جان بودريار.. عن الإرهاب والحرب العالمية الرابعةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-05-19 00:15:46

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

ربما كان مفهوم الإرهاب من أكثر المفاهيم الغامضة والمرتبكة في دلالتها. فقد استعملت هذه الكلمة في الغرب منذ قرنين تقريبًا، وتفيد منذ ذلك الحين "كل استعمال للعنف لتغيير النظام السياسي في بلد معين". غير أن هذا المعنى ذاته ليس مستقرًّا، بل يتم استخدامه وفقًا للسياق الذي يحدث فيه تجليات هذا المعنى وتمثلاته على أرض الواقع، فهو يمتلك من المرونة ما يجعله خاضعًا لقواعد المصالح والمواقف السياسية المتباينة. غير أنه مما لا شك فيه أن هذا المفهوم يُعد أحد المفاهيم الأكثر مركزية في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. مفهوم روج له الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كان له السبق الرئيسي في تشكيل خريطة العالم الجديد، وفقًا للمقولة الشهيرة التي عبر عنها الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش بطريقته الاستعراضية الشهيرة "من ليس معنا فهو عدونا". 

والواقع أن مفهوم الإرهاب ليس واضحًا بالقدر الذي يجعل استعماله سليمًا دون خوف من الانزلاق في متاهات إيديولوجية، كما نستعمل مثلاً مقولات فلسفية أو مفاهيم علمية. فهو يتغير بتغير الظروف والملابسات السياسية، فإرهابي الأمس قد يكون زعيم الغد، والمنظمة التي كانت تصنفها بعض الدول، مثلاً، بوصفها منظمة أحرار، لأنها كانت تقاوم الشيوعيين في أفغانستان، أصبحت بعد ذلك إرهابية، لأنها تعرضت إلى مصالحها الحيوية.

وكل بحث في معنى هذا المصطلح لن يكون دقيقًا إذا اعتمد على دلالات ما قبل صورة الحادي عشر من سبتمبر، ذلك لأن الصورة قد نسخت ما قبلها وكتبت معنى خاصًّا يصدر عن تلك الصورة ويحيل إليها. ولم يبق على الإنسانية بعد ذلك إلا أن تسلم بهذا المعنى، بعد أن انهزمت كل مصطلحات الفكر الذي صار في تلك اللحظة تقليديًّا وغير عملي وغير مقبول.

كان المفكر الفرنسي جان بودريار (1929 - 2007) Jean Baudrillard من المفكرين الذين توقفوا أمام ارتباك هذا المفهوم، بغية توضيحه أو ربما فك الارتباط الشرطي بينه وبين الإسلام. وهو الارتباط الذي حاول الغرب التسويق له بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من أجل إيجاد صورة ذهنية عن الإسلام بوصفه دينًا للعنف، ومن ثم الإرهاب. وكان هذا المفهوم تمهيدًا للحديث عن الحرب العالمية الرابعة، وهو ما سنشير إليه في نهاية المقال.

في مؤلفه قوة الجحيم (Power Inferno (2002 الذي كرسه تحديدًا لموضوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يذهب بودريار إلى أن النظام العالمي الجديد لا يترك مجالاً للتمايزات، وكل ما يخرج عن النظام ينبغي مواجهته بالقوة. فالأمر لا يتعلق بصراع الحضارات، كما يروج بعض المحللين، بل بمواجهة أنثربولوجية بين ثقافة عالمية متماثلة، وكل ما يحتفظ في أي مجال بشيء من التمايز يحول دون تذويبه في تلك الثقافة. ووفقًا لتلك الثقافة العالمية تغدو كل الأشكال المختلفة للخصوصية بمثابة هرطقات تمامًا، كما هو الحال في الأصولية الدينية المتطرفة. إن رسالة الغرب، وفقًا لبودريار، تتمثل في إخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة القهري بكافة الوسائل الممكنة. إن مثل هذا النظام يرى في كل شكل عصي عليه إرهابًا مفترضًا. هكذا حال أفغانستان، فالعالم الحر لا يتحمل بلدًا تمنع الحريات الأساسية للإنسان. ولا يتحمل أن يقف بلد ما في مواجهته، مهما كانت خلفيته الدينية التي يستند إليها، فمن غير المسموح الاعتراض على الحداثة في نزعتها الكونية".

لقد صار الحادي عشر من سبتمبر علامة ثقافية عالمية، وهو اليوم الذي أفاق فيه الناس على صورة طائرتين تخترقان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، واحدة تلو الأخرى. كانت الصورة وهي تبث تليفزيونيًّا تحمل كل مقومات الإخراج السينمائي، وتضاهي أدق فنيَّات السينما، حتى في الإثارة والتشويق. وبما إنها صورة غير عادية وغير تقليدية، فقد توفر لها من وسائل الإشهار والتعميم ما جعلها صورة كونية يشترك كل البشر في تلقيها وتأويلها. لقد كانت صورة ناسخة لكل ما سواها من صور، وبلغت قوتها النسخية أن ألغت كل ما سبقها وصارت المصدر التأويلي لكل ما بعدها، وهي بهذا صورة تترجم كل عناصر الهيمنة الثقافية والبصرية، حيث يتقابل طرفان لم يكن من الممكن أن يتقابل قبل ذلك التاريخ، وفي قلب نيويورك تحدث معركة عالمية بين قوتين إحداهما عظمى ويرمز لها البرجان الفارهان، والأخرى ناشئة لا تملك غير إرادة المواجهة.

كان على الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أن توجد عدوها بنفسها، عدوها الذي من خلاله تستطيع أن تحقق مصالحها وتعيد تشكيل خارطة العالم مرة أخرى. ولأن المصالح الأكبر للولايات المتحدة توجد في الشرق الأوسط، ولأن الدين الغالب في تلك البلاد هو الدين الإسلامي؛ كان من الطبيعي أن تسعى الولايات المتحدة لإحداث هذا التلازم بين الإرهاب والإسلام.

هذا المعنى نجده عند بودريار في تحليله لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فيذهب إلى أن المواجهة كانت سافرة هناك، فكيما يتحقق إخراج صورة كونية للحدث أراد صانعوه أن يكون عالميًّا، وخططوا لإخراجه وإنتاجه، لكي يحققوا أعلى درجة من عالمية الصورة، وهو تخطيط ينافس في دقته أرقى أنواع الإخراج السينمائي في هوليوود. ومن المؤكد أن مفجري البرجين قد وضعوا في تصورهم ما يمكن أن تكون عليه صورة الحدث في التغطيات التلفزيونية. وفي المقابل فإن المستهدف الأمريكي قد سعى إلى توظيف تلك الصورة توظيفًا يضمن له تحقيق أكبر قدر من التأثير عبر تلك الصورة، مما يعني أن الطرفين كانا يمارسان لعبة في الإخراج والمونتاج من أجل إنتاج تأثير خاص تحدثه صورة البرجين، وهما ينفجران ثم ينهاران، ويكون ذلك فاتحة إخبارية عالمية وصورة كونية تلغي كل ما قبلها، وتعيد كتابة التاريخ من لحظتها وصاعدًا لكي تتغير اللغة ذاتها وتتبدل المصطلحات، وليست الأحداث فقط. فما حدث قد كتب لغة مختلفة وسجل مصطلحًا ذا قيمة دلالية خاصة تعود إلى تلك الصورة وتحيل إليها، أي أن الصورة صارت هي المرجعية الدلالية للمصطلحات.

في الواقع، كما يرى بودريار، كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغير عالمي كوني يحدث للثقافة البشرية، حيث تتولى الصورة رسم المعاني وتغيير المصطلحات. بهذا المعنى نفهم لماذا دعى بودريار إلى التفكير في أحداث 11 سبتمبر في ما وراء الخير والشر، أي في ما وراء النزعة الأخلاقية الكلاسيكية؛ والنظر إليها من جهة النظام le système الذي أثرت عليه هذه الأحداث، بحيث خلخلت قطبية رمزية معينة.

ويعيد بودريار تلك الضربة الرمزية كما يسميها هو، إلى المنظومة نفسها التي أنتجتها، وكأنه يريد أن يكرر قول هيجل بأنه من القضية يتولد نقيضها، يقول "هم الذين نفذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر لكننا نحن من أراده، وإذا لم نأخذ في الحسبان هذه الحقيقة، فإن الحدث يفقد أبعاده الرمزية كلها، ويصبح مجرد حدث عادي يمكن اختزاله في مجرد عمل إرهابي، وينتهي الأمر عند هذا الحد. لكننا نعرف أن الأمور ليست بهذه البساطة. وأن ما حدث يتكئ على تواطؤ دفين يجد جذوره في أمكنة متنوعة. إنه صدى لفرض كل ما هو مُطلق ولكل قوة نهائية، وإن مبنيي مركز التجارة العالمي كانا التجسيد لهذه القوة المطلقة". والانهيار الذي تعرّض له المبنيان يفوق بأبعاده الرمزية ما تعرّض له البنتاجون، لأنّه على حدّ تعبيره هو صورة لانهيار نسق كامل.

يتكشّف من ذلك التحليل إذن أن بودريار لا يحمّل الطرف المعتدي كافة المسؤولية الأخلاقية عن الحدث، بل هو يحمل بالمثل الطرف المعتدى عليه ذات القدر ذاته من المسؤولية. فما حدث هو إحدى نتائج النظام الأحادي، وهو يقول في هذا الصدد: "عندما يأخذ نظام ما لنفسه كلّ الأوراق، فهو يدفع بالآخر إلى تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة متوحّشة لا ريب، لأنّ طبيعة هذا التحدي هي نفسها متوحّشة".

إنّ المشهد الذي يحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب وبين التهلّل الاستثنائي لرؤية هذه القوّة الفائقة العالميّة، وهي تدمّر نفسها بنفسها، وكأنّها ترتكب انتحارًا مشهودًا، ذلك "أنّها نظرًا لقوّتها التي لا تحتمل، أججت كلّ هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم، وهي التي أثارت هذه المخيّلة الإرهابية التي تسكننا جميعًا". ووفق هذه النظرة فإنّ الحدث يتعدّى بكثير مجرّد الحقد على قوّة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجّج تفاقم قوّة القوّة وتركّزها الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص، فالغرب الذي يتصرّف، حسب بودريار، كما لو أنّه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهيّة الكلية والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريًّا ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجي مركز التجارة وكأنّه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ويعتقد بودريار أنّ النّظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورةَ وجود إرهاب كي يستمرّ في العمل والسيطرة لأنّه وبدون نقيضه سينهار هذا النّظام، بل إنّ تواطؤا عميقًا ينشأ بين الخصمين، ويتساءل بهذا المعنى عمّن يستخدم الآخر.

وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، فالنظام العالمي، المتمثل في شبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لابد أن يوجد لذاته عدوًّا محدد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد المعالم تم لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره، لأن الإرهاب تم توليده من داخل النظام ذاته ولم يأت من خارجه "لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدى بكثير محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام. صحيح أن هناك تقابلاً بينهما، لكنه تقابل يكشف، عبر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة، لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضًا الإرهاب)، أن العولمة تخوض صراعًا مع ذاتها". ويستطرد بودريار قائلاً: "الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام".

من هنا، يمكن الحديث، وفقًا لبودريار، عن حرب عالمية رابعة وليس ثالثة، ذلك أن محورها الرئيسي هو العولمة. فالحربان العالميتان الأوليان تعكسان الصورة الكلاسيكية للحرب. الأولى وضعت حدًّا لتفوق أوروبا وللعهد الاستعماري، والثانية حطمت النازية، والثالثة وقعت تحت ما يسمى بالحرب الباردة، وانتهت بالقضاء على الشيوعية. وكل حرب من هذه الحروب قادتنا إلى وضع عالمي جديد. أما الحرب الجديدة، فيعتقد جان بودريار أنها أصبحت شاملة، بحيث لم يعد بإمكان أحد الفرار منها أو تجنّبها. إنها في قلب هذا النظام العالمي الجديد.


عدد القراء: 7099

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-