فان غوخ بين مرثيتينالباب: مقالات الكتاب
أ.د. بدر الدين مصطفى أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة |
وكأنه كان يرسم لوحاته لأناس لم يوجدوا بعد، فتتحول قصته ومعاناته إلى أسطورة تقترب من حدود القداسة لدي محبي فن الرسم حول العالم، ليصبح رمزًا للعظمة الفنّية وأحد أهم رموز الثقافة عند الأجيال الحالية التي تثمن لوحاته بعشرات الملايين، وهو الذي عاش بين فقر الحال والعوز فلم يبع طوال حياته سوي لوحه واحدة بعشرين دولارًا. فينسنت فيليم فان غوخ؛ العلامة البارزة التي لا يستطيع أي مؤرخ للفن أن يتجاوزها وهو يرصد تاريخ فن الرسم الحديث. ورغم أنه، حتى وفاته (منتحرًا حسب أغلب الروايات)، ظلت الشكوك تطارده حول موهبته وعاش حياة مضطربة نفسيًا وفي عزلة عن الآخرين، إلا أن المكانة التي اتخذها في تاريخ هذا الفن قد ردت له جزء من الاعتبار الذي لم يعاصره في حياته، فاتخذ موقعًا في تاريخ التشكيل لا يضاهيه فيه إلا قلة قليلة من الرسامين.
في الواقع كان فان غوخ، على وجه التحديد وبصورة تفوق كل رفقائه الآخرين في تاريخ فن الرسم، محط انتباه صانعي الأفلام لعقود من الزمان. كان، حتى اللحظة، موضوعًا لتسعة أفلام روائية، ظهرت بلغات مختلفة. بداية من الفيلم الأمريكي رغبة في الحياةLust for Life (1956) الذي أدى دور البطولة فيه كيرك دوغلاس وانتوني كوين، واخرجه فينسنت مينيللي، مرورًا بالفيلم الهولندي فينسنت وثيو Vincent & Theo (1990) للمخرج روبرت التمان، والفيلم الفرنسي فان غوخ Van Gogh (1991) للمخرج موريس بيالا، والبريطاني فينسنت المحب Loving Vincent الذي ظهر في العام 2017 للمخرجين دوروتا کوبیلا وهیو ولتشمن. وأخيرًا ظهر هذا الفيلم الذي أخرجه جوليان شنابل عنه في العام 2018 بعنوان عند بوابة الأبدية.
لكن من بين هذه التجارب، وغيرها، توقف النقاد كثيرًا عند التجربتين الأخيرتين فينسنت المحب وعند بوابة الأبدية، وهما العملان الذي خصصنا لهما هذه المقالة.
شخصيات فينسنت تغادر لوحاته!
"أنا في نظر الناس لا شيء، شخص بغيض ومستهجن، أريدهم أن يعرفوا عبر لوحاتي ذات يوم كم كانت مشاعري حنونة وعميقة"، ربما تكون هذه العبارة الواردة في إحدى خطابات فان غوخ لأخوه ثيو أحد المداخل النفسية المهمة التي بنى عليها المخرجان دوروتا كوبيلا وهيوولتشمن فيلمهما الصادر عام 2017 بعنوان فينسنت المحب. وقد بنى المخرجان فيلمهما بطريقة مبتكرة حيث صمماه بواسطة لوحات زيتية، تم رسمها والعمل عليها من خلال رسومات 125 فنانًا من دولٍ مختلفة على مدى أكثر من خمس سنوات. عبر تلك اللوحات، التي اعتمدت بشكل أساسي على أعمال قدمها فان غوخ نفسه، يقدم الفيلم قصة حياة الرسام التي جذبت إليها ملايين المهتمين بتاريخ فن الرسم. اعتمد الفيلم بطريقة مبتكرة للغاية على الشخصيات التي ظهرت في لوحات فان غوج، حتى أماكن التصوير تظهر في الخلفية. كما ظهرت اللوحات متحركة بأسلوب ضربات الفرشاة في اللوحة الزيتية الذي عُرف به فان غوخ مما بث الروح في لوحات فان جوخ وجعلنا ندخل في عالمه الفريد الذي أسس عليه ثورته الفنية كلها، كما جعلتنا نشعر أننا نشاهد شخصيات الفيلم وحركاتهم كأنها حقيقية، وكان من البراعة بمكان أن تكون تلك اللوحات مستلهمة من رسومات فينسنت نفسه، كما استعان المؤلفان برسائله إلى أخيه، ذلك التراث المكتوب الوحيد تقريبًا الذي تركه فينسنت إلى جوار رسوماته.
اختار المخرجان أن تبدأ القصة بعد عام من موت فان غوخ في صيف 1891، حيث يظهر في البداية أرماند رولين ابن جوزيف رولين ساعي البريد الذي كان صديقًا لفينسنت، والذي رسمه في لوحاته. بعد موت فان غوخ يكتشف ساعي البريد أنه أغفل رسالة كان عليه أن يرسلها لثيو فأرسلها بالبريد لكنها عادت إليه، فأرسل ابنه أرماند لباريس للبحث عن ثيو وتسليمه الرسالة، لكنه وجد أن ثيو أيضًا قد مات. فعاد أرماند وهو عاقد العزم على محاولة فهم لغز موت فان غوخ الغامض، من خلال لقاءاته مع 20 شخصيّة من الشخصيّات القريبة منه التي عاصرته، وكانت موضوعًا للرسم في لوحاته.
هذه الآلية التي لجأ إليها المخرجان تستحوذ على عين المشاهد بنسبة كبيرة بحيث لا تجعل عقله يتجاوزها لينتقل إلى التركيز على القصة التي ترويها. لكن في الواقع إذا كنا نتحدث عن السينما كلغة بصرية، فالفيلم، من هذه الزاوية، تجربة بصرية مهمة غير مسبوقة، فهو الأول من نوعه، كفيلم مصنوع من لوحات مرسومة باليد باستخدام الألوان الزيتية.
ومع ذلك، فالقصة ساحرة- سيرة فنية لفنسنت فان غوخ، تم تأطيرها من خلال فكرة التحقيق في وفاته، تربط بين الحياة والعمل مع الإصرار والدأب اللذان ينيرا كليهما. والمحصلة مزيج مثير ورائع بين شكلين فنيين كلاهما صورة، أحدهما ثابتة والثانية متحركة. مع التجهيزات والشخصيات المستوحاة من لوحات فان جوخ، يتكشف الفيلم كما لو أن المشاهد كان يحلم بأنه داخل متحف للوحات فينسنت، وقد دبت فيها الحياة فجأة. تحوم السحب الزرقاء فوق القرية؛ سماء الليل وامض بالنجوم اللامعة؛ الشمس الصفراء تتلألئ بلون ثمرة اليوسفي فوق حقل من الحقول؛ الحانة الداكنة تتضيء بحلقات ذهبية وخضراء من الضوء؛ يسقط المطر في مسارات من الخطوط الرمادية المستقيمة؛ رأس من الشعر الأشقر يلامس بعضًا من زرقة السماء. كل هذه المشاهد يتم إظهارها بضربات الفرشاة الأنيقة.
جزء كبير من روعة هذا العمل يعود إلى طريقته المبتكرة التي تحدثنا عنها تفصيلًا، وفي الواقع إذا كان قد تم تصوير هذا العمل بالطريقة السردية التقليدية، لما كان قد حقق هذا النجاح الفني، لأنه لم يقدم جديدًا في حبكته أو موضوعه، لكن في الواقع هذا لا يهم أبدًا.
فينسنت بكاميرا رسام
غير أن العمل الذي قدمه المخرج والرسام جوليان شنابل عند بوابة الأبدية At Eternity’s Gate (2018)، (قام أيضًا بكتابته، ورشح لجوائز كثيرة منها جائزة الأوسكار لأفضل ممثل)، جاء مختلفًا أيضًا من حيث قيمته الفنية وتقنيات صناعته السينمائية، ما أدى إلى استقباله نقديًا بنوع كبير من الحفاوة. ربما يكون السبب الرئيس في تميز هذا العمل، كون شنابل نفسه رسامًا مخضرمًا، من ثم استطاع أن يقدم لنا تجربة فان غوخ من داخلها بفهم حقيقي وإحساس واقعي، استطاع شنابل أن يعيد رسم شخصية فان غوخ الفنية بفرشاة ألوانه، فكان المخاض لوحة سينمائية رائعة لا تقل في تميزها عن لوحاته التصويرية. سبب آخر يمكننا أن نرصده لتميز هذا العمل، يتمثل في الأداء الرائع الذي أداه الممثل الأمريكي وليم دافو Willem Dafoe في دور فان غوخ (وهو الذي رشح لأجله لجائزة الأوسكار 2019 في فئة أفضل ممثل).
سنجد في هذا العمل ملامح شخصية فان غوخ كما عرفناها من سيرته الذاتية، ومن الرسائل العديدة التي تبادلها مع أخيه ماثيو. ومن خلال صور مذهلة وتوازن عبقري في شاعرية الصورة ومضمون السرد، يجذبنا شنابل إلى داخل روح فان غوخ المعذبة عبر قصته التي يركز فيها على السنوات الأخيرة من حياته. السنوات التي عاش فيها فان غوخ في قرية آرليس، حيث عمل فيها محاسبًا برفقة شقيقه المحب ثيو (روبرت فريند). وقد انضم إليه لفترة من الوقت بول غوغان ودارت بينهما حوارات عديدة حول ماهية فن الرسم، يلخصها الحوار الذي بدأنا به المقال. وبعد تردده على مصحات العلاج النفسي مرات ومرات، توفي عن عمر ناهز 37 عامًا في فرنسا وتحديدًا في أوفير سور أوايز Auvers-sur-Oise.
عند مطلع الفيلم، يعبر التعبير الصوتي بصوت دافو عن العزلة الحادة التي يعاني منها فان غوخ. على شاشة سوداء، يقول عن القرويين في آرليس: "أريد فقط أن أكون واحدًا منهم. أود أن أجلس معهم وأتناول مشروبًا مثلهم". يفتتح الفيلم صورته بعد ذلك ليكشف عن السماء والحقول المحيطة بالقرية، المنظر الثري من الألوان المتدرجة، كتلك التي تصادفنا في لوحات فان غوخ. يبدو دافو ذو الشعر المحمر واللحية والعيون الزرقاء الجاحظة والوجه المضطرب، أقرب ما يكون لصورة فان غوخ كما نعرفها، ولكن تألق الأداء الذي قام به يدفعنا إلى تجاوز حدود التشابه الشكلي، لنجد أنفسنا، كمشاهدين، مأثورين بالطريقة التي ينقل بها دافو بهدوء أفكار فينسنت وإحساسه المتزايد بفقدان الأمن، وكذلك لحظات الإلهام. وعندما يفصح غوغان عن رغبته في مغادرة أرليس، يُظهر فان غوخ حزنًا كبيرًا، نجح دافو في تجسيد تفاصيله عبر ملامحة التي جسدت معانى القلق والانزعاج بصورة بارعة. بعد مغادرة غوغان، يخبر فان غوخ الطبيب بأنه قام بقطع أذنه، بغية إرسالها إلى صديقه. هذه التفصيلة التي نالت شهرة واسعة وارتبطت باسم فان غوخ، لا نشاهدها على الشاشة بل يخبرنا فان غوخ بها في حديثه مع الطبيب فقط.
نجح شنابل في الدخول إلى عالم فان غوخ الإنسان والرسام. في المشاهد الممتدة على طول الفيلم، يتجول الفنان داخل المناظر الطبيعية، يتفحص الضوء الذي يتدفق عبر الأشجار أو يتسلق تلًا صخريًا للحصول على رؤية أفضل. تغيير طفيف في النور يبدو كأنه حدث بالنسبة إليه، الأشياء تبدو في عينيه غير ما تبدو في الواقع، وكذا ألوانها. يأتي تعبير دافو ليخبرنا عما إذا كان فينسنت هنا يبحث عن المعنى في الأشياء أم يصارع ذاته بحثًا عنه أم يعيش مرحلة مخاض للوحة جديدة. يسجل تاتيانا ليزوفسكيا Tatiana Lisovskya موسيقى تصويرية مبهرة لتلك المشاهد. الإيقاع ليس بطيئًا على الإطلاق، بل كان رائعًا ينتقل من مشهد لمشهد دون تطويل أو اختصار لأي منها. كما نجح تصوير بنفيت دلهوم Benoît Delhomme في أن يعكس أعمال فينسنت المشهورة عالميًا، بما في ذلك الجدران الصفراء الشهيرة بغرفة نومه في أرليس، دون أن تبدو تلك الأعمال شبيهة بالصور الكاريكاتورية أو المعاد رسمها. نرى داخل الفيلم مجموعة من زهور دوار الشمس الميتة، وفي وقت لاحق، تظهر إحدى لوحات فان غوخ المشهورة بدوار الشمس (رسمها العام 1888 قبل وفاته بعامين) على إحدى جدارن غرفة نومه، دون أن يركز شنابل الكاميرا عليها فتبدو طبيعية للغاية. الكاميرا تتحرك كما لو أنها تحاكي عين فان غوخ في نظرته للطبيعة، وفي بعض الأحيان تتحرك بنوع من الاضطراب كما لو أنها تعكس اضطراب فان غوخ نفسه.
استطاع شنابل بكاميرا الرسام أن يستوعب هذه الرؤية الصوفية لرحلة فان غوخ، استخدم الكاميرا الذاتية التى تعبر عنه وعنها، فإذا كانت اللقطة موضوعية، فإنها تحاكى أيضًا عين فان غوخ التى ترى الأشياء بصورة مختلفة، يختل المنظر التقليدى، وتختفى التكوينات الكلاسيكية، نرى المشهد كما رآه الفنان، وليس كما يبدو، حتى فى ظل المرض، تعبّر المرشحات عن ضباب لا يمكن أن يحجب المنظر، يشوهه ولكن لا يخفيه أبدًا. على شريط الصوت تنساب موسيقى مذهلة، بيانو وكمان، وشمس فان غوخ تكاد تخرج من الشاشة لتضىء قاعة العرض. ينتقل الفيلم في إحدى مشاهدة إلى مشهد يُظهر بعض المعلقين والرعاة الفنيين الذين يجلسون في إحدى مقاهي باريس، أحدهم يقرأ مراجعة ساخرة لبعض أعمال فان غوخ، تتحول الصورة بعد ذلك من هذا المشهد إلى مشهد يظهر فيه فينسنت مربوطًا بسترة مثبتة في زاوية فراش غرفته داخل المصحة النفسية التي كان يتردد عليها. وهو مشهد معبر للغاية عن حالة التجاهل التامة التي عاني منها في حياته.
ربما كان القصور الرئيس في الفيلم هو اعتماد الحوار فيه على بعض الرسائل التي تركها فان جوغ، والتي شكلت المادة الخام التي عمل عليها شنابل. المشكلة أن الالتزام بما ورد في تلك الرسائل، جعل حوار فينسنت، سواء مع غوغان أو طبيبه النفسي، يبدو تعليميًا في جانب كبير منه.
الحديث حول حقيقة وفاة فان غوخ إشكالية بدرجة كبيرة. يتبنى الفيلم طرحًا مغايرًا عن الطرح الشائع القائل بانتحاره، حيث يصورة مضرجًا في دمائه بعد إطلاق النار عليه من قبل بعض المراهقين، أحدهما يرتدي زي بافالو بيل. ومع تقدم الفيلم صوب نهايته، فإنه لا يقرر ما إذا كانت موهبته الفنية هي مصدر عبقريته أم إنها عرض من أعراض المرض أم كليهما معًا، ولكن الفيلم في مجمله ينحو نحو إظهاره بمظهر "العبقري المجنون".
أخيرًا، وسواء تحدثنا عن فينسنت المحب أو عند بوابة الأبدية، فنحن أمام عملين جاءا على قدر مستوى موهبة فان غوخ وبإيمان حقيقي بها. وأحد مواطن الإبهار فيهما كونهما ينظران إلى الفن بوصفه كشفًا وتجربة داخلية، وما الألوان والأشكال إلا تعبيرًا خارجيًا عن هذا الكشف. فى أحد أجمل مشاهد فيلم عند بوابة الأبدية يقول فان غوخ إنه سابق لزمنه وأنه لا يلوم أحد على تجاهله، وإن معاناته كما المعاناة الذي تعرض لها السيد المسيح، فالآلام عنده، كما يقول الناقد محمود عبد الشكور، تبدو ثمنًا بخسًا للأبدية، للقيمة، للنقش على جبين الزمن، لملامسة الخلود، ولتحرير الجمال المراوغ، ووضعه فى لوحة ملونة، الفنان فقط هو الذى يرى، الآخرون ينظرون فحسب.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- تحولات الصورة من الواقعي إلى المجازي
- المرئي أم المكتوب .. قراءة في لوحة هذا ليس غليونًا لرينيه ماغريت
- جان بودريار.. عن الإرهاب والحرب العالمية الرابعة
- السينما وكهف أفلاطون
- معادلة شارل بودلير
- من شارل بودلير إلى مارسيل دوشامب
- هل يمكن تأسيس نقد فلسفي للأفلام؟
- النموذج المعرفي مدخلاً لفهم الفكر الغربي
- موت المؤلف.. هل ثمة ضرورة؟
- الثقافة البصرية حتمية معرفية وضرورة أكاديمية
- متى تجد علوم الحكمة طريقها إلى جامعات المملكة؟
- أطروحة موت الواقع بين الفضاء الفلسفي وعوالم السينما
- بلاغة الصمت السينمائي
- وصايا رايت العشر بين وظيفية لو كوربوزيه وتفكيكية يزنمان
- فان غوخ بين مرثيتين
- «فضيلة أن تكون لا أحد».. عن الحكي بين الزمن المفقود والمستعاد
- كيف يمكن للعمارة أن تحقق السعادة في حياتنا؟
- العنف، العبث، والعدمية بين نيتشه وتارنتينو
- السوريالية وعمارة المفارقات
- استجابة الفلسفة الإسلامية المعاصرة للواقع والتفكير خارج التاريخ
- امتدادات التيارات الغربية في العالم الإسلامي
- المشاريع الفكرية العربية بين التراث والتجديد.. مراجعة نقدية
اكتب تعليقك