المرئي أم المكتوب .. قراءة في لوحة هذا ليس غليونًا لرينيه ماغريتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-02-15 08:07:26

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

كانت، وربما لا زالت، إشكالية العلاقة بين ما هو مرئي وما هو مكتوب، أو بمعنى آخر النص-الصورة، من الإشكاليات الحاضرة باستمرار في تاريخ الفكر. وقد اتخذت أشكالاً عديدة، وفقًا للحقول المعرفية التي تمت مناقشتها من خلالها. ففي الابستمولوجيا طرحت هذه الإشكالية في سياقات عديدة، خاصة في الابستمولوجيا المعاصرة، وكان السؤال عن الكيفية التي تتم بها عملية المعرفة واكتساب الوعي هو منطلقها: أيهما يمتلك الأولوية والسيادة على الوعي.. اللغة أم المرئي؟ هل التفكير يتم بواسطة اللغة؟ أي هل العقل يترجم كل ما يراه إلى لغة؟ ومن دون هذه العملية تفقد الأشياء دلالتها، أم أن المرئي له لغته الخاصة، التي تتجاوز وتعلو على أي صياغة لغوية حتى ولو تمت؟ هل اللغة تستوعب ما هو مرئي، بحيث تنوب عنه في غيابه؟ أم أنها مجرد قوالب وصياغات تحفز الذهن على استحضار الصورة والمشهد؟ خاصة مع الوضع في الاعتبار، الأسبقية الأونطولوجية للمرئي، وأن التفكير يتم بالصورة أولاً قبل أن يتم باللغة. في اللغويات حظيت هذه الإشكالية باهتمام كل اللغويين، وكان أبرز من تناولها بالدرس والتمحيص أهم تيارين في اللغويات المعاصرة: السيميولوجيا والسيميوطيقا، وعلى الرغم من وجود أوجه تشابه بين كلا التيارين في نواح عديدة، إلا أن الخلاف بينهم كان واضحًا بصدد هذه المسألة، ففي حين جعلت سيميولوجيا سوسير من النظام اللغوي نمطا متسيدًا على كافة الظواهر والأنماط المعرفية الأخري؛ فإن سيميوطيقا بيرس Pierce قد أفسحت الطريق أمام أنظمة علاماتية أخرى مستقلة تمامًا عن النظام اللغوي، بمعنى أنها تمارس دورها بطريقة لا لغوية. وفي الحقل السيكولوجي، كانت هذه الإشكالية حاضرة، في سياق شبيه بالسياق الابستمولوجي، في المناقشات التي دارت حول تطور الوعي والسلوك، ومراحل اكتساب المعرفة. أما في الفن، فقد دارت سجالات عديدة حول هذه المسألة، في سياق المقارنة بين أنماط الفنون: الفنون المرئية، الفنون اللغوية، الأدب والتصوير، الموسيقى والعمارة، السينما والسرد...إلخ.   

كان الرسام البلجيكي رينيه ماغريت (1898 - 1976) من بين الرسامين القلائل الذين كانت تشغلهم مثل هذه الإشكاليات الفكرية. وكان يسعى باستمرار لتجسيدها عبر خطوط لوحاته. لهذا قيل عنه أنه الرائد الأول لما عرف بعد ذلك باسم الفن المفاهيمي Conceptual painting. ومن بين أعماله التي أراد أن يطرح فيها تلك العلاقة الملبسة بين اللغة والمرئي أو بين الكلمة والصورة، تلك اللوحة المسماة هذا ليس غليونًا  Ceci n’est pas une pipe 1929. وقد أثارت تلك اللوحة شأن بقية أعماله، جدلاً كبيرًا لدى النقاد التشكيليين، لدرجة دفعت الفيلسوف وعالم الاجتماع ميشيل فوكو وكتب عنها مقالته خيانة الصورةtrahison de l' image ، ودارت بينه وبين ماغريت نقاشات عديدة حولها.

كل من يلقي ببصره على لوحة ماغريت، سيفاجأ، لا محالة، بغرابة هذه اللوحة التي تتقيد إلى أقصى حد بقواعد التمثل مع أن كل ما فيها "يقول" بعكس "ما تصوره". يتعلق الأمر بهذه اللوحة التي تجسد في فضائها لوحة أخرى وقد رسم داخل إطارها غليون، وتحت هذا الغليون المجسد في اللوحة المرسومة، كتب بحروف بارزة: "هذا ليس غليونًا" ceci n’est pas une pipe. وفوق اللوحة المرسومة والمحمولة بمسند، يظهر غليون آخر كبير معلقًا في الفضاء لا يخالف الموضوع المرسوم سوى في لونه المائل إلى السواد.

ما يرمي إليه ماغريت هنا في هذه اللوحة هو إزالة كل علاقة تمثلية بين "المكتوب" و"المرئي"، فكأن للأول نظامًا آخر لا يتقاطع مع نظام الثاني برغم أن الفضاء الذي يسبح فيه هذان الطرفان (أعني العبارة المكتوبة والغليون المرسوم) هو فضاء التمثل الكلاسيكي، لأن لا شيء فيه يخالف الفضاء المعتاد.

  بالفعل ماغريت يتعمد بث التباين بين "الكلمات" و"الأشياء" ويواصل إبراز هذا التباين بأشكال مختلفة. فما من مرة قام فيها برسم شيء يحوي بداخله كلمات أو جمل إلا وتعمد التركيز على الاختلاف الذي ينخر "المكتوب" و"المرئي". لكنه بدل أن يقف عند هذا الحد فهو يمضي إلى حيث يكون بالمستطاع الوقوف على "تباين التباينات" ècart des ècarts حاذفًا- مثلما يفعل بورجيس- القاعدة التي تستطيع توحيدهما في هوية مشتركة، وكأن ما يهمه بالدرجة الأولى ليس هو أن يتعرف المشاهد في موضوعاته المرسومة على نماذج أصلية، بل هو أن يطلق العنان لبناء صور تشبه دومًا الموضوعات الواقعية لكنها لا ترتبط بها بأي رباط ماهوي.

لا داعي إذن لأن نبحث للغليون المرسوم في إطار اللوحة عما يطابقه في الواقع فهو ليس إلا رسمًا، ولا داعي لأن نجد للغليون المعلق في الفضاء عن موضوع ينطبق عليه، فهو ليس إلا "تشابهًا ضبابيًّا" une similitude nuageuse كما يقول فوكو، مثلما أنه لا داعي للبحث للعبارة "هذا ليس غليونًا" عن موضوع تحيل عليه، فهي ليست إلا عبارة مكتوبة لا تشبه سوى نفسها، ولا تمثل سوى ذاتها. أجل، إن كل هاته الموضوعات لا تعدو أن تكون سوى سيمولاكرات. ولهذا يصر فوكو في تعليقه على اللوحة نفسها بأن التشابهات عند ماغريت "لا تثبت ولا تمثل أي شيء خارجها"

 ما يحدث هو أن المشاهد للوحة ماغريت "هذا ليس غليونًا"، دون أن يقرأ التنويه الذي يخترق اللوحة من أن الذي تشاهده ليس غليونًا، يتبادر لذهنه على الفور أن ما يشاهده هو صورة لشيء مألوف ومتعارف عليه بـ"الغليون"، لكن ما أن يقرأ تنويه ماغريت حتى تبدأ قناعاته القبلية في الاهتزاز، ليسأل نفسه إذا لم يكن هذا الذي أراه غليونًا فأي شيء يكون؟ وما يلبث أن يحاول جاهدًا التدقيق في اللوحة من جديد حتى يكتشف سبب هذا التنويه، أي محاولة للبحث عن الاختلافات التي قد تكون موجودة في الرسم بين الغليون "الذي هو ليس غليونًا" والشيء المتعارف عليه في الحياة بأنه غليون، والتي دفعت الرسام لأن يضع تنويهه، لكن هذا التدقيق لن يسفر إلا عن خيبة أمل، إذ إن ما يشاهده في اللوحة هو غليون بالفعل. لكن المفارقة هي أن المشاهد لن يترك اللوحة وهو مقتنع أتم الاقتناع بصدق ويقين ما رأته عيناه، سوف يتركها وهو ما يزال في حالة من الالتباس، باحثًا عن سر هذه العبارة التي تخترق اللوحة؟ وعما إذا كان ما رأته عيناه هو الحقيقي أم أن العبارة لها مبررها ومن ثم تكتسب مصداقية أكبر من الصورة المجسدة؟ وإذا ما سألنا المشاهد بعد ذلك عن موضوع اللوحة هل هو  الغليون؟ لن نجد إجابة واثقة، وإنما سيأتي الرد بربما.. ربما تكون غليونًا، وربما لا.

 أيهما يمتلك الأولوية، الصورة أم الكلمة؟ المرئي أم اللغة؟ بالتأكيد هذا هو التساؤل الذي كان يقصده ماغريت من لوحته، إذ لم يهدف ماغريت تقديم نوع من الخدعة البصرية المتعارف عليه في بعض التصاوير والتي فحواها "أن هذا الذي تشاهده يحتوي على شكل آخر إذا غيرت الوضع الذي تنظر من خلاله للوحة"، كما لم يقصد إثارة نوع من الالتباس والحيرة لدى المشاهد، إنما هو فقط أراد أن يطرح التساؤل السابق لكن بالرسم، يعضد هذا الرأي أن ماغريت لم يجعل من عبارته تعليقًا أو اسمًا للوحته، كما هو الحال في لوحات أخرى، بل جعل العبارة حاضرة في فعل التلقي ذاته، في قلب الصورة ذاتها، بحيث يصعب تجاهلها، والاكتفاء بفعل المشاهدة.

ثمة مغزى آخر للوحة ماغريت، إذ يمكن النظر إليها على أنها تحمل رسالة مفادها "هذا ليس غليونًا، إنه رسم". فالغليون المرسوم، ليس غليونًا بالفعل؛ إن هو إلا صورة غليون. مجرد رسم للغليون. وتلك هي الخيانة؛ لأننا لن نقدر في النهاية أن نمد أيدينا ونحشو الغليون تبغًا، وندخنه، أو أن نقضم التفاحة (في لوحة هذه ليست تفاحه). وهذا المعنى، الذي أراد ماغريت أن يقدمه يتقاطع مع العديد من أعماله الأخرى التى حاول أن يناهض من خلالها فكرة التمثل في الفن.  ففي كثير من أعمال ماغريت يحضر موضوع المرآة التي لا تعكس الواقع بل تنتج ما تشاء دونما التزام بقواعد الانعكاسية. إن مرايا ماغريت لا تعيد إنتاج موضوعاتها وفق مبادئ التمثلية التي تأسس عليها فن الرسم الكلاسيكي، بل إنها تعمد إلى إنشاء عوالمها الخاصة، بما فيها الواجهات الخفية التي لا تستطيع المرايا الواقعية التقاطها، مما يعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى بأننا لم نعد أمام مرايا تنسخ الأشياء كما هي ولا أمام تمثلات حقيقية بل أمام قوة شيطانية Une force diabolique توالي إنشاء السمولاكرات (الصور المزيفة)، وتوسع الهوة بين موضوعات الرسم وموضوعات الواقع.


عدد القراء: 14959

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة نور من تونس
    بتاريخ 2019-12-23 13:25:52

    مقال رائع خاصة تحليل اللوحة الفنية وشكرا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-