استجابة الفلسفة الإسلامية المعاصرة للواقع والتفكير خارج التاريخالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-28 10:37:43

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

أ.د. محمد عثمان الخشت

ترجمة: أ. د. بدر الدين مصطفى

 

تعريف بالمؤلف

مُفكر وكاتب مصري وأستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة والمُعاصرة. يشغل حاليًا منصب رئيس جامعة القاهرة. أسست كتاباته لتخصص فلسفة الدين في العالم العربي. وهو صاحب مذهب عقلاني وسطي مجدد لا يتخذ موقفًا رافضًا للتراث في مجملة، بل يرى فيه جوانب مضيئة للغاية يمكن توظيفها والبناء عليها من أجل التجاوب مع مستجدات عصرنا وواقعنا، وفي الوقت نفسه يتخذ موقفًا ناقدًا للاتجاه العلماني المتطرف الذي وقع أسير التجربة الغربية. من أشهر كتاباته وأكثرها تأثيرًا: (المعقول واللامعقول في الأديان)، (مدخل إلى فلسفة الدين)، (نحو عصر ديني جديد). وقد ظهرت هذه الورقة البحثية في العدد الأول من مجلة جامعة القاهرة للعلوم الإنسانية JHASS بعنوان:

"Mohamed Othman Elkhosht, Contemporary Islamic philosophy response to reality and thinking outside history."

وحصلنا على إذن المؤلف بترجمتها، ونظرًا لكبر حجمها فضلنا أن تظهر على ثلاثة أجزاء متصلة، وسيتضمن الجزء الأخير منها قائمة المراجع كاملة.

 

ملخص الورقة

الهدف من هذه الورقة البحثية رسم خريطة السمات العامة للاهتمامات المعرفية والنقدية في الفلسفة الإسلامية المعاصرة. ولن تقتصر هذه الورقة على مجال الفلسفة الأكاديمية أو على أولئك المتخصصين في مجال الفلسفة. وقد تبنت الورقة مقاربة عقلانية نقدية في التعاطي مع الفلسفة الإسلامية المعاصرة في العالم العربي. سيشمل نطاق البحث أعلام من مختلف مجالات نظرية المعرفة ممن حاولوا تقديم "رؤية" للموقف الذي ينبغي اعتماده في مواجهة تحديات العصر ومشاكل الأمة، سواء كان ذلك على المستوى المعرفي أو على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما النتائج التي خلصت إليها الورقة فقد تمثلت في التأكيد على ضرورة وجود فلسفة للعمل وللتقدم بدلاً من الفلسفة التي تقوم على الأفكار والنظريات المجردة والخطابات/ البلاغة. يجب أن تحدد الأخلاقيات المستهدفة لتحقيق ذلك، سمات المواطن الذي سيكون بمقدوره الوصول إلى تحقيق الذات من خلال الوسائل المشروعة القائمة على برنامج تقدمي ذي أسس نظرية وفلسفية. ونظرًا لأنه يمكن التعامل مع النهج العقلاني النقدي من خلال وجهات نظر مختلفة، فإن هذه الورقة تتبنى تصنيفًا للاتجاهات الفكرية الرئيسة؛ الإصلاحية والعلمانية والليبرالية. وتغطي الورقة فترة زمنية طويلة لتحديد ما إذا كانت المشاريع الفلسفية فعالة أم لا.

الترجمة

لا شك أن تصميم خريطة معرفية نقدية للفلسفة الإسلامية المعاصرة أمر محفوف بالمخاطر. فعلى الرغم من أن الفلسفة بدأت منذ ما يزيد على الألفي عام، إلا أن هناك اختلافات حول تحديد تعريف للمصطلح. وتبدو المشكلة أكثر تفاقمًا عندما يتعامل المرء مع الفكر العربي المعاصر و/ أو الفلسفة الإسلامية. هل هي مجرد نشاط فكري بسيط وغير إشكالي، أم أنها من العمق بما يكفي لينظر إليها بوصفها فلسفة؟ يفترض هذا التساؤل أن النشاط الفكري أقل في مستواه من النشاط الفلسفي وأن الفلسفة تختلف بالتالي عن الفكر. وعليه، هل يقتصر الإبداع في الفلسفة على تقديم أنساق فلسفية متكاملة بالمعنى الغربي؟ أم أن الفلسفة تغطي الاعتبارات الفكرية القائمة على النظرية، حتى لو كان مقدمها لا ينتمي إلى النظام الرسمي للفلسفة؟ هل من الضروري الحصول على إجابات نهائية للأسئلة الأنطولوجية والإبستمولوجية والأكسيولوجية؟ أم أن تقديم إجابة متعمقة لمشاكل وتحديات الراهن يؤهل الفاعل لدخول الفضاء المعرفي للفلسفة؟ هل يجب أن تكون هناك إجابات لأسئلة تشمل قضايا مثل الاستعمار، والتبعية، والتخلف، والاستبداد، والعلاقة مع الآخر (خاصة الغرب)، والموقف من الأقليات، والعلاقة بين الدولة والدين، والوحدة سواء على المستوى القومي أو الإسلامي، وشكل الحكومة، والعلاقة بين العلم والدين والموقف من التقاليد؟ وأخيرًا، هل الفكر أو الفلسفة التي أنٌتجت في هذا الجزء من العالم عربية أم إسلامية؟

بعض هذه القضايا الإشكالية حقيقية والبعض الآخر يبدو مفتعلًا؛ رغم ما تمارسه من تأثير تسلطي على بعض الباحثين في مجال الفلسفة. وبغية عدم الانحراف عن تتبع الأساس النظري لهذه القضايا الإشكالية، وهو أمر نواجهه عادة لدى هؤلاء الباحثين، المولعين جدًا بالوصول إلى الأسس لكنهم يفقدون أنفسهم بين القضايا الهامشية، دعونا نركز على إجراء قادر على إظهار التمييز المطلوب. ومن هذا المنطلق سيكون من الممكن رسم خريطة للسمات العامة للاهتمامات المعرفية والنقدية في الفلسفة الإسلامية المعاصرة. ويشير هذا المصطلح إلى كل محاولة، سواء كانت حقيقية أو غير حقيقية، قدمت كنوع من الاستجابة لتحديات عصرنا، وعُرفت بوصفها نتاج ما يسمى "بصدمة الحداثة" في القرن التاسع عشر. ولن تقتصر الدراسة، في هذه الورقة، على مجال الفلسفة الأكاديمية، أو على الباحثين المتخصصين في مجال الفلسفة، حيث سيكون النطاق واسعًا ليشمل أولئك الذين ينتمون إلى مجالات مختلفة في نظرية المعرفة الذين تمكنوا من تقديم "رؤية" للتوجه الذي ينبغي اعتماده في مواجهة تحديات العصر ومشاكل الأمة على المستوى المعرفي أو السياسي والاقتصادي، وأيضًا المستويات الاجتماعية.

ومع ذلك، فإن هذه الخطوة الإجرائية تكشف عن مشاكل أخرى تواجه كل أولئك الذين خاضوا مثل هذه المهمة المعرفية: هل ينبغي تحقيق ذلك من خلال التوسل بتصنيف للاتجاهات الفكرية؟ أو من خلال الأجيال أو المدارس البحثية؟ أم بتبني أساليب التصنيف الغربية؟ أم بقصر النقاش على أصحاب المشاريع الفكرية؟

وبما أنه يمكن معالجة مثل هذه القضية من زوايا مختلفة، فإن هذه الورقة ستتبنى تصنيف الحركات/ الاتجاهات الفكرية الرئيسة: الإصلاحية والعلمانية والليبرالية. قد يقترح البعض الآخر تصنيفًا مختلفًا بسبب الاتصال والتداخل بين الحركات المختلفة. وقد يجادل البعض حول الاتجاه الذي تنتمي إليه بعض الأعلام، خاصة عندما نجد صعوبة في تصنيف بعض الاتجاهات. ويفترض حل هذه المشكلة إجراءً آخر أيضًا من خلال اللجوء إلى السمات الأكثر عمومية أو السمة الأكثر شيوعًا.

إذا كان التصنيف إلى اتجاهات (إصلاحي وعلماني وليبرالي) لا يتماشى مع بعض أولئك الذين ساهموا في الجهود الفلسفية الأكاديمية، فإن زاوية أخرى من الرؤية ستفرض نفسها حتمًا. وسيشمل هذا الكشف عن أجيال من أعلام الفلسفة ومن ثم أنصار المدارس الغربية.

من بين كل هؤلاء، ثمة من استطاع تقديم رؤية فلسفية كاملة أو شبه كاملة. فيما استطاع البعض بناء "مشروع فكري" يتوافق مع الإصلاح في الحياة الواقعية. ومن ثم، فإن الخطوة التالية ستكون التفكير في الرؤى الفلسفية والمشاريع الفكرية لهؤلاء المفكرين. ونظرًا لأن هذه الورقة تغطي فترة زمنية طويلة (أكثر من قرنين)، فثمة بالتأكيد وجهات نظر مختلفة ومتعددة تشملها فرضيتها، ولكن مع محدودية مساحة هذه الورقة، لا بد من الإشارة إلى أننا سنكتفي فيها بالمحاولات الجادة التي استهدفت الوصول إلى رؤية حاسمة وشاملة. سيكون هناك أيضًا تشخيص وتقييم نقدي للوضع الحالي الذي آلت إليه الأمور. ومن خلال الاستفادة من هذا التحليل النقدي، مع الوعي بتاريخ الأفكار، ستكون هناك محاولة لإيجاد طريقة للخروج من المشاكل الملحة في عصرنا.

تطور الفلسفة الإسلامية المعاصرة

دخلت الفلسفة العربية في حالة سبات لمدة أربعة قرون بعد ابن خلدون (1332-1406). وليس صحيحًا أن هذه الفترة بدأت بعد هجوم الغزالي (1058-1111) على الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة. فقد استمرت الفلسفة الإسلامية في التطور بعد ذلك وبلغت ذروتها مع ابن رشد (1126-1198) وابن خلدون (1332-1406). كان هجوم الغزالي موجهًا فقط ضد اللاهوت اليوناني وأتباعهم المسلمين مثل الفارابي (870-950) وابن سينا (980-1037) من بين آخرين. لم يكن هجومه موجهًا لعلوم المنطق والفيزياء وعلم الفلك، بل ركز هجومه على مواقف هؤلاء الفلاسفة بعينهم؛ أعني ليس على الفلسفة نفسها كنشاط فكري.

ظلت الفلسفة الإسلامية في حالة من الغفلة حتى أوائل القرن التاسع عشر ثم عاودت الظهور مع صدمة الحداثة التي أثارها قدوم نابليون إلى مصر عام 1798. ومن منطلق أن مصر كانت أول دولة تتمتع باستقلال سياسي عن الإمبراطورية العثمانية، فقد بدأت الدعوة فيها لإحياء الفلسفة الإسلامية. حدثت هذه الحركة الإحيائية تحت تأثير شخصيات مثل رئيس الأزهر الشيخ حسن العطار (1776-1835) ثم تلميذه الطهطاوي (1973، ص 1801-1863)، الذي ذهب إلى فرنسا كعضو في بعثة تعليمية مصرية (1826-1831). بالإضافة إلى ذلك، كان هناك علي مبارك (1979، ص 1823-1893) وجمال الدين الأفغاني (1827-1897) الذي أمضى بعض الوقت في مصر من 1871 حتى 1879، ثم تلميذه الشيخ محمد عبده (1849-1905).

غير أن مناط اهتمام الفلسفة الإسلامية المعاصرة أخذ في الابتعاد عن ذلك الذي ساد في الماضي: القدم، وكلام الله، وجوهر الله وصفاته. لقد تغيرت الهموم وفرضت صدمة الحداثة همومًا من نوع آخر: النهضة، والعلاقة بين الدين والدولة، والوحدة القومية أو الإسلامية، وشكل الحكم، والعلاقة بين الدين والعلم، والعلاقة مع الغرب، إلخ. وقد أدى صعود الأصولية إلى سيادة الدوغمائية، ومن ثم إلى الفشل الذريع للفكر العربي المعاصر في تقديم إجابات مناسبة على تلك الهموم.

أثار قدر كبير من اضطراب العصر الحديث العالم الإسلامي. لقد شهد هذا العصر زعزعة أسس جميع الثوابت والمبادئ والقواعد التي كانت تحكم الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية العربية الإسلامية لفترة طويلة. وقد حدثت التغييرات بسبب تأثير الغزو الاستعماري الغربي، والانقسام الحاد للأمة العربية، والانعكاسات السياسية، والصراع بين الشخصيات الثقافية، ما أفضى في النهاية إلى نشأة الطائفية التي اتخذت صور: مجموعة إصلاحية حديثة، وحزب ليبرالي، وفصيل علماني، وصراع طائفي، والتوتر الحاد بين الجديد والقديم، وبين العلم والدين، وبين القومية العربية والتحالف الإسلامي، وبقية الانقسامات المتناحرة التي سادت في القرن التاسع عشر وما زالت تسيطر على المنطقة حتى اليوم. في هذا السياق، برز الأفغاني في القرن التاسع عشر كمفكر إبداعي حقيقي في سياق التاريخ الإسلامي الحديث. لقد كان مقدمة للروح الليبرالية الجديدة التي سعت إلى تقديم إجابات نظرية وعملية على التحديات الهائلة في ذلك الوقت. وفي مواجهة الاستعمار، قدم الأفغاني تصوره عن "الوحدة الإسلامية". كانت هذه الوحدة شكلاً ومركبًا من التناقضات. وفي مواجهة جميع الانقسامات الثنائية في عصره (التقدم/ التخلف، العلم/ الدين، القديم/ الجديد، القومية العربية/ القومية الإسلامية)، استخدم مركب التناقضات نفسه لخلق تركيب ديالكتيكي جديد، تفقد فيه الأجزاء هويتها داخل الكل. كان الهدف من هذا كله مواجهة التحدي الاستعماري ومجابهة الاستشراق الغربي من أجل عدم عرقلة التناقضات لأيديولوجيتها الخلافية. شرع الأفغاني في تحقيق هدفين: أولاً، التقاط كل التناقضات، وثانيًا، اختبار هذه التناقضات في سياقها التاريخي لمعرفة مدى تعارضها مع بعضها البعض، وإلى أي مدى يمكن أن تتعايش دون صراع من أجل تحقيق التنمية السلمية. كانت سياسته ترحب بالحوار والاعتراف المتبادل، وترفض نكران الذات والاستبداد وإقصاء الآخر. (بلقزيز، 1992، 78-9)

تمحورت إحدى سمات مشروع الأفغاني التركيبي، ردًا على الازدواجية والتناقضات الانقسامية في هذا العصر، حول حل ثنائية (التقدم/ التخلف- والعلم/ الدين) لنفي الاتهامات الموجهة للإسلام. لقد كان مدركًا أن الخطاب المعرفي للسيطرة السياسية الغربية سيفضي حتمًا إلى الهيمنة الثقافية للغرب على العرب والمسلمين، ما لم يواجه باحتواء معرفي ومجابهة فكرية لأطروحات الخطاب الاستشراقي الغربي.

كان خوف الأفغاني من غزو المستشرقين مماثلًا لقدر خوفه من الهيمنة السياسية. وعلى الرغم من أن الأفغاني، والطهطاوي من قبله، ركزا على الملامح الأساسية الظاهرة للاستشراق عن طريق الرد والتعديل والتصحيح، إلا أنه لم يشكك في مصداقيته بالكلية (الموسوي، 1933، ص 53). ولأن بعض الفلاسفة المستشرقين الغربيين، مثل إرنست رينان، انتقدوا الإسلام وأدانوه بسبب حالة المسلمين، فقد اعتبر المفكرون المسلمون، مثل الأفغاني، التمييز بين الإسلام والمسلمين أمرًا حيويًا [1]. اتبع محمد عبده خطى الأفغاني في كتابة رد على جبرائيل هانوتو. كذلك فعل محمد رشيد رضا في مناظرته مع اللورد كرومر. وفي حين أن هذه الردود اعترفت ضمنيًا بأهمية العلم والمعرفة للأمة المتحضرة وضرورة الحرية للحياة، إلا أنها قدمت في المقام الأول دليلاً على أن المصادر الإسلامية الأصلية عادلة وقابلة للتطبيق إذا تم تقييمها في ذاتها وبمعزل عن الوضع الفعلي للمجتمع العربي الإسلامي.

ولأن النقاشات في نهاية القرن التاسع عشر كانت تتمحور حول تبريرات السياسيين الغربيين لتحضر المستعمرات وتحديثها، فقد استندت هذه التبريرات إلى المقارنات والحط من شأن الآخر؛ المتمثل في الثقافة العربية الإسلامية. ذلك هو الحال الذي كان سائدًا على وجه التحديد في القرن التاسع عشر شهد ظهور صراعات عنصرية آرية مصحوبة بتفسيرات للأفكار التطورية لمفهوم البقاء للأصلح. لذلك، كان على الإصلاحيين تجاوز مسألة تصحيح المفاهيم إلى المحاججة ضد الخصوم، باستخدام مرتكزات هؤلاء الخصوم ومناهجهم. غير أن بعض الإصلاحيين لم يعتبروا المستشرقين مناوئين للفكر الإسلامي. فالكواكبي (1975، ص 1854-1902)، على سبيل المثال، بكل ميوله القومية القوية، نظر إليهم بوصفهم باحثين عن الحقيقة يمتلكون شغف اكتساب المعرفة كنوع من التقدير للفكر العربي الإسلامي. وهو يستشهد على رأيه بويلفريد سكاوين بلانت (1840-1922) ومستشرقين آخرين مشابهين له (308-311)، الذين قدموا نموذجًا للاستشراق يبعد بهم عن التوظيف السياسي المؤيد للاستعمار.

لم تكن جهود الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، من بين جهود الإصلاحيين الآخرين، معنية بالرد على المستشرقين إلا بقدر ما تطرقوا إلى قضايا تتعلق بالإسلام أو السياسة. لقد فصلوا ضمنيًا بين الاستشراق السياسي والاستشراق العلمي والديني. لذا فقد ميزوا بين رينان ودانيال كيمون والسياسيين الذين تبعوهم مثل هانوتاوكس وكرومر وبلفور من جهة، والفلاسفة الذين يعارضون الفكر الاستعماري مثل غوستاف لوبون وهربرت سبنسر وماكس مولر من جهة أخرى. .

استمر الاتجاه الإصلاحي في التطور بعد رشيد رضا وآخرين، وانقسم إلى اتجاهات مختلفة كانت متناقضة- الأصولية العقائدية والإسلاموية المعتدلة والإسلاموية المنفتحة. ومن الشخصيات المتأخرة التي تبنت موقفًا فكريًا ولديها أسس نظرية (دون تقييمها في هذا السياق ودون مناقشة وجهات نظرها المتباينة) سيد قطب، وخالد محمد خالد، والغزالي، والمسيري، وهويدي، والبشري، ورضوان السيد وآخرون.

على الرغم من دفاع أنصار التيار الإصلاحي عن الإسلام، إلا أنهم رفضوا رفضًا قاطعًا التخلي عن الإشارات إلى الحداثة. وقد تبنى الإصلاحيون هذا الموقف بدرجات متفاوتة. في الدرجة الأدنى، كان هناك على الأقل قبول للحداثة في استخدام التكنولوجيا، لكن الحداثة الفكرية مثلت دائمًا مشكلة.

لم يكن لدى معظم الكتاب الذين ينتمون إلى المجموعة الأولى من الإصلاحيين، الذين يمثلون هذا الاتجاه، إطارًا فلسفي متماسك. ومن أسف، فإن التيار الإصلاحي نفذه بعض الكتاب المتواضعين الذين استخدموا الخطاب المنمق وكانوا يكتبون فقط من موقع الدفاع والرد على المهاجمين. عندما يغيّر أحد هؤلاء موقفه، ينخرط في خطاب مسيء، وبالتالي يوُصِف بأنه ضعيف من حيث تبنية لنظرية ما لها أسس قوية (وهي سمة سائدة في خطاب معظم الكتاب الليبراليين والعلمانيين). كانوا على وجه التحديد يفتقرون إلى الأساس المعرفي، وبشكل عام لم يكن لديهم أساس شامل في الفلسفة. وعلاوة على ذلك وفي كثير من الحالات، افتقر الخطاب الإصلاحي الديني حتى إلى الأسس الدينية النظرية.

وعلى الطرف الآخر من التيار الإصلاحي، برزت العلمنة في الشرق مطلع القرن التاسع عشر. لقد قدمت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وسوريا ولبنان ثم إلى تونس ثم تلاها العراق في نهاية القرن. وقد أصبح بقية العالم العربي على دراية بالعلمنة في القرن العشرين.

قدمت العلمنة إلى مصر مع ظهور نابليون. وقد أشار الجبرتي في كتابه (التاريخ إلى العلمنة) في القسم الخاص بأحداث الحملة الفرنسية إلى مصر. وعلى الرغم من أنه لم يستخدم مصطلح العلمنة، إلا أنه استخدم كلمات ألمحت إليها.  أما المصطلح نفسه فقد استخدمه لأول مرة في العالم العربي إلياس بقطر في قاموسه العربي الفرنسي عام 1827. وفي عام 1883 أدخل الخديوي إسماعيل، الذي كان منبهرًا بالغرب، النظام القانوني الفرنسي إلى مصر. وقد كانت رغبته من وراء ذلك تحويل مصر إلى جزء من أوروبا. في ذلك الوقت وحتى عام 1791، استندت القوانين في الهند الإسلامية على قانون الشريعة الإسلامية. وبالتدريج، خطط البريطانيون للقضاء على هذا القانون وإلغاؤه في منتصف القرن التاسع عشر. ثم ألغيت بعد ذلك القوانين القائمة على الشريعة الإسلامية في الجزائر بعد الاحتلال الفرنسي عام 1830. وفي تونس، أدخل التشريع القانوني الفرنسي في عام 1913. كما تأسست العلمانية في تركيا بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية. وبدأت تنتشر بدرجات متفاوتة في معظم حكومات العالم الإسلامي [2].

وقد مثل التيار العلماني كلًا من شبلي شميل، وبطرس البستاني، وأديب إسحاق، ويعقوب سنوا، وخليل سعادة، وأنطون سعادة، وأحمد فارس الشدياق، وفرح أنطون، وإسماعيل مظهر، وكونستانتين زريق، وجبران خليل جبران، وعبدالعزيز فهمي، وعلي عبدالرازق، وميشيل عفلق، وسوكارنو، وسوهارتو، ومصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبدالناصر، ومراد وهبة، وعبدالله العراوي، وناصيف نصار، وجورج طرابيشي وغيرهم. ويمكن ملاحظة أن العلمانية جاءت متوائمة أحيانًا مع الاشتراكية والقومية مثلما هو الحال مع جمال عبدالناصر وميشيل عفلق. كما جاءت متوائمة مع الليبرالية في حالة طه حسين، وبطريقة خاصة لفهم الإسلام كما في حالة علي عبدالرازق. ومع القومية كما في حالة البستاني (حوراني، 1997، ص 280). ويمكن أن تأتي العلمنة أيضًا على علاقة بالإلحاد كما في حالة إسماعيل أدهم الذي كتب لماذا أنا ملحد؛ نُشر عام 1926؛ وقبيل آدم الذي كتب مصطفى كمال أتاتورك وكان يميل نحو الإلحاد والعلمانية الراديكالية. وثمة مثال آخر هو كمال الكيلاني الذي ارتد من الإلحاد. أما إسماعيل مظهر الذي نشر مجلة العصور/ الأزمنة عام 1928 فقد كتب عن إلحاده وعن عودته إلى الإسلام. روجت مجلته في أعدادها الأولى للإلحاد ومهاجمة الدين والعرب والعروبة واتهمت العقلية العربية بالركود والانحطاط (مظهر، 1926، ص 142، الحلو، 2006). كما تراجع بعض العلمانيين في العالم العربي، مثل علي عبدالرازق، عن مواقفهم العلمانية كليًا أو جزئيًا. اتخذت العلمنة شكلين في الفكر العربي الحديث، حيث اتخذ الشكل الأول موقفًا راديكاليًا حازمًا في التفكير في الكون والسياسة والمجتمع والاقتصاد، بطريقة لا تعترف إلا بالعقل البشري؛ أي الموقف المادي مع استبعاد كامل للدين واللاهوت. باستخدام المصطلحات الفلسفية، اعتمد هذا الشكل الأول على "النسبي ورفض المطلق"- وهو اتجاه بلغ ذروته النظرية مع مراد وهبة (1999، ص 467-468) وذروته العملية مع أتاتورك (1881-1938). وقد انضم أتاتورك إلى لجنة الاتحاد والترقي التي أجبرت السلطان عبدالحميد على إصدار الدستور التركي عام 1908. كما لعب دورًا في الانقلاب على السلطان العثماني من أجل إعلان الجمهورية التركية، واتباع الخطى العلمانية للجمهوريات الأوروبية الحديثة. ألغى أتاتورك كلا من الخلافة الإسلامية في 3 مارس 1924 كما أوقف العمل بقوانين الشريعة الإسلامية في المحاكم. وبإعلان تركيا دولة علمانية، عُلمنت الحكومة والتعليم.

إن العلمانية، في شكلها الاقتصادي السياسي المحدود، هي "الفصل بين الدولة والدين". في مثل هذه الحالة، سيكون التفكير في الشؤون السياسية النسبية والمتغيرة والمؤقتة في ضوء العقائد الدينية المطلقة أمر غير جائز. أما الدين فيترك له مجال الأخلاق والقيم وممارسة الشعائر، وهي الأمور التي تقتصر على علاقة الإنسان بخالقه. من أهم الشخصيات التي عبرت عن هذه الآراء في المنطقة العربية فرح أنطون (1874-1922)؛ الصحفي اللبناني الذي هاجر إلى مصر عام 1897. وقد دافع بحماس عن العلمانية بتأثير من أفكار الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان. كما ركز في سجاله مع محمد عبده على الدفاع عن قصر الدين على شؤون الآخرة، أما مسؤولية شؤون هذا العالم فتتحملها الحكومات. وادعى أن الدين، عبر استخدامه لقواعد ثابتة يتم تلقيها وحيًا، يقيد حرية الفكر والعمل. على الجانب الآخر، لا تمارس الحكومات المدنية أي قيود على الحرية، وتتعامل مع الناس على قدم المساواة من خلال القضاء على التمايزات العنصرية التي تقف بين مختلف الطوائف والفصائل. كما حاجج بأن مصلحة الناس تقتضي رفع الحظر الذي يفرضه الفقهاء على الإبداع وأفعال الذكاء البشري التي هي مصدر أي تقدم وتطور. واستنادًا إلى مقدماته الخاطئة، يخلص إلى أنه "ليس ثمة حضارة حقيقية، وليس ثمة تسامح وعدالة دون مساواة. وبالمثل ليس ثمة أمن ولا أمان ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في البلاد دون فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية" (أنطون، 2011، ص 152-160). في كتابه الإسلام وأصول الحكم، الصادر عام 1925، استند على عبدالرازق على مرجعية مختلفة (1925 ، ص 1881-1966) ووضع شكلاً مختلفًا للعلمانية. وقد أحدث بسبب موقفه من الخلافة الإسلامية ردود فعل واسعة استدعت الرد عليه من الكثيرين، كما سحب الأزهر درجة الدكتوراه منه.

في سياق آخر، لا يمكن النظر إلى العلمانية في الغرب بوصفها مجرد اتجاه فكري مثل التي في العالم العربي. إنها بالأحرى سمة من سمات نمط الحياة الغربي، كما أنها حاضرة في كافة الاتجاهات، مثل الماركسية والرأسمالية الغربية، التي تفصل السياسة وجميع جوانب الحياة الأخرى عن الدين. وهي مكون أساسي أيضًا من مكونات العديد من المدارس الفلسفية، مثل الهيغلية، والتجريبية، والمادية، والوجودية، والبراغماتية، والوضعية، والتفكيكية، إلخ. [3] ومع ذلك، فمن المؤكد أن للعلمانية العديد من الأوجه وعشرات المظاهر ذات التركيبات التأليفية المختلفة في تطبيقها العملي. بعض هذه التطبيقات تستخدم الدين بطريقة سياسية براغماتية من أجل السيطرة على الجماهير.

إن علمانية بعض الأنظمة العربية اليوم هي في حقيقة الأمر علمانيات تركيبية انتقائية، تحاول احتواء التيارات الإسلامية إما من خلال القمع والتنازل السياسي والتصالح أو تجنب المبادرات التي قد تتعارض مع هذه الاتجاهات. وهذا واضح في علمانية العراق وسوريا ومصر والجزائر واليمن. ومع ذلك، فإن العلمانية في تونس راديكالية إلى حد ما على الرغم من استخدام بعض أساليب الاحتواء مع التيارات الإسلامية، والتي تتأرجح بين الاستيعاب والعنف. للعلمانية اللبنانية ملامح واضحة على الرغم من التركيبة الطائفية اللبنانية التي تضم فصائل دينية وطائفية مختلفة. إن علمانية الحكومات المتعاقبة هي مجرد بناء سياسي يهدف إلى تحقيق الاستقرار والتوازن بين مختلف الفصائل المتناحرة. بصرف النظر عن هذا البناء السياسي، تظهر العلمانية أيضًا في الاتجاهات غير الإسلامية، أي مع الجماعات المسيحية وكذلك التيارات القومية والماركسية والغربية. كما أنها منتشرة بشكل واضح داخل المجال الفني وفي القطاع الأكبر من وسائل الإعلام.

أما بالنسبة لأسلوب حياة الناس، فالعلمانية حاضرة بدرجات متفاوتة في الدول العربية لتتناسب مع درجة الالتزام الديني لدى الناس، الذي يتأرجح بين التقوى السطحية والالتزام الديني الحقيقي في العقيدة والأخلاق. وقد يٌظهر الشخص العادي أحيانًا توليفة بين العلمانية الغربية والميول الدينية القوية. وهذا يعكس تناقضًا سببه الرغبة في التجاوب مع الصحوة الإسلامية والتغريب في الوقت نفسه.

يدعي العلمانيون أن العلمانية تكافئ الحرية والمساواة والعدالة، وهذا على النقيض من الدين. ومع ذلك، فإن تاريخ العلمانية نفسه يثبت أنه غير صحيح على المستويين النظري والعملي في كل من الغرب والعالم الإسلامي. إن علمانية هوبز هي علمانية بلد خاضع لسلطة استبدادية. وهي في هذا تتشابه مع علمانية ميكيافيلي لأن كلاهما رفض حكم إرادة الشعب. أما علمانية جون لوك فهي رأسمالية لأن مبادئها وأهدافها الأساسية تخدم الملكية الخاصة للطبقة الرأسمالية على حساب الطبقات الأخرى. عندما ازدهر هذا النوع من العلمانية، أدى إلى تطور الإمبريالية العالمية- وبالتالي سارت العلمانية والإمبريالية جنبًا إلى جنب.

من الناحية العملية، فإن معظم حكومات العالم العربي والإسلامي تقيد بشدة جميع الحريات، وخاصة حرية المعتقدات ووجهات النظر السياسية. ومن الأمثلة على ذلك علمانية أتاتورك في تركيا، والحبيب بورقيبة في تونس، وصدام حسين في العراق، وناصر في مصر. أما في الغرب، فتعتبر الولايات المتحدة هي النموذج الأقرب للدولة التي صورها لوك. وهكذا، عندما يديرها الجمهوريون، فإنها تقدم أسوأ مثال لا إنساني للإمبريالية العالمية في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.

يدعو المثقفون العلمانيون إلى الحرية، لكنهم لا يمارسون هذه الحرية. يتحولون إلى طغاة بمجرد توليهم إدارة أي مؤسسة ثقافية، من خلال استبعاد جميع الاتجاهات الفكرية الأخرى. بل إنهم يستبعدون زملائهم العلمانيين عندما يختلفون معهم في الرأي.

كما يغض العلمانيون الطرف، أو يتجاهلون، عن حقيقة أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية يمكن أن يكون الحاكم فيها على صواب أو خطأ. لقد قال أبو بكر، الذي بويع خليفة للمسلمين، فور توليه الخلافة: "قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" (السيوطي، 1952، ص 69).

لم يزعم أحد من الخلفاء الأربعة الأوائل أنه يمثل السلطة الإلهية. فالإسلام لا يدعم الدولة الثيوقراطية التي تبني سلطتها على الإلهية، كما كان الحال في أوروبا العصور الوسطى، حيث كانت الكنيسة قابضة على زمام السلطتين الزمنية والروحية. وفي التاريخ الممتد لأوروبا، ادعى بعض الملوك أنهم يحكمون بالحق الإلهي، وهو ما يرفضه الإسلام. فالحكومة في الإسلام لها سلطة مدنية مشروطة بحقوق الإنسان ومبادئ الحرية والعدالة. لم تكن ثيوقراطية أبدًا أو تمارس سلطتها باسم الله. وقد قُدِّم ابن أحد الحكام إلى العدالة ذات مرة لانتهاكه حقوق شخص عادي. إن ما قاله الخليفة عمر لعمرو بن العاص، حاكم مصر آنذاك، لا يُنسى: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" (المصري وآخرون، 1996، ص 290). والحقوق المدنية، بما في ذلك الحرية، هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني في الإسلام. إن إبراز مبادئ الشفافية والحق في السيطرة المتبادلة على الشؤون العامة، دون المساس بالخصوصية والحقوق الفردية، راسخ بوضوح في مبدأ " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وقد صدق العالم الإسلامي ابن تيمية على القول بأن "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" (2019، ص 63).

من الواضح أن العلمانيين يقعون في التعميم بشكل صارخ عندما يصدرون أحكامًا شاملة على الأديان دون تمييز. أحد أسباب ذلك أنهم لا يميزون بين الإسلام والمسيحية. وهم يتجاهلون حقيقة أن الإسلام ليس فيه مكانة خاصة للدعاة أو الفقهاء. لا يعترف الإسلام بسلطة علماء الدين إلا من جهة كونهم مرجعية لأولئك الذين يرغبون في الاستفسار عن الشؤون الدينية. إنهم يقدمون النصح فقط دون أي فرض، أو أن ذلك ما ينبغي أن يكون[4]. والقوى الحاكمة هي التي أنشأت المؤسسات الدينية لإضفاء الشرعية على أنظمتها.

يدعي العلمانيون أن هناك صراعًا بين العلم والدين لأن الدين يناقض العلم، وفي المقابل تدعمه العلمانية. وهم بذلك يخلعون على المشهد الإسلامي مشكلة أوروبية، ويبتكرون بالتالي حلاً أوروبيًا لها. فإذا كان الصراع بين العلم والدين له تاريخ طويل في السياق الأوروبي، إلا أن هذا الصراع غير موجود في الحالة الإسلامية. القرآن نفسه يعتبر دراسة الكون وعلوم الطبيعة واجبًا دينيًا وضرورة ملزمة. أما بالنسبة للحجج المتعلقة بممارسات معينة، فهذه حالات استثنائية لم تكن أبدًا بخطورة تلك الخاصة بالمسيحية الكاثوليكية في تاريخ أوروبا. وفي الإسلام، لا يشكل صعود طبقة الدعاة سلطة دينية تضاهي سلطة رجال الدين في الكنيسة. تكشف الحركة الاستشراقية العلمانية المعادية للدين عن الدور الذي لعبته العلمانية في اتهام الإسلام بكونه عائقًا يقف في طريق التقدم العلمي دون أساس أو برهان حاسم. وقد جاء حكمهم نتيجة استخدام تشبيه غير مناسب يفترض أنه إذا أعاقت المسيحية التقدم العلمي في الغرب، فإن الإسلام، بالمثل، أعاق التقدم العلمي في الشرق (Rodinson, 2007, p. 57).

 

الهوامش:

1. انظر تحليل موسع للحوار بين رينان والأفغاني حول العلاقة بين الإسلام والعلم في:

 محمد عثمان الخشت، الوضعية والاستشراق في عصر الايديولوجيا: رينان نموذجًا، القاهرة، نهضة مصر، 2007.

2. انظر الطبعة الثانية من:

Contemporary Encyclopedia of Religions and Sects.

3. يميز المسيري بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. يقدم الشكل الجزئي منها نظرة جزئية للواقع لأنه لا يتعامل مع الأبعاد الشاملة والمعرفية. إنه ليس شاملاً، لذا فهو ينادي بفصل الدين عن السياسة المحضة، وربما الاقتصاد أيضًا. ويتم التعبير عن هذا بوصفه "فصل الدين عن الدولة".  تتجاهل هذه النظرة الجزئية الأبعاد الأخرى للحياة ولا تنكر وجود المطلق، أو الضرورات الأخلاقية المطلقة، أو الميتافيزيقيا. يمكن وصفها بأنها "علمانية أخلاقية" أو "علمانية إنسانية". أما العلمانية الشاملة فهي رؤية شاملة للواقع تحاول بقوة تحييد الدين والقيم المطلقة وجميع جوانب الحياة الميتافيزيقية. يؤدي هذا الرأي إلى ظهور نظريات تستند إلى الجانب المادي للكون، وتنظر إلى المعرفة المادية من منطلق كونها المقياس الوحيد للأخلاق، فالإنسان تهيمن عليه الطبيعة المادية لا الروحانية. وبالتالي، يطلق عليها أيضًا "العلمانية المادية الطبيعية". انظر المسيري. (2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، القاهرة، دار الشروق، 2002، المجلد 2، ص 219-220، والمجلد 2، ص 471-472. الفرق بين ما يسمى بـ "العلمانية الجزئية" و"العلمانية الشاملة" هو الفرق بين فترتين تاريخيتين في تعريف العلمانية. فقد اقتصرت في البداية على المجالات السياسية والاقتصادية، ولكنها أبقت على بعض القيم الإنسانية والمسيحية. ومع التغلغل العميق لنفوذ الدولة ومؤسساتها داخل الحياة اليومية للأفراد، أصبحت الدولة العلمانية الفاعل الوحيد الذي يشكل رؤية شاملة لحياة الإنسان دون الرجوع إلى الميتافيزيقيا. المجلد 2، ص. 222 وما يليها.

4. (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) القرآن، الجزء السادس عشر، 43. (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)  القرآن، الجزء التاسع، 122.

5. انظر:

Maxime Rodinson، La Fascination de l’Islam، p. 57.

وأيضًا: هشام جعيط، أوروبا والإسلام، ص 61-62. وأيضًا محمد عثمان الخشت، الوضعية والاستشراق في عصر الأيديولوجيا، مرجع سابق، ص 113-114.


عدد القراء: 3337

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-