السينما وكهف أفلاطونالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 02:44:02

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

تبدو مغامرة السينما مثل مغامرة الفلسفة. لهذا يقال أن التفكير في السينما قد بدأ مع الفيلسوف اليوناني أفلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد! إذ تبدو فلسفة أفلاطون في مجملها كأنها جاءت من أجل التمييز بين الحقيقي والمزيف، الثابت والمتحول، المعقول والمحسوس. وهو في سبيل هذا التمييز صاغ نظريته في المثل التي تمثل جوهر فلسفته. ولعل استحضار أمثولة الكهف التي قدمها أفلاطون في القسم العاشر من جمهوريته يلخص وجهة النظر الأفلاطونية في العلاقة بين تلك الثنائيات الآنفة: تحكي أمثولة الكهف عن أناس يعيشون في كهف تحت الأرض يواجه مدخله من أعلى نور الشمس، مقيدين من رقابهم وأرجلهم، بحيث يصعب عليهم الالتفات إلى مدخل الكهف، فلا يملكون إلا النظر للأمام، حيث يجدون جدارًا يعكس ظلال من يتحرك من خلفهم؛ وهم على ثقة بأن هذه الظلال ما هي إلا العالم ولا شيء سواه. ولقد قام أفلاطون نفسه بشرح رموز هذه الأمثولة بحيث يصير الكهف عنده صورة العالم الذي نعيش فيه، بينما الشمس هي مثال المثل، وهؤلاء المقيدون هم البشر المرتبطون بالأرض وكل ما يشغلهم ويحيط بهم ويرونه أمامهم هو الواقع الموجود؛ وهم يثقون في واقعية ما يرونه دون شك. ولكن مع فرض تحرر أحد هؤلاء الأشخاص من قيوده التي تشده لعالم الظلال شدًّا، وأنه استطاع أن يعتلي قمة الكهف ليصل إلى مخرجه ويعاين الشمس الحقيقية، فإنه لن يقوى على رؤيتها في البداية من فرط شدة بريقها الذي يخطف الأبصار، لذا وجب عليه أن يتدرج في رؤيتها "ففي البداية يكون أسهل الأمور أن يرى الظلال، ثم صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، ثم الأشياء ذاتها، وبعد ذلك يستطيع أن يرفع عينيه إلى نور النجوم والقمر، فيكون تأمل الأجرام السماوية وقبة السماء ذاتها في الليل أيسر له من تأمل الشمس ووهجها في النهار. وآخر ما يستطيع أن يتطلع إليه هو الشمس ذاتها، وفي موضعها الخاص" عالم الخيالات والظلال والأوهام هو العالم الحسي الذي يعيشه الناس، إنه عالم الصورة والانطباعات الحسية الزائفة، عالم شبيه بالحقيقي، لذا فهو أقل منه في الدرجة والمنزلة. وهو معتمد في وجوده على نور شمس الحقيقة التي لولاها لما رأينا ظلال هذا العالم".

 تمثل الظلال لدى أفلاطون اللاوجود، بينما ترمز الشمس إلى الوجود الكامل. وتشبيه الكهف هو أشبه بمقارنة بين نمطين من الحياة؛ حياة تفتقر إلى الاستنارة مع الظلام داخل الكهف، وحياة مستنيرة تدرك حقائق الأشياء في ضوء الشمس. والكهف هو منطقة الصراع الأزلية بين قيم الحياة الفلسفية وقيم الحياة اليومية السطحية. والأهم من ذلك أن صورة الكهف عند أفلاطون قد خلقت التمييز الفلسفي بين المظهر والحقيقة، وأكدت أولوية الثانية على الأولى. وفي كل الأحوال تبقى الصورة مهما بلغت دقتها وبلاغتها في مرتبة ثانية، لكن ما دمنا لا نستطيع مغادرة عالم المظاهر لأننا محاطون به من كل جهة، فإن التحذير الأفلاطوني هو ألا ننساق وننخدع به، وأن نظل دائمًا ننشد الفكرة أو المثال المفارق الذي يعد هذا العالم إشارة أو صورة له.

ما علاقة تلك الأمثولة بالسينما إذن؟

 إن معظم المؤلفات التي تناقش علاقة الفلسفة بالسينما يحلو لها أن تقارن بين أمثولة أفلاطون وقاعات العرض السينمائي. والواقع أن القراءة الأولية لأسطورة الكهف الأفلاطونية يمكن أن تدعم هذه المقارنة. فشكل الكهف الذي يصفه أفلاطون يتطابق مع شكل الكاميرا التي يعني اسمها الأصلي الغرفة المظلمة camera obscura. فالكهف كما يصفه أفلاطون به ممر طويل ضيق ينتهي بفتحة صغيرة، ويكاد أهل الكهف لا يشعرون بهذا الممر، والكاميرا كذلك هي كهف مظلم لا يدخله الضوء إلا من فتحه صغيرة هي العدسة.

على أن الأهم من ذلك في هذه المقارنة هو وضع من هم بداخل الكهف الشبيه مع وضع المتلقين داخل قاعة العرض "فداخل قاعة مظلمة يشاهد أشخاص جالسون عرض أشكال من الصور المضاءة من الخلف. فهم يحضرون لعرض خاص بالمشاهد الواقعية معتقدين أن ما يرونه يمثل أشياء العالم، في حين أن الأمر لا يتعلق بالواقع الفعلي" إنه عالم مختلف بالكامل يمكن تلخيصه في كلمة واحدة فقط هي السينما. والواقع أن أفلاطون لو كان يحيا بيننا لوجد في قاعات العرض خير تطبيق لإمثولة الكهف، أو لوجدها نموذج أكثر واقعية يمكن الاستشهاد به في تفرقته بين العالم المعقول والمحسوس.

وبالنظر إلى التأثير الذي تمارسه السينما على وعي المتلقي أو المشاهد بحيث تحولت شاشة العرض السينمائي إلى فاعل مركزي حقيقي للوعي والثقافة المعاصرة، كما يصفها فريدريك جيمسون؛ فإن ما تقوم به السينما هي إحلال عالم افتراضي محل العالم الحقيقي، أو على أقل تقدير تتحول شاشة العرض إلى منظار ينظر به المتلقي، غير المسلح بالنقد، إلى العالم من حوله. فالسينما تعمل بالطريقة ذاتها التي يعمل بها الجهاز الإعلامي، أي عن طريق الترويج للأساطير والأوهام التي تقوم بعملها بطريقة تراكمية وتتحول بمرور الوقت إلى موجهات للسلوك الإنساني في العالم.

إن حالة الإنسان في هذا الجو الطقوسي المصاحب لعرض الأفلام يشبه إلى حد كبير إنسان كهف أفلاطون الذي يتعامل مع انعكاسات الظلال على أنها حقيقية. لهذا السبب رفض فيلسوف مدرسة فرانكفورت تيودور أدورنو السينما، ورأى أنها تشكل خطرًا كبيرًا على المجتمع. فالسينما تمتلك القدرة الفائقة على تقليص دور المشاهد في إنتاج المعنى وتحويله ومن ثم إلى متلق سلبي لسيل الصور المتدفق على الشاشة. فالعمل السينمائي يقلص حجم المشاركة، فهو يملي على المشاهد ما يريد أن يقوله ويحصره في الإطار الضيق الذي تمثله شاشة العرض. يكون المتلقي همه الأول، في أثناء متابعته للعمل السينمائي متابعة ذلك السيل المتدفق للصور المتحركة دون إعطاءه الفرصة للتفكير والتدبر. وتستخدم السينما من أجل ممارسة تأثيرها المنوم أو المخدر كل الوسائل الحسية التي تثير غرائز ورغبات المشاهد، فينصرف عن الدلالة والمعنى ويركز كل اهتمامه على الجانب الحسي الذي تفجره السينما بقوة "فليس من المطلوب أن يكون هنالك أي تركيز فعلي لامتصاص المنتج، حيث يكون الجمهور قد استوعب مسبقًا ما سيلي حين يسمعون النغمات الافتتاحية من أغنية بوب، أو حين يعرضون النجم أو نوع الفيلم السينمائي. وبذلك يكون بمقدور المرء أن يسمع أو يشاهد بطريقة ذاهلة إلى هذا الحد أو ذاك، بل إن قيامه بغير ذلك مستحيل لأنه ما من شيء هناك كي يتحداه ويدفعه إلى التفكير". وبالطبع فإن المؤثرات التي تقدمها السينما، سواء بصرية أو سمعية أو ما يتعلق منها بشخصية النجم، حاضرة ومستعدة، لأن تستحوذ على الجمهور وتحوله إلى "مشاهد ناكص" بتعبير أدورنو.

في العام 2005 قدم المخرج مايكل بي ّMichael Bay فيلمًا بعنوان الجزيرة The Island يبدو متطابقًا في تيمته مع أمثولة الكهف الأفلاطونية. يحكي الفيلم عن المستقبل القريب، حيث يعيش مجموعة من البشر في مجمع كبير، رجالاً ونساءً، كعائلة كبيرة متعاونة. وكل ما يعلمه أفراد هذه المجموعة أنهم الناجون من كارثة حلت بالأرض أدت إلى تلوثها وعدم صلاحيتها للحياة. ويشرف على هذا المجمع بشكل مباشر عالم يساعدهم في حل مشكلاتهم. ويعدهم بالخروج إلى "الجزيرة"، زاعمًا أن هذه "الجزيرة" هي البقعة الوحيدة على الأرض التي لم تتضرر من هذه الكارثة. وبشكل أسبوعي، تنظم قرعة أشبه باليناصيب، والفائز يذهب إلى "الجزيرة". وكذلك بعض النساء في هذا المجمع كن يحملن ويتم إرسالهن إلى "الجزيرة" حال ولادتهن. رجل من بين هذه المجموعة، يتميز عن البقية بالذكاء والفضول، يتساءل عن جدوى وجوده وعن حقيقة ما يجري في هذا المجمع وعن حقيقة "الجزيرة". وكان على اتصال مع أحد عمال الصيانة في المجمع، يذهب إليه عن طريق سراديب المجمع المظلمة للحديث. وفي اليوم الذي يسبق خروج الفتاة التي أحبها من المجمع إلى "الجزيرة" يتمكن صاحبنا من الخروج ليرى حقيقة ما يجري. يكتشف أن أحد أصحابهم الذي خرج في الأسبوع المنصرم إلى "الجزيرة" على طاولة العمليات ليتم استئصال كبده. ويكتشف امرأة حامل خرجت لتوها بعد أن جاءها المخاض، يتم قتلها بجرعة قاتلة وأخذ طفلها منها ليعطى لرجل وامرأة غريبين. فيهرب من المجمع مصطحبًا رفيقته لتبدأ رحلته في اكتشاف حقيقة المجمع والعالم الحقيقي خارج هذا المجمع. وفي نهاية الفيلم يعود الفتى مرة أخرى إلى المجمع ليحرر الجميع من هذا العالم الوهمي الخادع ويخرجهم إلى العالم الحقيقي.


عدد القراء: 7229

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-