بواكـير الطب الإسلاميالباب: مقالات الكتاب
إبراهيم عبدالله العلو مترجم سوري مقيم بمدينة يوما – ولاية أريزونا - الولايات المتحدة الأمريكية |
تأليف: د. جوناثان ليونز
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
يدين تاريخ الطب الغربي بالكثير لمواجهاته مع العالم الإسلامي في القرون الوسطى ولكن هذا الدَين يبقى مجهولاً ولم تؤدى مستحقاته على النحو الأكمل.
عندما جلب جيش الصليب الأوروبي الغربي طلائع الصليبين إلى الأرض المقدسة في عام 1096 كان العرب في الشرق الأدنى أقل انبهارًا بحماسة الجيش الدينية وأكثر نفورا ًمن نتانته. ضم جسد الضيف المسيحي المترع بالمرض مؤمنين صادقين وأفرادًا أتقياء ولكنه احتوى أيضًا وفق تقرير المؤرخ المسيحي من العصور الوسطى ألبرت إكس في كتابه " Historia Hierosolymita، "زناة ومجرمين وقتلة ولصوص وشهود زور".
لم ينعم أكثرهم بأي قدر من التعليم وكانوا جاهلين بمبادئ العلم والرياضيات والطب والفلسفة والنظافة ولم يعرفوا أي شيء عن عمل سيد الأجهزة العلمية في القرون الوسطى أي الإسطرلاب الذي التقط حركات الكون الثلاثي الأبعاد على لوحته ذات الواجهة البرونزية ونتيجة لذلك لم يتمكنوا من تحديد ميقات عيدهم الديني الأكثر أهمية أي عيد الفصح ولم يتمكنوا من تحديد الوقت خلال اليوم بشكل دقيق.
أرعبتهم الظواهر السماوية – النجوم المندفعة والبرق وكسوف الشمس. فقد أسلافهم منذ زمن طويل المقدرة على قراءة اللغة الإغريقية وبالتالي قطعوا علاقاتهم الفكرية مع دراسة التاريخ. أنهار التعليم باستثناء حفنة من المدارس الكاتدرائية الملتزمة بابتكارات قُدمت قبل ثلاثة قرون تحت رعاية شارلمان. لم يعرف العلماء الكهنة في مركز الغرب الرائد للدراسات الرياضية في مدرسة كاتدرائية لاونLAON معنى الصفر أو استخداماته.
ومن بين أكثر الأمور التي أثارت حساسية العرب إهمال الصليبيين الكامل للنظافة الشخصية. تبجح أكثر فرسانهم رفعة بالاستحمام أربعة مرات في العام. وتكون طعامهم بشكل أساسي من عصيدة الشوفان الرتيبة وما يمكنهم التقاطه في الطريق. شملت العناية الطبية غالبًا التعاويذ أو بتر الأطراف المصابة. أدى اجتياح الطاعون (الموت الأسود) لأوروبا في أواسط القرن الرابع عشر إلى اضطرابات اجتماعية هائلة. وبسبب الجهل بمبدأ العدوى والنظافة قضى ثلث السكان نحبهم دون معرفة السبب. حفزت الوفيات الهائلة فورة من العنف الذي تمثل بحرق اليهود المتهمين بإدخال المرض عبر السحر.
يسجل كتاب التعاليم The Book of Instruction، وهو مذكرات للقائد السوري أسامة بن منقذ الذي خبر الصليبين في المعركة والسكون حادثتين تم التغاضي فيهما عن نصيحة الطبيب المحلي المقنعة لصالح الطرائق المسيحية. ففي الحالة الأولى قام الفرنجة ببتر ساق الفارس ذات الإصابة الطفيفة باستخدام فأس وفي الثانية قاموا بحفر صليب على جمجمة امرأة مريضة قبل دعكها بالملح. توفي المريضان في الموقع مما حدا بالطبيب العربي للقول "هل تريدون مني شيئاً ما؟"
-كلا. كانت تلك هي إجابتهم.
ولذلك غادرت وقد تعلمت أمورًا عن طبهم لم أعرفها من ذي قبل."
وجهت أعمال سانت أوجستين على مدى ستة قرون المسيحيين المؤمنين لرؤية سر الإله في عالم غير معلوم. نحى أوجستين بعيد اعتناقه المسيحية عام 387 اهتمامه الحي سابقًا بالفن والعلم جانبًا "لم تعد المسارح تجذبني ولم أعد أعير اهتماما لمسار النجوم". وحلت الخرافة محلها. كان الوجود اليومي متخفيًا بمعنى استعاري وتم النظر إلى الظواهر الطبيعية – هذا إذا تم النظر إليها ابتداءً- في إطار الحكايات الوعظية. صُممت الحكايا على ألسنة الحيوانات في القرون الوسطى لتهذيب البشر بحيث تُظهر الأسود والطيور وحتى الصخور كلها دليلاً على حكمة الإله ورحمته والتي قد توفر للإنسان لدى دراستها اللائقة أسوة للسلوك المسيحي.
أُعتبر المرض عقابًا إلهيًا على خطايا الإنسان بدلاً من حالة تستوجب الدراسة والتحسين عبر التدخل البشري.
بدأت بواكير الجهود الرامية لتبني التطورات التقنية بالارتشاح قليلاً من العالم العربي ومن بين ذلك الساعة المائية التي أهداها الخليفة هارون الرشيد لشالرمان في عام 801. وتم النظر إليها كأشياء فضولية يجب الاستغناء عنها أو شجبها كسحر أسود.
كان الإله بالنسبة لمسيحي القرون الوسطى القوة الوحيدة الحاسمة في حياتهم اليومية ولم يكن هناك سبب يدعوهم لاستكشاف طبيعة الأشياء وبالتالي لا داعي للعلم أيضًا.
وعلى النقيض من ذلك أولى المسلمون أهمية قصوى للطهارة والنظام الغذائي. فالتطهير العقائدي للجسد يسبق كل صلاة من الصلوات اليومية الخمسة وهي حاجة قدحت تطوير مشاريع المياه العامة المتقدمة والتقنيات الهندسية المبدعة. حظرت التعاليم الدينية العديد من الممارسات الضارة بما في ذلك استهلاك الكحول وقدمت مجموعة كبيرة من أحاديث وأفعال النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي سُميت فيما بعد "الطب النبوي" أساسًا عامًا للحياة الصحية والسلوك الورع.
وبحلول الوقت الذي وصل فيه أوائل الصليبيين إلى الشرق الأدنى عام 1096 كان أسامة بن منقذ وأتباعه من المسلمين ورثة إمبراطورية إسلامية أرست قواعدها أولاً السلالة الأموية ومن ثم العباسية في القرون التالية لوفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في عام 632.
اعتمد الخليفة العباسي الثاني المنصور على نصيحة خبراء الفلك في بلاطه عندما بدأ ببناء عاصمته الجديدة في بغداد يوم 3 تموز(يوليو) عام 762. كان المنصور متابعًا متحمسًا لهندسة اقليدس وتطلع لتأسيس مدينة دائرية محصنة تضع قصره بمثابة مركزًا رمزيًا لإمبراطورية تشع نحو الخارج في كافة الاتجاهات. وبحلول ذلك الوقت امتدت الأراضي الخاضعة لحكم العباسيين من المحيط الأطلسي إلى ما يعرف اليوم بأفغانستان.
قام العرب على مدى 150 سنة بترجمة كافة الكتب الإغريقية المتوفرة في العلوم والفلسفة وحلت اللغة العربية محل اللغة الإغريقية كلغة للبحث الفكري.
جُمعت المواد من الأرشيف الملكي الفارسي والمخطوطات السنسكريتية والتقاليد الإغريقية ومن ثم تعزيزها لخلق جسم معرفي يمكن تسميته عن جدارة بالعلم العربي. أُنجزت مجمل هذه الأعمال في بغداد في بيت الحكمة الذي ضم لاحقًا مكتبة وأكاديمية للعلماء من شتى أصقاع الإمبراطورية.
رفد هؤلاء الخبراء مرصد الخليفة وأصبحوا جزءاً من التجارب العلمية التي تمت بناء على تعليماته.
أصبح التعليم العالي منظماً بشكل متزايد منذ بداية القرن التاسع وضمت المدن الإسلامية الرئيسة شكلاً من أشكال الجامعات.
ومن بين المؤسسات التعليمية الإسلامية الشائعة في ذلك الوقت المشفى التعليمي حيث بُني أول مشفى من نوعه في دمشق عام 707.
شُيدت مشافي أخرى في المدن الإسلامية الكبرى مثل بغداد والقاهرة وقرطبة. تطور نظام للتدريس الطبي الذي أدمج الدراسة في المسجد مع الممارسة العملية في المشفى.
وتوجب على الطلبة اتباع مسارًا تعليميًا أساسيًا: المظاهر النظرية والابستمولوجية للفلسفة الطبيعية المُدَرَسة في المسجد مع تشخيص الحمى ووصف العقاقير وتجبير العظام ومعالجة الساد (الماء الأبيض) التي يتم تعلمها في ردهات المشافي. تطلب استكمال التدريب الطبي كتابة أطروحة ويختتم مع شهادة تسمح للطبيب الجديد بممارسة المهنة.
كان الارتباط الوثيق بين المسجد والمشفى ذا أهمية خاصة للطب الإسلامي وللتقليد العلمي الاسلامي بشكل عام.
ركز النبي محمد صلى الله عليه وسلم على طلب العلم وقال "أطلب العلم ولو في الصين" واحتفى بالعلماء واعتبرهم "ورثة الأنبياء" وقال "لكل داء دواء وعندما يؤخذ العلاج فإن المرض يُشفى بإذن الله".
كان الطب الإسلامي شديد الارتباط بمبادئ الإيمان ولذلك تعلق بشكل مباشر بالعلوم الأخرى والفلسفة وأعتبر مفهوم المعرفة أمرًا مشروعًا طالما انحصر ضمن إطار نظرة العالم الإسلامي وفق القرآن.
أولى الفلاسفة العرب اهتمامًا كبيرًا لتصنيف العلوم ووضعوا العلوم الاستقرائية والعملية ضمن الطيف الأعرض للحكمة. ومن بين أهم الأعمال تلك في الشرق والغرب كتابات المفكر الكبير في القرن العاشر الفارابي التي تُرجمت إلى اللغة اللاتينية باسم دي ساينتيسDe Scientiis وبقيت مصدرًا مقروءًا على نطاق واسع لعدة قرون.
تعتمد كافة مظاهر الفكر الإسلامي على العلاقة التي ترمز إليها الشخصية التقليدية للحكيم الذي يجمع بين المهارة الطبية والمعرفة الوثيقة بالعلوم الأخرى والفلسفة الطبيعية والميتافيزيقيا.
كان الفلاسفة العرب الرواد من أمثال ابن سينا وابن رشد وابن ميمون أطباء عظماء. وكان الأخير يهودي كتب أعماله الفلسفية باللغة العربية وعمل كطبيب خاص لصلاح الدين الأيوبي الفارس المنافس في القرن الثاني عشر لريتشارد قلب الأسد.
لا تعير العلاقة الوثيقة بين العلم الإسلامي والفلسفة أي اعتبار للمفهوم القائل أن الإسلام والعلم متنافسين متضادين لا محالة وأن التدهور التالي للتقليد العلمي الإسلامي نبع بشكل أساسي من الاضطهاد الديني.
يقع مكمن عبقرية العرب في العصور الوسطى في تقبلهم الرائع للأفكار الجديدة أي في مقدرتهم على تبني اكتشافات الثقافات الأجنبية وفق متطلباتهم الدينية والفكرية والعملية. وبالتالي جمع الطب الإسلامي المنهج الهيومري لجالينوس وأبقراط مع ممارسات الفرس والهندوس والعرب قبل الإسلام من أجل تلبية الاعتبارات الإسلامية لمعالجة المريض وتهدئة العليل.
سعى الأطباء المسلمون لدراسة التشريح البشري والذي عززت أعاجيبه اعتقادهم بحكمة وقدرة الله التي لا حدود لها. التزم الأطباء المسلمون بقسم أبقراط وركزت تقاليد فنهم على أن الطبيب الحقيقي مثله مثل الفيلسوف الحقيقي يجب أن يكون تقيًّا وورعًا.
تلحظ مقالة فارسية من القرن الثاني عشر عن المهن الماهرة ما يلي: "يجب أن يكون الطبيب ذا طبيعة رقيقة وحكيمة ويبرع في الفراسة ويساعد ذلك الصفاء الذهني على اتخاذ قرارات صائبة ويعني ذلك تحولاً سريعًا من المعلوم إلى المجهول".
اجتمعت الأخلاق والعلوم والدين سويًا لإنتاج إحدى أكثر الحقب التاريخية ثراءً في تاريخ الطب.
يركز الإسلام على الرفاه الاجتماعي الذي رعى التطورات المهمة في الصحة العامة – وتأسيس مجمعات المشافي الضخمة وأنظمة النظافة المعقدة والحمامات العامة وموارد المياه العذبة. كانت التغيرات في النظام الغذائي والسلوك الطريق المفضل لاستعادة الصحة وكان الأطباء المسلمون خبراء بارعين في المراقبة والتشخيص واعتمدوا كثيرًا على الإصغاء لنبض المريض وتحليل لون البول.
وكانوا أول من شخص الجدري والحصبة والناعور(هيموفيليا).
وطوروا علم العقاقير والأساليب الجراحية المتقدمة لمعالجة أمراض العين في حالة عجز التقنيات الأخرى عن أداء المهمة. ومن بين التقنيات الطبية المطورة ابتكار المنظار والملاقط المهبلية واستخدام الأحشاء الحيوانية في صنع الخيوط الجراحية واستخدام القطن لتضميد الجروح وسكين جراحية مخفية لإبعاد التوتر عن المريض قدر الإمكان.
كانت مهمة تركيب أنظمة التفكير المتعددة في نظرية كبرى للطب من أعمال العلامة الفارسي الكبير ابن سينا وكانت النتيجة عمله الموسوعي القانون في الطب الذي كتب في القرن الحادي عشر والمؤلف من خمسة أقسام: مبادئ الطب العامة والمواد الطبية وهو خلاصة للعقاقير البسيطة وتشخيص ومعالجة الأمراض الموضعية وتشخيص ومعالجة أمراض الجسم الكامل مثل الحمى واستخدام العقاقير المركبة والمراهم والمواد الأخرى. افتتح ابن سينا الكتاب بتأكيد منطق العالم الإلهي: "نبدأ بحمد الله على تمام خلقه" ثم يعرف الطب "بفن الحفاظ على الصحة وفن استعادتها بعد فقدانها".
تُرجم كتاب القانون فيما بعد إلى اللاتينية وطبع مرارًا وتكرارًا في الغرب لغاية القرن السابع عشر ولا يزال لغاية اليوم مرجعًا مركزيًا لممارسي الطب الإسلامي التقليدي.
وبالنظر إلى تاريخه الطويل ككتاب التدريس الأساسي في كليات الطب من الملائم القول إن ابن سينا يستهدف بشكل محدد أولئك الطلبة الذين يعانون في اتقان عناصره النظرية. "يجب على كل متابع لتعاليمي والراغب باستخدامها بشكل مفيد استظهار معظم هذا الكتاب حتى وإن لم يفهمها بشكل تام".
وبالنسبة لابن سينا واتباعه من الحكماء فإن المرض ليس نتيجة للجراثيم أو الفيروسات - كما هو الحال في الطب الحيوي الحديث- ولكنه ينشأ عوضًا عن ذلك من فقدان التوازن الفريد للاختلاطات الأربعة لجسد المريض وحالاته المترابطة والمتداخلة - الدم (حار/رطب) البلغم(بارد/رطب) صفراء الكبد (حارة/جافة) والمرارة السوداء(باردة/جافة).
ومهمة الحكيم هي التعرف على هذا التوازن الملائم والأخذ بعين الاعتبار عوامل مثل العمر والجنس والفصل من السنة ومن ثم مساعدة الجسم للحفاظ عليها عبر العلاجات المتنوعة مثل التدليك والحركة والتمرين وتغيير النظام الغذائي وأنماط الراحة واستخدام النباتات العشبية وغيرها من العقاقير. ينصح القانون في الطب مثلاً المرضى المسنين الذين يعانون من الآثار الباردة والجافة لزيادة المرارة السوداء باستهلاك الزنجبيل "بكميات وافية بحيث يسخن الجسم دون أن يجففه" ولذا يكون التوازن الملائم بين الأخلاط هو ما نسميه عادة "العافية".
وفي ذات الوقت يؤكد التقليد الكتيم مع ادماجه للتنجيم والخيمياء وعلم الأعداد على العلاقة بين جسد الإنسان الطبيعي والكون المنظم الذي يعيش فيه. استقرأ الأطباء المسلمون بشكل روتيني النجوم لتحديد أفضل وقت لسحب الدم أو إجراء العمليات الجراحية وقارنوا بين أجزاء من جسد المريض والخريطة التنجيمية للسماوات. وفي هذا النظام كان برج الحمل مرتبطًا بالرأس ويستمر نزولاً عبر الجسم وقرب إشارات دائرة الأبراج إلى أن يتوائم برج الحوت مع القدم. وبالمثل ترتبط الفقرات العنقية السبعة في الإنسان مع الكواكب السبعة المرئية في عالم القرون الوسطى: الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل. ويصبح الجسد البشري جزءًا وحزمة من نظام كوني تراتبي جلي يتوافق مع تركيز الإسلام على التوازن بين الإنسان والروح والكون.
ركز ابن سينا أيضًا على الدور المهم لعلم النفس في استعادة التوازن الصحي للجسد. وكتب كثيرًا عن الحياة الداخلية للإنسان وعمل العين البشرية ومفهوم الروح والميتافيزيقيا بشكل عام- وهي أعمال كانت ذات تأثير بالغ على التفكير المسيحي في القرون الوسطى. تُرجمت كتاباته الشاملة عن مثل تلك المواضيع أولاً إلى اللغة اللاتينية في اسبانيا المسلمة آنذاك بحلول عام 1166 ولكن حالها حال العديد من الترجمات الأخرى للكتب العربية الأساسية التي استغرقت وقتًا لا بأس به قبل الشعور بتأثيرها الكامل. ونُسخت أكثر من مائة مخطوطة لاتينية موجودة من مؤلفاته الفلسفية بعد عام 1250.
قدمت هذه الترجمات للغرب من بين أشياء أخرى التفهم العربي المبتكر للضوء والبصر. وبالنسبة لليونانيين القدماء والذي يعود تاريخهم أولاً إلى ايمبيدوكليس ومن ثم أفلاطون كانت العين ترسل أشعة من الضوء تنير الأشياء التي نراها. ترسخت هذه النظرة في أوروبا القرون الوسطى لغاية وصول العلوم العربية في القرن الثاني عشر والثالث عشر. أدرك ابن سينا وزملائه العرب وعلى الأخص ابن الهيثم أن الضوء يدخل العين الكامنة من العالم المحيط بها - وهي نظرة ستقدم ثورة علمية وميتافيزيقية على أيادي مفكرين من أمثال روبرت جروسيتيست الذي توفي في أواسط القرن الثالث عشر وزميله الأصغر روجر بايكون. استحوذ مسار ابن سينا الرائع كطبيب وفيلسوف على الترابط الأساسي المتداخل في التفكير الإسلامي بين العلم والميتافيزيقيا ومن خلال التواصل بين العلم والدين. كان العديد من العلماء المسلمين الرائعين فقهاء مفوهين وكان أحد أعظم علماء الفلك العرب وأحد أكبر النقاد للنماذج الإغريقية الكونية قيمًا للمسجد الكبير في دمشق. يقدم تراث ابن سينا أيضًا نظرة مفيدة للمسارات المنسية غالبًا والتي بدأت فيها مثل تلك المعرفة بشق طريقها نحو الغرب حيث تم الاعتراف به كمرجع بارز فيما يخص الفلسفة الطبيعية لأرسطو خاصة حول الميتافيزيقيا المعتمة.
دخلت تعاليم ابن سينا حول الروح وعلم النفس عمومًا التقليد الغربي عبر دراساته الضخمة حول علم الأحياء (البيولوجيا).
ترجم مايكل سكوت طبيب البلاط للإمبراطور الروماني المقدس فريدريك الثاني كتاب ابن سينا حول الحيوانات On Animals إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر
واستوعب نظرات الفيلسوف في إطار أعماله الطبية. وتبنى بحرية أفكار ابن سينا حول المَلَكات الحسية والتمييز بين الإدراك والحركة والفرق بين فهم الإنسان العملي والتأملي. وحافظ القانون في الطب على العديد من هذه الأفكار حية على مدى قرون في الجامعات الأوروبية.
لم يترك نهوض الطب الحيوي في الغرب سوى شذر قليلة من التقاليد الإسلامية. ولكنها لا تزال فنًّا حيًّا في الباكستان ومصر وغيرها من الدول المسلمة وفي الهند حيث يطلق على الممارسين له لقب الحكماء.
يحظى الطب الإسلامي التقليدي في الهند بدعم كبير من سلطات الصحة العامة كبديل للطب الحيوي الغربي الأكثر تكلفة. ولكن المنظور العام للطب الإسلامي الأعرض- ذلك المؤَسس وفق التقليد الفكري الإسلامي ونظريته المعرفية وممارسته العلمية- أصبح الآن شيئًا من الماضي ويُذكر بذات الطريقة التي يتحدث فيها المرء عن علم الفلك الهندوسي أو الرياضيات الصينية.
يجب على القراءة الخاطفة للإنجازات العلمية الإسلامية -ولنقل لاكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى قبل قرون من هارفي أو فهم ابن سينا الرائد للبصريات - أن تذكرنا بمديونية الغرب للعلم الإسلامي.
لقد اغتنت لغتنا التقنية الأعرض، من السمت إلى الذروة ومن الجبر إلى الصفر ونشر المواد الغذائية الشائعة من المشمش والأرضي شوكي والقمح القاسي ومصطلحاتنا البحرية التجارية من الرياح الموسمية وأمير البحر(الأميرال) والتعرفة، إلى حد كبير بفعل الثقافة العربية والإسلامية.
قدم الحكماء العرب، وبشكل أكثر أهمية من أي اكتشاف معين من التقليد الإسلامي، مساهمة أكثر أساسية ونتقبلها اليوم بشكل عفوي على أنها مساهمة غربية ووفروا المفهوم القائل أن العلم قد يمنح الإنسان قوة على الطبيعة دون التعدي على سلطة الإله وبدون ذلك لا يمكن التفكير بالحضارة الغربية.
يبدوا أن هذا الدَين قد حُكم عليه بالتجاهل وعدم الأداء على النحو الأمثل. ونفضل عوضًا عن ذلك واقتفاءً لخطى الإنسانيين في عصر النهضة الذين أخرجوا العرب من تاريخنا الفكري نسب جذورنا الثقافية لعصر كلاسيكي تقليدي مثالي في اليونان وروما.
تتوافق مثل تلك الاستراتيجية مع الحكمة الاعتيادية الراهنة القائلة بأننا محشورون في صراع محتوم بين الحضارات مع العالم الإسلامي الغريب والثابت.
تبدو مثل تلك النظرة مريحة في وقت الأزمات ولكنها لا تعرض سوى تاريخًا سيئًا وعلمًا مشينًا.
المؤلف: جوناثان ليونز. مؤلف كتاب: (بيت الحكمة: كيف قام العرب بتحويل الحضارة الغربية). وعمل لمدة تزيد عن 20 سنة مراسلاً أجنبيًا ومحررًا في وكالة أنباء رويترز وعاش في العالم الإسلامي بما في ذلك تركيا وإيران وإندونيسيا.
المصدر:
https://www.laphamsquarterly.org/medicine/early-islamic-medicine
تغريد
اكتب تعليقك