تحولات الصورة من الواقعي إلى المجازيالباب: مقالات الكتاب
أ.د. بدر الدين مصطفى أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة |
لماذا نلتقط لبعضنا الصور؟ بعيدًا عن المتطلبات العملية، تبدو الصورة قادرة على تسجيل لحظات فريدة في حياتنا، لحظات غير قابلة للتكرار، ومن ثم تغدو الصورة هنا أداة سحرية لإيقاف الزمن وتثبيت اللحظة. هذه الخاصية الفريدة للصورة تكشف في الوقت نفسه عن خاصية أخرى، تتمثل في كونها، أي الصورة، في جوهرها كاذبة، لأنه في الواقع لا يمكن أن يتوقف الزمن. ويترتب على ذلك أن القول بأن الصورة الفوتوغرافية تحاكي تمامًا الواقعة المصورة هو قول يفتقد الدقة، لأنه يتنافي ببساطة مع الخاصية الثانية التي ذكرناها.
من ناحية أخرى تبدو الصورة وكأنها دليل وجودنا في العالم، توثيق لهذا الوجود، فلسان حال الصورة التي نلتقطها لأنفسنا أو للآخرين "انظروا لقد كنت موجودًا هناك". إذن فالصورة في جوهرها توثيق للوجود والموجود. ونحن في الغالب نلتقط الصور للأشياء التي تبدو في الواقع مهمة بالنسبة لنا، ونتغاضي عن الأشياء محدودة القيمة. ويبدو مفهوم القيمة هنا مرتبطًا بشدة بالزمان أكثر من ارتباطه بالمكان، بمعنى أننا نلتقط صورًا لأحداث تبدو لنا غير قابلة للتكرار زمنيًّا. أما المكان فيصبح تابعًا للزمان، فنحن في الغالب نكون شغوفين بتصوير الأماكن التي نشعر أننا موجودون فيها بصورة مؤقتة.
من المؤكد أن آلة التصوير قد امتلكت سطوة هائلة في عصرنا الحالي، وقطاع عريض من الناس الذين ترتبط حياتهم بتلك الآلة الرهيبة (الفنانون، السياسيون، الإعلاميون......) يكتسبون كينونتهم–مهما أظهروا تأففهم- عبر ذلك الوميض..وميض الكاميرا. ولنتخيل معًا هذه الحالة (يذهب فنان أو سياسي ما إلى مكان ما دون أن يسطع وميض كاميرا ما ليلتقط صورة له، كيف سيكون شعوره؟).
كما يبدو حضور الكاميرا له انعكاساته الكبيرة على الشخصية المصورة، فشعور الفرد بأنه مصور يدفعه في الغالب إلى إظهار أكبر قدرات تمثيلية له، لذا فالكاميرا تساهم بصورة أو بأخرى في اغتراب الإنسان عن ذاته مادام يقع تحت تأثيرها.
بالإضافة إلى هذا فإن الكاميرا تفضح وتعري الذات، فلحظات ومواقف عديدة في حياتنا لا يمكن أن نقبل بتصويرها، بل إن الفكرة نفسها على مستوى الخيال تبدو مقلقة كلما تخيلناها. والصورة في حد ذاتها حتى لو لم يتم نشرها تعري الذات أمام نفسها (جسد لنا المخرج العبقري مارك رومانيك Mark Romanek في فيلمه one hour photo في مشهد النهاية حينما قام المصور (روبن ويليامز) بالتقاط صورة للزوج مع عشيقته وهم عرايا، وترك لهم الصور بعد تصويرهم، أي أنه فقط قام بتصويرهما وترك لهم ما صوره دون نشره، لكن كم الهلع والندم اللذان ظهرا على وجهيهما يكشفان عن مدى حقارة فعلهما، فقط لأن الصورة قد وثقت هذا الفعل).
للصورة الفوتوغرافية إذن قوة لا يمكن تجاهلها، بل هي في الواقع ربما تكون أقوى من الحدث نفسه عندما يتأملها الفرد مستعيدا دلالات الأحداث بطريقة أكثر تمعنًا.
وعلى الرغم من أن الصورة (في معناها العام وليس الفني فقط) –شأنها في ذلك شأن ظواهر أخرى عديدة- قد مرت بمراحل تحول وتطور حتى بلغت ما بلغته الآن من تقدم تقني هائل على كافة المستويات، إلا أنه يمكن التمييز بين مرحلتين رئيستين تحولت الصورة فيهما من الشيء إلى نقيضه: المرحلة الأولى هي المرحلة الحداثية، والتي كانت تعبر فيها الصورة عن موضوع واحد؛ أي كانت هناك علاقة هوية بين الصورة والموضوع المشار إليه، بين ما تجسده الصورة وبين الواقع الفعلي. كانت الصورة مرتبطة بسياق ما (تاريخي، اجتماعي، سياسي) وكانت غالبًا ما تظل مرتبطة بهذا السياق، بحيث إن إمكانية استخدامها في سياقات أخرى مغايرة تصبح شبه منعدمة. أما المرحلة الثانية فهي المرحلة ما بعد الحداثية، ويمكن تحديد أهم سمات الصورة فيها على النحو الآتي:
1 - أنها صورة متشظية، فهي لا ترتبط بواقعة أو حدث محدد، أي أنها تمتلك قدرة ذاتية على العمل دون الارتباط بموضوع أو سياق معين. إنها هوامات أو سيمولاكرا، نسخ مزيفة شريدة لا ترتبط بأي أصل، لكنها- على خلاف ما ذهب أفلاطون- تمتلك قوة الأصل، بل ربما تفوق الواقع نفسه من حيث قدرتها على التأثير في الُمشاهد بفضل التقنية وعوامل الإبهار.
2 - تحولت الصورة من كونها محاولة لمحاكاة واقع، إلى نموذج يحاول الواقع محاكاته. فقد أصبح الواقع صورة شاحبة من الصورة. الصورة هي الأساس وليس الواقع..الصورة هي المعيار الذي يقاس بواسطته صدق الواقع أو كذبه. أصبحت الصورة تسبق الواقع وتمهد له، الصورة تحدث أولاً، ثم تحدث المحاكاة لها في الواقع. فالعلاقة التقليدية بين الخيال والواقع باتت اليوم مهددة بالتدمير، بحيث أصبحنا لا نعرف ما الواقع وما الخيال في عالم الصور المحاكية والمحاكاة الزائفة. لقد حطمت ما بعد الحداثة اليقين الحداثي في أصالة الصور كمتغير موثوق به أو أصيل أو منفرد، "ففي المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها برمتها على أنها تراكم كثيف من الاستعراضات وكل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولاً إلى تمثيل" كما يقول جي ديبور في كتابه مجتمع الاستعراض.
3 - فقدت الصورة ما بعد الحداثية المعنى عندما "اختطفتها" الطبقة الرأسمالية عابرة القوميات، لاستخدامها كدال عن المكانة، وعندما ظهرت على السلع الاستهلاكية كالملابس والأحذية والحقائب، لتشير إلى شركة أو بيت أزياء راق دونما معنى تقريبًا، لكن أصبحت الصورة أو الأيقونة في النهاية دالة على المكانة الاجتماعية للأفراد.
لقد كانت الرموز الدالة على الثروة، والمكانة، والشهرة والسلطة، وكذلك الطبقة، على الدوام، مهمة في المجتمع البرجوازي، إلا أنها لم تكن يومًا باتساع وأهمية ما هي عليه اليوم....ومع توفر إمكانية إنتاج الصور كما السلع بحسب ما نريد تقريبًا، غدا أكثر يسرًا للتراكم الرأسمالي أن يتطور جزئيًا، على الأقل، على قاعد إنتاج الصور وتسويقها. وعليه فعالم الصور هذا يمكن تفسيره، جزئيًّا، باعتباره صراعًا من طرف الجماعات المقهورة من كل نوع لتأسيس هويات خاصة بها، ثم الاندفاع الرأسمالي بعد ذلك للإفادة من ذلك عبر تسويقه تجاريًّا. كان المطلوب أن يكون الأمر كما لو أننا نعيش في عالم من الصور المبتكرة المتغيرة باستمرار. وكان طبيعيًّا أن يكون الوقع السيكولوجي لذلك طاغيًا، وأن يوضع موضع التنفيذ في قوة مضاعفة.
من الفلاسفة الذين قدموا إسهامًا كبيرًا في هذا الصدد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار (1929-2007). فقد ذهب إلى أن هناك صورة جديدة فاتنة للثقافة المعاصرة في انتشار اليوم. فإذا كانت الحضارة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين قد أعلت من شأن المشهد والصورة، وجعلت منهما وسيطًا هامًّا من وسائط المعرفة؛ فإن ما حدث الآن ونتيجة لهذه المكانة التي احتلتها الصورة، هو غياب الواقع وتواريه خلف عالم من الصور. انكمش الواقع وتضاءل حجمه حتى بات صورة شاحبة، وما لبثت هذه الصورة أن انمحت بالكامل حتى أصبحت غير ذات وجود، وفي المقابل زادت سطوة وهيمنة الصورة التى كان ينظر إليها على أنها محاكاة لعالم الواقع، فأصبحنا نعيش في عالم مليء بالصور غير ذات الأصل، صور معلقة في فضاء خاص بها، هذا الفضاء يتمدد باستمرار وتزداد رقعته، إلى أن أصبح يحتل نفس الفضاء الذي كان يحتله الواقع، نوع من الإزاحة والإحلال إن جاز التعبير. على أن الفرق بين الواقع الجديد والواقع القديم، ليس فرقًا في النوع، إنما فرق في الدرجة. بمعنى أن الواقع الجديد يمتلك من عوامل الجذب والإبهار ما لم يكن يمتلكه الواقع القديم، لذا فهو لا يقدم نفسه كواقع بديل فقط، بل أشد واقعية من الواقع القديم نفسه. إنه واقع فائق بتعبير بودريار.. يفوق القديم ويعلو عليه.
وبحسب بودريار فإن الصور لم تعد مقيدة إلى أي شيء محدد في العالم الواقعي، بل باتت تتحرك هنا وهناك بسيولة، قافزة عبر حدود "الواقع" التقليدية. ولما كان الناس في الأغلب الأعم لا يدركون الطابع الاصطناعي في ثقافة الصورة، إذ إن تقنيات صنعها خافية عليهم؛ يغدو الواقع البديل بالنسبة لهم هو الوحيد والحقيقي.
في هذا الواقع الفائق لم تعد العلامات تمارس دورها المعهود في تمثيل الأشياء أو الإشارة إلى نموذج خارجي، بل أصبحت لا تمثل شيئًا سوى نفسها، ولا تحيل سوى إلى علامات أخرى "لقد أصبحت الصورة تسيطر بطريقة رمزية على العصر، ولم يعد من الممكن أن نتكلم عن الصورة والحقيقة، أو وسائل الإعلام والمجتمع، فكل من هذه الثنائيات قد أصبح متشابكًا بدرجة كبيرة، حتى إنه قد صار من الصعب وضع خط فاصل بينهما، وبدلاً من أن تشير وسائل الإعلام إلى العالم الحقيقي، نجد أن أغلب ما تنتجه يشير إلى صور أخرى". أي أنها تخلت عن كونها تمثل موضوعًا محددًا، واقتصرت مهمتها على الإحالة إلى صور أخرى تصطف معا، لتكون موضوعًا مزيفًا لا علاقة له بالواقع الخارجي.
ونتيجة لهذا التطور التقني أصبحنا نعيش في واقع افتراضي لا يمت للواقع الفعلي بأي صلة، فقد أصبحت الرقمنة هي المبدأ الميتافيزيقي للحضارة المعاصرة، وفي المقابل تقلصت فاعلية الإنسان وقدرته على التمييز بين الواقعي والافتراضي. لقد تحولت الحياة المعاصرة إلى عالم من الشاشات..عالم تنبأ به الأديب الأمريكي راي برادبوري في "451 فهرنهايت".. فالشاشة تقابلنا في كل مكان، حتى أصبحت علاقتنا بالأشياء من حولنا لا تتم إلا عبرها..السينما والتلفزيون والإعلانات المصورة، والأجهزة الالكترونية...كلها شاشات تحكم سلوك الأفراد وتوجههم في العالم. ما يحدث على الشاشة يحاول الواقع محاكاته، والنتيجة غياب الحقيقة، فلا الصورة المعروضة على الشاشة أصلية، ولا الواقع الذي يحاول محاكاتها أصلي.
ويقدم لنا بودريار مثالاً يوضح هذا المعنى عندما يتناول بالتحليل تعبيرًا أمريكيًّا شهيرًا يستخدم في الإعلانات، وهو "ما تراه هو ما ستحصل عليه" what you see is what you get ، فهذا التعبير يستخدم لإقناع المستهلك أنه سوف يحصل على السلعة بالشكل الذي تعرض عليه في الصورة. ومعنى هذا أن الصورة أصبحت هي معيار الواقع ومحك الحكم عليه؛ فأنت تطلب سلعة بناء على صورتها، ويتم إرضاؤك إذا كانت السلعة متفقة مع صورتها، وتشعر أنك خدعت إذا لم تتفق السلعة مع الصورة.
أخيرًا، ثمة إحساس متزايد الآن– كما يقول كيفين روبنز- بأننا نشهد ميلاد حقبة جديدة، حقبة ما بعد التصوير الفوتوغرافي. وتمثل هذه الحقبة نوعًا من التطور في التكنولوجيا الرقمية الجديدة الخاصة بتسجيل ومعالجة وتبادل وتخزين الصور. وهكذا شهدنا خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين نوعًا من التقارب المتزايد بين تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي وتكنولوجيا الفيديو والكمبيوتر، وقد أدى هذا التقارب إلى تمهيد الأرض لظهور سياق جديد تكون فيه الصور الفوتوغرافية الثابتة مجرد عنصر صغير في ذلك العالم الكبير، الذي أطلق عليه اسم الميديا الفائقة أو العليا hypermedia. فالتكنولوجيا الافتراضية بقدرتها على توليد أو إنشاء صور "واقعية" على أساس بعض التطبيقات الرياضية، التي تحاكي الواقع وتنمذجه، أسهمت في الرفع من شأن التوقعات للتطورات اللاحقة والاستباق عليها.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- تحولات الصورة من الواقعي إلى المجازي
- المرئي أم المكتوب .. قراءة في لوحة هذا ليس غليونًا لرينيه ماغريت
- جان بودريار.. عن الإرهاب والحرب العالمية الرابعة
- السينما وكهف أفلاطون
- معادلة شارل بودلير
- من شارل بودلير إلى مارسيل دوشامب
- هل يمكن تأسيس نقد فلسفي للأفلام؟
- النموذج المعرفي مدخلاً لفهم الفكر الغربي
- موت المؤلف.. هل ثمة ضرورة؟
- الثقافة البصرية حتمية معرفية وضرورة أكاديمية
- متى تجد علوم الحكمة طريقها إلى جامعات المملكة؟
- أطروحة موت الواقع بين الفضاء الفلسفي وعوالم السينما
- بلاغة الصمت السينمائي
- وصايا رايت العشر بين وظيفية لو كوربوزيه وتفكيكية يزنمان
- فان غوخ بين مرثيتين
- «فضيلة أن تكون لا أحد».. عن الحكي بين الزمن المفقود والمستعاد
- كيف يمكن للعمارة أن تحقق السعادة في حياتنا؟
- العنف، العبث، والعدمية بين نيتشه وتارنتينو
- السوريالية وعمارة المفارقات
- استجابة الفلسفة الإسلامية المعاصرة للواقع والتفكير خارج التاريخ
- امتدادات التيارات الغربية في العالم الإسلامي
- المشاريع الفكرية العربية بين التراث والتجديد.. مراجعة نقدية
اكتب تعليقك