إلى تعريف السوريالية القائل بأنها وضع عناصر مألوفة في مواقع غير مألوفة. فلكي يكون التعريف دقيقًا يجب ان تكون السوريالية: وضع عناصر مألوفة في مواقع غير مألوفة بطريقة غير متوقعة!. فوضع الشجرة فوق سطح ناطحة السحاب قد اصبح مشهدًا مألوفًا وهو لا يعطي أي انطباع بالسوريالية ولا حتى بالخيالية "الفنتازية".  لكن ماذا لو وضعنا شجرة صنوبر عملاقة فوق قمة ناطحة السحاب تلك؟! بالتأكيد سوف يكون المشهد أكثر إثارة! وسيكون أكثر سوريالية لو قلبنا الصور، فوضعنا ناطحة السحاب فوق شجرة الصنوبر وليس العكس!!. وسيكون أكثر سريالية وغرابة عندما نضع ناطحة السحاب فوق برعم زهرة صغيرة!!.

ولعلّ أغرب الأعمال السوريالية، في وقتنا الراهن، التي قدمت الهندسة المعمارية بشكل واقعي جدًا وفي الوقت ذاته خياليًا على نحو كبير، هي أعمال المصور الكاتالوني فيكتور إنريش Victor Enrich، حيث تعتمد أعماله على التلاعب بالعناصر المعمارية الحقيقية ليقدمها بطريقة خيالية تتجاوز ما هو متعارف عليه طبيعيًا. جاءت أشهر أعماله فيما عرف باسم مشروع بورتريه المدينة City Portrait  عام 2011، والذي يظهر كتلاً معمارية غريبة ومستحيلة واقعيًا كالأبراج المنحنية، المنزل المنقلب، ناطحة السحاب التي تنقسم عموديًا إلى نصفين، والطرقات التي تمتد بشكل عمودي نحو السماء. إضافة إلى تصميم آخر  يقدم 88 صورة سريالية مختلفة لفندق دوتشر كايزر Deutscher Kaiser  في ميونيخ.

 


عدد القراء: 3371

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-