المشاريع الفكرية العربية بين التراث والتجديد.. مراجعة نقديةالباب: مقالات الكتاب
أ.د. بدر الدين مصطفى أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة |
أ.د. محمد عثمان الخشت
ترجمة: أ. د. بدر الدين مصطفى
قدم بعض المفكرين العرب المعاصرين فلسفة أو رؤية فكرية عوضًا عن البحوث التي يغلب عليها الطابع الأكاديمي، مثل عثمان أمين، وعبدالرحمن بدوي، ويوسف كرم، وزكي نجيب محمود، ومراد وهبة، وراني حبشي، وبديع الكسم، ويحيى هويدي، وغيرهم. . كما يوجد من قدموا بعض المشاريع الفكرية ممن لا يزالوا على قيد الحياة أو توفى حديثًا، مثل: أدونيس، وتيزيني، ومهدي عامل، وحسن حنفي، والجابري، وأركون، ومروه، وجورج طرابيشي، ومطاع الصفدي، وهشام جعيط، وهشام شرابي، والمسيري، ومحمد حسين فضل الله، وآخرون. وثمة مفكرون ينتمون إلى الجزء الشرقي من العالم الإسلامي في ماليزيا والهند وباكستان وإيران. دون العودة إلى تخصصاتهم، هناك، على سبيل المثال، محمد إقبال، وأحمد خان، وأمير علي، ومهند محمد، ووحيد خان، والسيد محمد باقر الصدر، وعبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، ومحسن قديفر، ومصطفى مالكان، وهاشم أغاغري، وحيدر محمد كامل حب الله، وجوادي عاملي، صادق لاريجاني، ومصباح اليزدي، ومحمد تقي الجعفري، ومحمد السيد طبطبائي، وعميد واعزي، وصدر الدين طاهري، والسيد محمود الهاشمي، وباقر العرواني، ومحمد علي التخيري، وناصر مكارم الشيرازي، والحكيمي، ومهدي المحرزي، وأحاد قرمالكى، وآخرون. نظرًا لأن موضوع الورقة وسياقها لا يمكن أن يسمحا بالتعامل معهم جميعًا، وكما تم عرض جهود البعض سابقًا، ستتم الإشارة إلى بعض الأمثلة لأولئك الذين لديهم ما يعرف بالمشاريع الفكرية.
تمثل المشروع الذي ركز عليه أدونيس في إعادة قراءة التراث، وكان ذلك محاولة من المحاولات المبكرة في هذا الصدد. نشر في أوائل السبعينيات أطروحة دكتوراه بعنوان الثابت والمتغير: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب، وتناول فيها مصفوفة الثقافة العربية بوصفها تشييد للبنية التأسيسية للمجتمع العربي. لقد قام بتحليل للمصادر؛ مؤسسًا لأصولهم النظرية، كما عالج صدمة الحداثة من الناحية المتعلقة بسلطة التراث الديني؛ ثم تناول تلك الصدمة من الناحية المتعلقة بسلطة التراث الشعري. وعزا أساس حركة الشعر العربي الحديث في العلاقة بين العناصر الأصلية الحقيقية والأجنبية باعتبارها الضابطة لازدواجية الثابت والمتحول والتبعية والابتكار. وقال إن في التراث "منتجات ثقافية هي من التنوع لدرجة التناقض".
لذلك ليس من اللائق النظر إلى التراث على أنه "أصل الكل أو جوهره، ولكن يجب على المرء أن يدرس منتجًا ثقافيًا معينًا" (أدونيس، 1973، ص. 228). هذا المنتج الثقافي يخضع لتأثير الثنائيات: التبعية والابتكار، الثبات والتحول، الإيجابي والسلبي. وخير مثال على ذلك كل من أمرؤ القيس وعمرو بن أبي ربيع. فقد حظي شعرهم بمكانة خاصة لأنه قام بكسر التابوهات (أدونيس، 1973، ص. 215). كما تعرض بالنقد لمن هم في مواقع السلطة ودعى إلى التغيير. وبالطريقة نفسها عالج الاتجاهات الأيديولوجية حيث وضع من هم في الفئة السلبية، أي في الموضع الثابت، مثل: ابن حنبل، والغزالي، وابن تيمية. وفي الفئة الإيجابية، أي الداعين إلى التغيير، والرافضين للمواقف الثابتة، يذكر الاتجاهات الإسلامية التاريخية: المرجئة، والجهمية، والشيعة، والصوفية. يبدو أن أدونيس قد غض الطرف عن أن العنصرين الأصلي والأجنبي كلاهما ضروريان للتقدم. إذا لم يكن هناك تفاعل جدلي بينهما، فلن يكون ثمة تغيير ممكن. يبدو أيضًا أنه تجاهل أن الإبداع من الصفر غير ممكن لأنه لا يمكن لأحد أن يكون مبدعًا في جميع جوانب تفكيره. الإبداع ليس مطلقًا، ولكنه يتضمن عنصرًا من الاتباع/ التقليد الذي يتوقف على الفرد. كل من الثبات وقابلية التغيير موضعان يتعايشان. ولولا التوتر بينهما لما كان التقدم ممكنًا. بالنسبة له يعتبر الغزالي وابن تيمية نموذجان للثبات، لكن من وجهة نظري، يمثلان في بعض الأحيان نموذجان للتغيير. تظهر إبداعات الغزالي في عمله في مجال الفلسفة ذات الميول النقدية: فهو يركز على البرهان بدلاً من المعرفة قبل أن يتحول إلى الصوفية. حتى ذلك الحين كان لديه نزعة إبداعية كما يظهر في كتابه إحياء علوم الدين. وقبل أن يتحول صوب التصوف، أظهر إبداعه في شكه المنهجي الذي كان علامة بارزة في التاريخ. أما ابن تيمية فقد أظهرت أسهاماته الشخصية في الفقه والسياسة إبداعًا وتميزًا. ويتضح هذا الإبداع من خلال المعايير الفلسفية في نقده للمنطق الأرسطي على أساس تجريبي.
في سياق المشاريع الفكرية المعاصرة حاول مشروع حسن حنفي حل معضلة الأصالة والمعاصرة. أصدر كتاب التراث والتجديد عام 1980، وهو أهم مؤلفاته التي أرسى من خلاله مشروعه الفلسفي القائم على نقد منهجية الاستشراق. وقد قدم فيه منهجية أخرى بديلًا لها وطرح رؤيته لكيفية تفعيلها وربطها بالأهداف القومية كالإبداع اللغوي وتحليل المضمون وتغير البيئة الثقافية. لذلك، فإن أعمال حنفي لها ثلاثة اتجاهات. أولاً، هناك موقفه من التراث القديم، والذي خصص له مؤلفاته الآتية: من العقيدة إلى الثورة، ومن النقل إلى الإبداع، ومن النص إلى الواقع، ومن الفناء إلى البقاء، وأعمال أخرى. ثانيًا، هناك موقفه من التراث الغربي، والذي كتب فيه: مقدمة في علم الاستغراب، وقضايا معاصرة، بالإضافة إلى أطروحته في الدكتوراه (التي قدمها في الستينيات). ثالثًا، هناك موقفه من الواقع أو نظرية التفسير، وهي جبهة توزعت فيها جهوده ما بين كتب ومقالات مختلفة. يأتي مشروع حنفي، كما يحب أن يصنفه، ممثلًا لليسار الإسلامي. وقد سبق وأصدر مجلة حملت العنوان نفسه اليسار الإسلامي (فقط ظهر العدد الأول منها ثم توقفت عن الصدور). كما كشف حنفي ملامح هذا الاتجاه في ورقته المعنونة "ماذا يعني اليسار الإسلامي؟ [1]"
ومع ذلك، فإن تصنيف حنفي كجزء من اليسار الإسلامي ليس دقيقًا لأن مشروعه يجمع ديالكتيكيًا اتجاهات مختلفة: الماركسية والليبرالية والعقلانية والغنوصية والأصولية والعلمانية والحداثة. أما المنهجية التي يتبناها فهو يتنقل بين فينومينولوجيا هوسرل والديالكتيك التاريخي والبنيوية والتفكيكية والبراغماتية والفلسفة التحليلية. هذا على المستوى الفكري، ولكن على المستوى الأكاديمي البحت، يعتبر حسن حنفي بلا شك مرجعًا في تاريخ الفلسفة.
إذا كان حنفي يمثل مركبًا جدليًا للعديد من المذاهب والمنهجيات من ناحية، فإن الطيب تيزيني يمثل من ناحية أخرى اتجاهًا مفردًا، ألا وهو المادية التاريخية. سعى إلى إعادة تفسير التقاليد الإسلامية في "محاولة لخلق رؤية جديدة للفكر العربي منذ نشأته وحتى العصر الراهن". والهدف من ذلك هو الانتقال من "التراث إلى الثورة" مرورًا بـ "النص القرآني" وما أسماه "الإسلام المحمدي المبكر"، وعلم الكلام والفلسفة العربية في العصور الوسطى. في تفسيره، تبنى مقاربة مادية تاريخية تقوم على نظرة مادية بحتة للمجتمع والتاريخ- وجهة نظر ماركسية لينينية ترى السيرورة التاريخية الاجتماعية من منظور العوامل المادية. ومن ثم فهي تسعى إلى الكشف عن الأساس المادي للحياة الاجتماعية واكتشاف القوانين التي تحكم تطورها. وبالتالي، فهو يدرس القوانين العامة للتنمية الاجتماعية وطرق تجليها في السلوك التاريخي الاجتماعي. كما يأخذ في الاعتبار العلاقة بين الاقتصاد والإنتاج- العوامل المحددة وراء مجمل التطور الاجتماعي والتاريخي (حنفي، 1967، ص 17-18). وهي عوامل مؤثرة بالفعل على كافة أشكال الوعي والتفكير البشريين، جنبًا إلى جنب سمات الحضارة والعوامل الدينية والعلمية والثقافية (ماركس، 1987، ص 30-31).
وفي السياق ذاته، ثمة مشروع فكري آخر لحسين مروه تركز على البحث عن الاتجاهات المادية في التراث الفلسفي الإسلامي والعربي. لقد أراد أن يثبت أن "القوى الثورية في حركة التحرير العربية لها حاضر مميز حافل بالمستقبل يختلف عن الحاضر المليء بالماضي للقوى المتخلفة [. . .]. إنها تمتلك تراثها الخاص المختلف عن تراث القوى الأخرى "(مروه، 1981، ص 24).
قراءة التراث من قبل تيزيني ومروه هي ببساطة قراءة انتقائية تستند إلى ماركسة التاريخ العربي، أي ماركسة التراث. وقد انصب جهدهما على محاولة التنقيب التعسفي عن مفاهيم مادية داخل التاريخ العربي وباستخدام مفاهيم مستمدة من السياق الغربي وتطوره التاريخي. وقد أسفرت هذه المحاولة عن تطبيق هذه المفاهيم على التاريخ العربي وتطوره، وتفسير التاريخ وفقًا لتحليل ماركس لما أسماه "نمط الإنتاج الآسيوي". هذا يثبت أن تيزيني ومروه وقعا في فخ المركزية الأوروبية حتى عندما زعما الهجوم عليها.
في مشروعه الفكري، أشار محمد عابد الجابري إلى ضرورة نقد العقل العربي ليكشف عن بنيته وتطوره. استخدم عدة مناهج مشتقة من العلوم الإنسانية الحديثة والمدارس الغربية وخاصة الفرنسية. لقد تبع كانط ولكن بطريقة مختلفة، لأنه كان يؤمن بضرورة نقد العقل لتأسيس النهضة العربية الحديثة. يقول: "إن نقطة الضعف الأساسية والخطيرة في مشروع النهضة العربية الحديثة تتمثل في أن العرب لم يعرفوا أو لم يدركوا أن سلاح النقد يجب أن يسبقه ويرافقه نقد السلاح. لقد تجاهلوا نقد العقل". وقد ادعى أن منهجه في قراءة التراث يستند على "بحث علمي عن عقل خلق ثقافة معينة، الثقافة العربية الإسلامية، والتي تكونت أيضًا من خلالها" (الجابري، بنية العقل العربي، ص. 14). لذلك أكد الجابري على أن "الطبيعة الخاصة للبيئة الثقافية والاجتماعية هي المسؤولة عن نشأة فكر معين" (الجابري، بنية العقل العربي، ص. 12). وحاجج بأن أحد العناصر المحورية المنهجية الأساسية هو "التداخل الصوري للفكر كأداة والفكر كمحتوى" (الجابري، بنية العقل العربي، ص. 12). ومع ذلك، فقد استخدم أدوات مستعارة من خارج عالمه الثقافي. يستخدم الجابري منهجية لالاند التاريخية لفهم العقل والتمييز بين العقل "المُتشكِل" والعقل "المُتشكَل" (الجابري، بنية العقل العربي، ص. 15). علاوة على ذلك، يستخدم مفهوم اللاوعي المعرفي المشتق من أفكار جان بياجيه (الجابري، بنية العقل العربي، ص. 40 وما يليها). كما استخدم البنيوية والبراغماتية القديمة، التي لا ترى المفاهيم على أنها قوالب نهائية، بل مجرد "أدوات عمل يجب استخدامها في سياقات مختلفة بطريقة تجعلها منتجة" (الجابري، 1988، ص. 12). واستخدم الجابري أيضًا بعض أفكار كانط، وفرويد، وبشلار، وألتوسير، وفوكو، كما نجد لديه بعض الأفكار الماركسية، واستعارته لمنهجية التفكيك (الجابري، 1988، ص 11). كان لمحمد عابد الجابري منهجيات عديدة ومتنوعة مشتقة من الفلسفات الغربية، أي من خارج "العالم الثقافي للعرب"، رغم أنه ادعى خلاف ذلك. ومن أهم النتائج التي حققها هو التمييز بين ثلاثة أنظمة معرفية في الثقافة العربية: التعبير، والغنوصي، والبرهاني، بهدف إثبات أن العقل المغربي تفوق على العقل العربي المشرقي في الاعتماد على البرهان وليس الفلسفة الغنوصية.
وهكذا فإن منهجية الجابري هي منهجية انتقائية أفضت إلى الانحياز، وفصل المغرب عن المشرق في الوطن العربي. يبدو أن الجابري تجاهل أن ليس كل المفكرين المغاربة يعتمدون في عملهم على القول البرهاني، وليس كل العرب المشرقيين ينخرطون ضمن نظام المعرفة الذي حدده. يوجد على كل جانب ممثلون لأنظمته الثلاثة. بالإضافة إلى ذلك، هناك مفكرون مفردون من كلا الجانبين، ممن يجمعون في تكوينهم الفكري الأشكال الثلاثة: التعبير، الغنوصي، والبرهاني، مثل الفارابي وابن سينا والغزالي وابن خلدون. هل نعتبر ابن عربي وابن سبعين بفلسفتهما الغنوصية مشرقيين؟ هل كان أبو البركات البغدادي بفلسفته العقلانية مغربيًا؟ ألا يمكننا أن نرى أن السهروردي، الصوفي الأبرز، لا يعارض شرعية النهج العقلاني البرهاني؟
أما بالنسبة لمحمد أركون، فقد حاول مشروعه تطبيق القراءة الغربية للكتاب المقدس على القرآن، متجاهلاً السياقات المختلفة وطبيعة كل كتاب. لقد كان يهدف إلى إثبات "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وانتقاد القراءات التقليدية للنصوص حتى يتمكن المرء من البدء في التفكير في ما هو يتجاوز الفكر البشري، أي الظاهرة الدينية (أركون، ص. 18 وما يليها)، لكسر العقل الدوغمائي. (أركون، 1992، ص 12 وما يليها).
ومن خلال "فرض ثقافة دنيوية فاعلة قادرة على استيعابها واستخدامها من قبل القوى الحية الناشطة في المجتمع" سيتم القضاء على طريقة التفكير القديمة (أركون،1995، ص. 15). ولتحقيق هذا الهدف استخدم علم التأويل واللغويات الحديثة جنبًا إلى جنب مع معظم المنهجيات الحديثة في العلوم الإنسانية، خاصة تلك المفاهيم المشتقة من بنيوية فوكو وليفي ستراوس وتفكيكية دريدا، من بين مفاهيم أخرى (أركون، 1995، ص. 63).
اعتقد أركون أن الأنثروبولوجيا هي العلم الوحيد الذي يوفر القرائن الضرورية والمناسبة لاكتشاف الثقافات والمذاهب المختلفة. كما حاجج بأن المفسرين والعلماء وعلماء الدين الإسلامي الأوائل امتنعوا عن التعامل مع الآفاق الشاسعة التي كشف القرآن حجابها. إذا قرأنا القرآن وفق منهجية تاريخ الأديان، وهو ما يدعي أننا لم نقم به بعد، فسيكون لدينا آفاق أكثر رحابة. وهو محق في التأكيد على وجود فرق بين القرآن وجهود علماء المسلمين في اجتهاداتهم التي نقرأها في كتبهم الآن. من هذه الكتب، نشتق صورًا للإسلام بناءً على تفسيراتها الخاصة- تفسيرات تتغير بتغير الظروف التاريخية والثقافية والسياسية. لذلك يجب التمييز بين القرآن ككيان مستقل والإسلام كظاهرة تاريخية. علينا أن نفهم القرآن الذي يفتح آفاق التأمل والتفكير والاطلاع العميق واستخدام العقل. هنا، يحث أركون بشدة على الاتجاه صوب العلوم الاجتماعية الغربية التي ستمنحنا الأدوات الذهنية ومنهجيات البحث والإشكاليات التي يجب أن تحسن طرق تفكيرنا. لذلك فهو يدعو إلى تبني أنظمة فكرية حديثة بدلاً من حصر أنفسنا في الجوانب المادية للحداثة التي تزيد من تعميق التخلف [2].
نحو المستقبل
نعيش في عصرٍ ذي مسارات متباينة للفكر العربي المعاصر، الذي استنفد طاقته في البحث عن فلسفة نظرية، جاءت مُمزَّقة بين التقليد والحداثة. وفي الوقت الذي لا تستطيع فيه، تلك الفلسفة، استعادةَ موروثِها، تبدو بالمثل غير قادرةٍ على التكيُّف مع متطلبات العصر الحديث. في الواقع لقد فَشلَتْ في مواجهة التحدّيات المعاصرة. والدليل الأكثر وضوحًا على ذلك هو حالة الأمة العربية الآن، والوضع المؤسف للعالم الإسلامي. وقد يتجلّى ذلك أيضًا في حقيقة مؤدَّاها أن معظم الجهود التي يبذلها المفكِّرون العرب والمسلمون المعاصرون ليس لها أدنى تأثير على الواقع، ما يعني أنهم يسبحون في فضاء من البِنى الفكرية المجردة المُنفصلة عن الواقع التاريخي والمفتقرة إلى فلسفة الفعل.
لهذا السبب تبدو الحاجة مُلِحَّةً إلى وجود فلسفةٍ للفعل والعمل، وليس فلسفة للكلام والتأمّل. هناك حاجة إلى فلسفة للتقدم، ومِن ثَمَّ فلسفة للأخلاق، لكنَّها ليست على غرار الفلسفات الأخلاقية النظرية المجردة. يجب وجود أخلاقيات قابلةٍ للتطبيق؛ أخلاقيات التقدم ethics of progress. إنَّ المذاهب الفلسفية للمفكرين الإسلاميين والعرب المعاصرين لم تُقدِّم بعد تفسيرًا للوسائل والآليات العملية التي يُمكن أن تؤدي إلى صحوة حقيقية. لقد كانوا مُنهمكين في الجدل النظري دون محاولة صياغة أخلاقيات التقدم، والتي لا يمكن اختزالها ببساطة في القيم العلمية والمبادئ الأخلاقية؛ مثل الموضوعية، والصدق، والابتعاد عن الميول الشخصية والنفسية، والتحقق وإرجاء الحكم لحين البرهنة عليه بالدليل القاطع، والدقة، وما إلى ذلك. من الضروري أن تضطلع الأخلاق المستهدفة بالإجابة عن تساؤلات من قبيل: كيف يُمكن للإنسان أن يُدرك القيم السابقة في نفسه؟ وكيف يُفعِّلها في حياته العملية لتصبح جزءًا طبيعيًّا منها؟ والأهم، كيف يصل إلى تحقيق الذات من خلال الوسائل المشروعة التي تكتسب شرعيّتها من برنامج تقدُّمي يمتلِك أساسًا نظريًّا وفلسفيًّا، ومعترف به من قبل الوعي العام؟
يمر الواقع الفلسفي المعاصر بأزمة تفاقمت حدتها بسبب حقيقة أن الدين، رغم ما له من أهمية قصوى، قد اكتسب مكانة مٌربكة في زمننا نتيجة المتغيرات الثقافية والفكرية الحديثة. إن الإنسان المعاصر يجد نفسه ممزقًا بين اتجاهين متطرفين يسيطران على الجدل الحالي في سياقات مختلفة: العلمانيون المتطرفون من جهة والمتطرفون المتدينون من جهة أخرى. وفي هذه المعضلة، يشعر الإنسان المعاصر بالارتباك إزاء اختياراته. هي معضلة لأنه ليس ثمة خيار ثالث أمامه. غير أن الحل الثالث يتبدى في الأفق حال ترسيخ مبادئ التفكير الناقد وهيمنة العقلانية المعتدلة. ومن هنا يبدو ضرورة تعديل موقف الفكر العربي المعاصر من العقلانية، ومن ثم من الفلسفة. تعلمنا الفلسفة التفكير العقلاني والتأمل المثمر والتفسير الدقيق والنقد البناء. إنها تسمح لنا بصياغة الأسئلة والتعامل مع مشاكل أمتنا من وجهات نظر مختلفة. ولم لا؟ والفلسفة هي مرآة العصر! ومع ذلك، فهي ليست مجرد فهم للعالم، بل جهد مستمر لتغييره نحو الأفضل. وبالتالي، سيغدو التغيير المنشود متجهًا من التأمل إلى الفعل، حيث تتحول الفلسفة من نظام للتفسير إلى تغيير في الذات والمجتمع، فضلًا عن البنى التشريعية والاقتصادية والسياسية. ذلك يمكن تحقيقه من خلال المنهجية المناسبة التي تمكننا من نقد تاريخنا وأنفسنا وزمننا. وعليه سيكون هناك تحول نحو المستقبل على أساس المبادئ والقيم التي تتوافق مع تطلعاتنا التاريخية لتحقيق المشروع الوطني. ومن شأن ذلك أن يؤدي ذلك إلى ترسيخ قيم الأصالة والتقدم في الوقت نفسه، مع توسيع نطاق المشاركة وحقوق الإنسان. سيغدو من الممكن بناء الذات بطريقة حديثة عبر شق مسار ثالث ليس بالعلماني ولا بـ"السلفي" تشير هنا إلى القدماء عن طريق قراءة جديدة للمصادر التي تنطوي على مركب يجمع بين العقلانية والروحانية. ذلك ما ستسعى إلى تحقيقه فلسفة الدين الجديدة التي نحاول إطلاقها منذ ثمانينيات القرن العشرين، والتي بدأت تتطور مع أول كتابين عربيين عن فلسفة الدين كتبا بموضوعية ومنهجية في بداية التسعينيات من القرن العشرين، وهما: المعقول واللامعقول في الأديان ومدخل إلى فلسفة الدين.
الهوامش:
1. راجع فؤاد زكريا "مستقبل الأصولية الإسلامية" في "الفكر الديني والفكر العلماني" مجلة فكر، العدد 4، ديسمبر 1984، ص 18-50. ومحسن الميلي، ظاهرة اليسار الإسلامي، قرطاج، مطبعة تونس، 1983.
2. محمد أركون، "إن تبنينا للحداثة المادية، عوضًا عن الحداثة الفكرية المصاحبة لها، ضاعف من تخلفنا". في الحوار الحضاري لناصر الغيلاني، العدد 199 - 24-7-2002.
المراجع:
- عبد الرازق، علي (1925)، الإسلام وأصول الحكم.
- أدونيس، الثابت والمتحول (1973)، الحداثة وسلطة التراث الديني، دار الساقي، بيروت.
- الأهواني، أ.ف. (1987)، جون ديوي، الطبعة الثالثة، دار المعارف، مصر.
- الأنصاري، م. (1999)، الفكر العربي وصراع الأضداد.
- الحاج، ك (2000)، الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي، الطبعة الأولى، مكتبة لبنان، بيروت.
- الحلو، ك. (2006)، محنة العلمانية العربية، محنة العلمانية العربية، لبنان، السفير.
- الجابري، ماجستير (1988)، الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية للخطاب العربي المعاصر، دارالطليعة، بيروت.
- الجابري (1988)، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
- الكواكبي ع. (1975)، الأعمال الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- المسيري، أ. (2002)، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة.
- الموسوي، م. ج. (1933)، الاستشراق في الفكر العربي، التعاون العربي للدراسات والنشر، بيروت.
- النجار، هـ.ف. (1975)، أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، الطبعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- النجار، هـ.ف. (1988)، هيكل وتاريخ جيل 1888-1956، منظمة الكتاب المصري العام.
- السيوطي (1952)، تاريخ الخلفاء، الطبعة الأولى، محمد محيي الدين عبد الحميد. (محرر)، المجلد. 1، مطبعة صاعدة، مصر.
- الطهطاوي ر. (1973)، الأعمال الكاملة، درسها وحررها محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
- الطهطاوي، ر. (2011)، مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية، الإسكندرية للنشر والتوزيع.
- بلقزيز، أ. (1992)، إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر، دار المنتخب العربي، بيروت.
- Blackburn, S. (1996), The Oxford Dictionary of Philosophy, Oxford University Press, Oxford.
- عزت، هـ. ف (2004) الليبرالية: أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال، مفاهيم ومصطلحات عن الإسلام، متاحة على:
- www.islamonline.net/arabic/ mafaheem/2004/08/article01a.shtml
- فهمي م. (1973)، أبحاث وخطرات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- حنفي، ح. (1967)، لينين، ماركس- انجلز، الطبعة العربية، التقدم للنشر، موسكو.
- حنفي، ح. (1988)، هموم الفكر والوطن، قباء للنشر والتوزيع بالقاهرة.
هيكل، م. (1951)، مذكرات، الهيئة العامة لقصور الثقافة، المجلد. 1.
- حوراني، أ. (1997)، الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939، ترجمة. كريم عزقول، مراجعة أديب القنطار، دار نوفل، بيروت.
- حسين، ت. (1987) على هامش السيرة، الطبعة 31، دار المعارف.
- ابن تيمية (2019)، الحسبة في الإسلام: مجموع الفتاوى، المجلد. 28.
- محمود، ز. (1958) نحو فلسفة علمية، لجنة النشر والترجمة، القاهرة.
- محمود ، ز. (1974)، تجديد الفكر العربي، دار الشروق، القاهرة.
- ماركس، ك (1987)، الأيديولوجيا الألمانية. الطبعة الثانية، مطبعة دمشق.
- مظهر، إ (1926)، أسلوب الفكر العلمي: نشوؤه وتطوره في مصر خلال نصف قرن "التطور والتنمية في مصر في نصف قرن" المجلد. 68. في المقتطف القاهرة الجزء الثاني ص. 142.
- مبارك، أ. (1979)، الأعمال الكاملة. دراسة وتحرير محمد عمارة، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
- مروة، ح. (1981)، النزعات المادية، دار الفارابي، بيروت.
- Oliver, D. and Hater, D. (1994), The Foundations of Citizenship, Wheatsheaf, Harvester.
- Rodinson, M. (2007), La Fascination de l’Islam. Mass Market Paperback.
- شكري، غ. (1983) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، الدار العربية للكتاب، القاهرة.
- Simon, W.M. (1963), European Positivism in the Nineteenth Century. repr. 1972.
- برنامج حزب الفلاحين (1965)، الطليعة، القاهرة، العدد 3، ص 146-152.
وهبة، م (1999) المعجم الفلسفي، دار قباء، القاهرة.
قراءات إضافية
- محمد البهي (1417 هـ)، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، الطبعة 13، مكتبة وهبة، مصر.
- الخشت، م. (2007)، الإسلام والوضعية والاستشراق، نهضة مصر، القاهرة.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- تحولات الصورة من الواقعي إلى المجازي
- المرئي أم المكتوب .. قراءة في لوحة هذا ليس غليونًا لرينيه ماغريت
- جان بودريار.. عن الإرهاب والحرب العالمية الرابعة
- السينما وكهف أفلاطون
- معادلة شارل بودلير
- من شارل بودلير إلى مارسيل دوشامب
- هل يمكن تأسيس نقد فلسفي للأفلام؟
- النموذج المعرفي مدخلاً لفهم الفكر الغربي
- موت المؤلف.. هل ثمة ضرورة؟
- الثقافة البصرية حتمية معرفية وضرورة أكاديمية
- متى تجد علوم الحكمة طريقها إلى جامعات المملكة؟
- أطروحة موت الواقع بين الفضاء الفلسفي وعوالم السينما
- بلاغة الصمت السينمائي
- وصايا رايت العشر بين وظيفية لو كوربوزيه وتفكيكية يزنمان
- فان غوخ بين مرثيتين
- «فضيلة أن تكون لا أحد».. عن الحكي بين الزمن المفقود والمستعاد
- كيف يمكن للعمارة أن تحقق السعادة في حياتنا؟
- العنف، العبث، والعدمية بين نيتشه وتارنتينو
- السوريالية وعمارة المفارقات
- استجابة الفلسفة الإسلامية المعاصرة للواقع والتفكير خارج التاريخ
- امتدادات التيارات الغربية في العالم الإسلامي
- المشاريع الفكرية العربية بين التراث والتجديد.. مراجعة نقدية
اكتب تعليقك