الوعـد الراديكالي للتاريخ البشريالباب: مقالات الكتاب
إبراهيم عبدالله العلو مترجم سوري مقيم بمدينة يوما – ولاية أريزونا - الولايات المتحدة الأمريكية |
تأليف: الدكتورة اميلي م كيرن. أستاذة تاريخ العلوم في جامعة
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
يسير التاريخ الاعتيادي للبشرية على الشكل الآتي. تطور الإنسان العاقل (Homo sapiens) للمرة الأولى قبل 300000 إلى 200000 سنة في مكان ما من القارة الأفريقية. وعلى مدار الـ 100000 إلى الـ 150000 سنة اللاحقة انتقلت هذه المجموعة القوية المتكيفة إلى مناطق جديدة أولاً ضمن قارتها الأم ومن ثم إلى أجزاء أخرى من الكوكب. قام أولئك البشر الأوائل بتشكيل صخر الصوان وغيرها من الأحجار على شكل شفرات قاطعة ذات تعقيد متزايد واستخدموا أدواتهم لصيد الحيوانات الكبرى من العصر الجليدي (البليستوسين) Pleistocene. وخلّدوا في بعض الأحيان، ذلك الصيد المنحوت على وجوه الصخور أو المرسوم في جداريات رائعة، على جدران وأسقف الكهوف في أماكن مثل سولاويسي وشوفيه ولاسكو.
ثم بدأ البشر قبل 10000 سنة بالزراعة واستبدال الجمع والصيد بالاستئناس والاستيطان المستديم. بدأت التجمعات البشرية تكبر وتزداد كثافة وتعقيدًا مما تطلب زعامة قوية لإدارة الموارد بشكل فعال وأنظمة الكتابة لمتابعة من ينتج وماذا ينتج. كانت تلك مقايضة سيئة للمزارعين الذين تعين عليهم العمل لساعات أطول في الحقول عما اعتادوه عندما كانوا صيادين وجامعي ثمار ولكنها انتجت فائضًا من الغذاء سمح لأفراد آخرين من المجموعة بالتخصص في أعمال جديدة مثل الحرفيين ورجال الدين والنساخ والمحاسبين.
وبالتالي ظهرت أولى الدول لتنسيق الترتيبات المجتمعية المعقدة التي تلت ذلك وللدفاع عن سكانها ضد المنافسين الآخرين.
وفي النهاية اندمجت تلك الدول ضمن الامبراطوريات المبكرة من العالم القديم ووضعت الجنس البشري على الطريق نحو يومنا هذا. حصلنا من الأنسنة على الزراعة ومن الزراعة على العلوم ومن العلوم حصلنا على العالم الحديث.
دعونا نسمي ذلك السرد الاعتيادي. وهي حكاية مألوفة للغاية تطلب تطويرها ردحًا طويلاً من الزمن. وربما صادفناها في العديد من الأماكن كمقرر التاريخ في المدرسة الثانوية أو مادة "الحضارة الغربية" في الجامعة أو أي من التواريخ الكبرى الشائعة عن النوع البشري التي كُتبت حتى الآن في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين. نجد في هذه المجموعة الأخيرة أعمالاً مثل وثائقي جاكوب برونويسكي "ارتقاء الإنسان" (The Ascent of Man) الذي بثته هيئة الإذاعة البريطانية في سبعينيات القرن المنصرم وكتاب الدكتور جاريد دياموند "بنادق وجراثيم وفولاذ" Guns, Germs, and Steel (عام 1997) والذي تحول إلى توثيق تلفزيوني على خدمة البث العام الأمريكية في بواكير 2000 وأخيرًا كتاب يوفال نوح هراري "العاقل" (Sapiens) (2014) الأكثر مبيعًا والذي تُرجم من النص الأصلي العبري إلى 60 لغة إضافة إلى الظهور كرواية تصويرية.
وتلك هي القصص التي يعتلي فيها السرد البشري سدة المسرح. ويجد القارئ الباحث عن لوحات تاريخية أكبر "قصة الأصل: تاريخ ضخم لكل شيء" (2018) (Origin Story: A Big History of Everything) لدافيد كريستيان و"مشروع التاريخ الكبير" الذي يقود الطلبة عبر 14 مليار عام من التاريخ منذ الانفجار الكبير إلى الحاضر-وهي عملية تستغرق وفق موقع مشروع التاريخ الكبير ست ساعات من الدراسة الذاتية التوجيه.
كانت ولا زالت تلك التواريخ شعبية ووفق مؤلف الموقع بيع من كتاب "العاقل" أكثر من 16 مليون نسخة في شتى أنحاء العالم.
أصبح الوصول إلى تلك السرديات لأصول نوعنا والتطور الاجتماعي والسياسي اللاحق أمرًا بالغ السهولة. إذ تحفل الأخبار بالاكتشافات الجديدة عن التاريخ البشري المبكر ومنتجات التقنيات الجديدة مثل فاحص الأرض أو محلل الحمض النووي القديم. كما تُتداول بعض أعظم إنجازات حضارات الهلال الخصيب في الثقافة الشعبية المعاصرة. وأصبح أيا- ناصر Ea-Nasir، التاجر السومري الذي أنقذ رُقم الشكاوى التي تلقاها بسبب توريداته من النحاس والتي كانت دون المستوى المطلوب، ميمة meme متكررة على الانترنت. ولكن من أين تنبع تلك المعالجات لحكاية البشر؟ وما هو تاريخها؟ وما الذي سيحدث إن كان كل هذا السرد التطوري الشعبي والآسر خاطئاً بالفعل؟
تلك هي المسَلمة الافتتاحية لكتاب "فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشرية"(The Dawn of Everything: A New History of Humanity,) للأنثروبولوجي الراحل دافيد جريبر وعالم الآثار دافيد وينجرو. نتج هذا الكتاب عن تعاون مثمر استمر لعقد من الزمن وكانت النية أن يكون الأول في سلسلة من أربعة كتب وتجميع عريض سعى لحوار واسع عن التاريخ البشري. استكملت مخطوطة الكتاب في شهر أغسطس من عام 2020 وقبل ثلاثة أسابيع من وفاة دافيد جريبر في سن التاسعة والخمسين. تهيمن هذه الحقيقة وسمعة جريبر العالمية كممارس لعلم الآثار والأنثروبولوجيا على أية محاولة لمراجعة ما أضحى كتابه الأخير. وكما يشير وينجرو في تقديمه الوقفي الرثائي "عاش وينجرو ملتزمًا بمبادئ العدالة الاجتماعية والتحرير ومنح الأمل للمضطهدين وألهم الآخرين للسير قدمًا" وتتخلل هذه الروح متن الكتاب وتسري عبر نقاشاته.
يعتبر "فجر كل شيء" مدخلاً مذهلاً وراديكاليًا ومداعبًا لنوع مستنفذ ومطروق والمتمثل بالتاريخ التطوري الكبير للبشرية. ويسعى لقلب المعايير التي أتكأ عليها السرد المعياري بشكل كامل.
وكما يذكر جريبر ووينجرو في المقدمة لم يعتزما في الأصل كتابة تاريخ كامل للبشرية. كان السؤال الأساسي الذي طرحاه للمرة الأولى في عام 2018 في مقال بمجلة يوروزين (Eurozine): "ما هي أصول التفاوت الاجتماعي؟" ومع ذلك سرعان ما اكتشفا أن هذا الإطار يحد من حقل البحث ويؤدي إلى تشوهات فكرية مثل محاولة حساب مكافئ جيني لقياس عدم المساواة للمستوطنات في العصر الحجري والسماح لجان جاك روسو بإملاء معايير الانخراط الفكري.
وانتهى الأمر بجريبر ووينجرو عوضًا عن ذلك إلى مشروعين مترابطين ولد عنهما هذا الكتاب. الأول أن السرد المعياري كان نتيجة لاستجابة محافظة لانتقاد أصلي للمجتمع الأوروبي وعدم المساواة السياسية في القرن الثامن عشر. والثاني الأخذ بعين الاعتبار دليل ما كان يفعله البشر من العصر الحجري وأسلافهم عبر آلاف السنين بغض النظر عن جودة أو ضعف توافق ذلك الدليل مع السرد المعياري وما دفعنا لتوقعه.
يعتبر السرد المعياري في الحقيقة أقدم بدرجة ملحوظة من معظم ما قد يتوقعه القراء في القرن الواحد والعشرين. وبالرغم من توسيعه عبر الأبحاث الآثارية وأبحاث علم أصول البشر في القرن العشرين يرجع الشكل الأصلي للسرد المعياري إلى القرن الثامن عشر. خلقت المواجهة الاستعمارية الأوروبية مع العالم الجديد-ليس في أمريكا الشمالية والجنوبية فحسب بل في استراليا والمحيط الهادي أيضًا-الظروف التي واجه فيها رجال الثقافة والسياسة الأوروبيين طرقًا مختلفة اختارها البشر لإدارة شؤونهم بشكل كامل. وواجهوا أراض زراعية غنية بشكل هائل وامكانية التجارة المربحة بالمعادن والتوابل وغيرها من المواد الأولية والمنظر الذي يلوح بالأفق بوصول القوة الأوروبية ذات العقلية التوسعية واقتناص الجائزة.
ربما دارت النقاشات الاستقرائية حول طبيعة الحقوق والمساواة والملكية في صالونات ومقاهي أدنبره وباريس ولكن تلك النقاشات بُنيت على أساس تم جمعه عبر البحار- وخلَف تطبيقه آثارًا مؤلمة تمثلت بالعنف ومصادرة الأراضي وغيرها من أشكال السلب للأشخاص الذين عاشوا مسبقًا في العديد من المجتمعات التي وجدت في العوالم حديثة العهد بالوجود الأوروبي. وبدأ من هذا المنظور ظهور أولى النقاشات حول التقدم التطوري للبشرية عبر سلسلة من المراحل العالمية من البقاء والتطور الاجتماعي - من الصيد والجمع إلى الرعي والزراعة والدولة الإدارية. يمكن مشاهدة تلك النقاشات المفصلية في أعمال شخصيات مثل روسو وتوماس مالتوس (الذي لم يتفق حول الكثير من الأشياء الأخرى) وأعمال اقتصاديين وفلاسفة ومؤرخين من أمثال آدم سميث وإيمانويل كانط وأرج تورجت.
لا تشكل تلك التدخلات التاريخية الجغرافية، والقائلة بأن السرد المعياري ما هو إلا إرث تنويري تحتاج دوافعه وأصوله لتفحص عن قرب، إلا جزء يسير من نقاش جريبر ووينجرو. ويناقشان أن خلق مثل تلك النظريات الستادية stadial كان استجابة مباشرة للتجربة الأوروبية لثقافات العالم الجديد وأيضًا للتجربة الأوروبية مع النقد الشديد الذي جاء من مفكري وساسة العالم الجديد، إما مباشرة أو نقلاً عبر وسيط المحاورين الأوروبيين، الذين نقلوا من فرنسا الجديدة الأفكار الأصلية والقوانين التي تحكم السخاء والغنى المادي والجريمة والعقاب والحرية والسلطة السياسة. يركز "فجر كل شيء" بشكل خاص على رجل الدولة من القرن السابع عشر الألمعي ويندا تهورون والمفكر كانديارونك وهو معارض ومجادل مرافق للحاكم الفرنسي لمونتريال حُفظت جدالته ووجهات نظره في سلسلة من الحوارات كتبها (وإن بشكل أقل نجاحًا) الجندي الفرنسي لويس أرماند دو لوم داكر والمعروف بشكل أفضل باسم لاهونتان.
يقوم جريبر ووينجرو من خلال ذلك بهجوم أمامي على عقود من الدراسة افترضت أن الشخصيات الأصلية التي تظهر في حوارات مثل لاهونتان كانت مصطنعة بشكل كامل إما بسبب الخطاب الكلاسيكي المزدهر وقتها والذي لا يبدو أنه ضم أي أسلاف من الجونكيان (Algonkian) أو الاروكواز (Iroquois) أو الويندات Wendat)) أو من افتراض لا تكافؤ بين ممثلي شعبين ونظامي حكم مختلفين للغاية. ولكن إذا تتبعنا جريبر ووينجرو في تتبع كانديارونك وتقبله في أوروبا بشكل جدي نرى كيفية ترجمة تحرر وطبيعة الحرية من مفكر أصلي محدد وإلصاقها بنقاشات أخرى في التنوير الأوروبي حيث انضموا إلى الأفكار التي تتبعت انتقال مماثل عبر الأطلسي. أشعل ذلك الانتقال ردة فعل متحفظة وناجحة للغاية بحيث أدت إلى نشوء نظرية مرتكزة على التطور عبر مجموعة مراحل من التطور الاجتماعي والسياسي لا تزال مستمرة لغاية اليوم.
يعتبر هذا الطريق التفاف طويل نحو العصر الحجري وخارج المجال الموضوعي الاعتيادي لمعظم فعال السرد المعياري. ولكن هذا النقاش نقاش مهم - بالنسبة لكل من جريبر ووينجرو وأيضًا لتفهم عملهما.
ويسمح لنا بالوصل بين النقاط بين انتقاد القرن الواحد والعشرين، على سبيل المثال التركيز المستمر على فكرة الثورة الزراعية باعتبارها بداية التطور البشري (لأنها فشلت في الأخذ بعين الاعتبار الأوجه العديدة لنشاطات جمع الغذاء لنسبة كبيرة من سكان العالم وقامت بفعل مفيد لتبرير الاحتلال الاستعماري)، والظروف الفعلية للتبادل الفكري والسياسي والصدام بين الأوربيين والأصليين في القرن الثامن عشر. يعتقد الكاتبان أن السرد المعياري للتطور البشري لم يكن موضوعيًا كما توقعنا ولذلك يستقل جريبر ووينجرو رحلة على امتداد 10000 سنة من التاريخ البشري ويستكشفان أدلة جديدة تقول إن سجل السلوك البشري والسياسي أكثر تنوعًا مما كنا نعتقد سابقًا.
يتتبع جريبر ووينجرو في تفحصهم "للاحتمالات المتقلبة للسياسة البشرية" القصة البشرية منذ نهاية العصر الجليدي إلى القرن الثامن عشر من أفريقيا وأراسيا إلى أوقيانوسيا والأمريكيتين. وهذه لوحة زمنية وجغرافية هائلة ويعترف المؤلفان بسرعة أن معظم ذلك التاريخ لا يزال مجهولاً. ومع ذلك وخلال فترة القرنين المنصرمين قام علماء الآثار والأنثروبولوجيا بتجميع الأدلة عن مجال مذهل من الممارسات البشرية السياسية والاجتماعية. ويدعي جريبر ووينجرو أن معظم تلك الأدلة تعارض الحكمة المتقبلة للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (أن هناك مجموعة المسار الغائي teleological من الصيد والجمع إلى الزراعة إلى "الحضارة" وأن تجاوزها كان تقدمًا تطوريًا إيجابيًا) وقالت نقاشات أحدث - مثل ما قدمه جيمس س سكوت-أن الزراعة كانت غالبًا غلطة ولكنها حجزت بداخلها الكثير من المجتمعات.
وما يظهره جريبر ووينجرو، استنادًا إلى بعض الدراسات الآثارية المؤخرة وغير المؤخرة، أن التاريخ البشري يحفل بأمثلة على التجارب البرية ذات الأشكال المختلفة من التنظيم الاجتماعي.
لم يكن هنالك قط مسارًا مفردًا أو إطارًا محددًا للتاريخ البشري المفترض- ولم يتواجد بنية اجتماعية إلا وولدت الرفض والامتعاض. (وإذا تمكن القارئ من استخلاص حقيقة أساسية عن البشرية من هذا الكتاب فهي أننا وفي جوهرنا نوع من البارتليب Bartlebys ويكرر مرة تلو أخرى "أفضل ألا أكون كذلك").
لعبت الطقوس والتجريب –أو كما يفضل المؤلفان تسميتها "لعب"- على الدوام دورًا مهولاً في الشؤون البشرية سواء كانت اختراع أنواع مختلفة من التنظيم السياسي وفي خلق أنظمة انتاج الغذاء أو استنباط الملكية الشخصية والمدنية والعامة.
تتساقط شعارات مقررات تدريس التاريخ في المدارس الثانوية يمينًا ويسارًا. يخبرنا جريبر ووينجرو قام البشر على مدار العشرة آلاف سنة الماضية بالصيد والجمع في البيئات الغنية بالموارد ومارسوا الزراعة العرضية في المناطق الرسوبية ودرسوا النباتات وبنوا الحدائق والبساتين على مستويات فردية وصغيرة أو بشكل عرضي في بعض الظروف المحددة وغير الاعتيادية وزرعوا الحبوب واستثمروا أنظمة الكتابة لتتبع ودفع الضرائب من خلالها. ويبدو أن العديد من التجمعات البشرية حاولت الزراعة لفترة ومن ثم انسحبت بدون تناسب واضح مع حجم مستوطناتها أو التوجه السلطوي أو المساواتي egalitarian لنظام حكمها. رتبت المجتمعات أنفسها ضمن العديد من التوافقيات المتنوعة استنادًا إلى مفاهيم الجوار أو القرابة أو المنزل أو العشائري- وهو ولاء اجتماعي أو طقوسي يقسم المجتمع الأكبر إلى مجموعتين أصغر- ووسع هذه العلاقات عبر مناطق صغيرة بحجم وادي مفرد أو كبيرة بحجم مساحة أرض قارة.
شمل تنظيم المجموعات الكبيرة من البشر حكم سلطوي من الأعلى للأسفل عبر الملوك أو الحكام المستبدين وربما لم تفعل ذلك دائمًا-يلوح هذا النموذج من الحكم كثيرًا في تواريخ الحضارات المدنية الكلاسيكية من الهلال الخصيب على سبيل المثال وربما تعلق أكثر بمنظور التوقعات السياسية لعلماء الآثار البريطانيين في القرن التاسع عشر أكثر من الانتشار الفعلي لهذه النماذج على مدار قوس طويل من تاريخ بلاد ما بين النهرين.
سيلاحظ القارئ الأريب بالطبع حجم التجافي الموجود في أخر مقطعين. وكما يلاحظ جريبر ووينجرو منذ البداية فإن معظم مسار التاريخ البشري هو بشكل رئيسي مجهول. وحتى في تلك الفترات التي تواجد فيها بعض المواد كان سجلنا الدلالي شحيحًا. تحفظ بعض الأماكن أكثر من غيرها- إذ يمتلك الموقع الآثاري في الصحراء أو على جزيرة متوسطية جافة أو حتى على حافة بحيرة متجلدة في الألب فرصة أفضل للحفظ (وبالتالي للدراسة المعمقة) من الغابة الاستوائية المغطاة أو المبني على أراض سبخة تتعرض بشكل اعتيادي للفيضان.
وبالنظر إلى هذا الالتباس المحيط بالماضي أي نتائج نستطيع استخلاصها؟ من ناحية يسأل جريبر ووينجرو لماذا نفترض أن بعض الأماكن نموذجية وقد تكون في الحقيقة حالات فردية غريبة؟ ولماذا يتعين علينا الاعتقاد أن النموذج الأساسي هو المجتمع الملكي أو الاستبدادي. ولماذا نفترض أن بعض المواقع والثقافات حاضنة للحداثة "وسابقة لعصرها" بينما نعتبر البعض الآخر نماذج شاذة غريبة يتعسر فهمها؟ ولماذا نفترض العثور على بعض المخلفات المادية علامة للنجاح الحضاري؟
ومن ناحية أخرى قد يحتج أحد منتقدي جريبر ووينجرو بالقول إذا كان جل الدليل المادي لمعظم التاريخ البشري مفقودًا فإن العوالم المتخيلة لمعظم التاريخ البشري هي أشد غموضًا.
لا تتحجر تلك الحالات الداخلية من اللعب والطقوس والمعنى. يعمل جريبر ووينجرو من فضاء التخمين ويجريان تجربتهم الخاصة في التخيل اللعوب. ومع ذلك يشدد الكتاب على أن تلك التجارب تسحق المحاولة نظرًا لسيطرة الكثير من التخمينات الأقل تخيلاً لفترة طويلة.
لا يبدي جريبر ووينجرو أي اهتمام بعرض سرد كبير بديل خاص بهما وربما يعود ذلك إلى خبرتهم بتفكيك ذلك السرد.
وبالرغم من انتقادهم للحالة البشرية المعاصرة (وفي عام 2020 أو 2021 من الذي لا ينتقد؟) لم يُكتب "فجر كل شيء" كقصة لنشوء البشرية وانحطاطها.
ويكتب جريبر ووينجرو في بداية ونهاية الكتاب "إذا كنا قد علقنا" فإن حافز السرد لهذا العمل سيقدم لنا مجالاً أرحب من الإمكانيات التخيلية ويذكر القراء بأن الترتيبات الاجتماعية والسياسية قابلة للرفض وإعادة التفعيل والتوجيه والتجديد.
كل ما يتعين عليه فعله هو الابتعاد او ابتداء تجريب الإمكانيات ونرى إلى أين ستأخذنا. وثبت أننا، كنوع، قمنا بفعل ذلك مرات كثيرة.
ويجب أن نعترف أن هذا الكتاب ليس كتابًا خفيفًا أو سهلاً. (وهو أطول من معظم الأعمال المشابهة. إذ لا يبلغ كتاب "العاقل" الذي يشبه قطعة طوب صغيرة في طبعته الشعبية إلا ثلثي حجمه).
فهو متعمق ومحفز وعام وقد يكون مضحكًا في بعض الأحيان، ولكن بالرغم من مقارنته بالأعمال الأخرى الشائعة للتاريخ البشري العريض، فهو يلعب الألعاب بنوع مختلف تمام الاختلاف.
دفعتني نقاشات جريبر ووينجرو إلى التفكير أكثر بالأعمال المؤخرة للخيال العلمي ولا يعود الأمر لوجود إشارات جلية لقصة أورسولا ك لوجوين "أولئك الذين مشوا بعيدًا عن اوميلاس". فمن ناحية لا يبدو ذلك مفاجئًا إذ كان الخيال العلمي على الدوام موطناً للتمارين التخيلية ضمن الترتيبات الاجتماعية والسياسية المختلفة. ومن ناحية أخرى من المثير للاكتئاب اكتشاف أن القصص الوحيدة الأخرى للترتيبات السياسية البديلة والتي تتبادر إلى الذهن تمثل أناس يعيشون في المركبات الفضائية في المستقبل البعيد.
يعتبر التخيل السياسي الضيق أحد الآثار الجانبية للسرد المعياري. وفي غمار السعي لشرح كيف نصل من هناك(الأنثروبولوجيون) إلى هنا (انتصار الإنسان على الطبيعة والانهيار الايكولوجي المستجد والانتصار المبهم لرأسمالية الليبرالية الجديدة وغيرها) يتم تشذيب طيف من الإمكانيات التاريخية مع مرور كل ألفية بحيث لا يتبقى من المستقبل الممكن سوى ما وصلنا إليه الآن.
ويعزى ذلك بشكل جزئي إلى تأثير المقياس: وإذا ارجعت نقطة البداية إلى الوراء إلى الانفجار الكبير (14 مليار سنة) يصعب الإبقاء على العديد من المستقبلات المحتملة. وحتى ضمن مقياس زمني أقصر يقدر بـ3.85 مليون عام (ظهور شبيه الانسان الأسترالي) (Australopithecus afarensis) أو 2 مليون عام (الإنسان المنتصب، الإنسان الماهر) (Homo erectus, Homo habilis) أو 300000 عام الإنسان العاقل (Homo sapiens) يمكن فهم نزعة تاريخ بشري جسيم نحو تجميع لبعض إنجازات النوع الكبرى.
ويشير جريبر ووينجرو إلى إن الخيارات التي نقوم بها، حول ما يمكن اعتباره نقاط التحول الرئيسية في التطور البشري، لم تصنع في فراغ. وأنها تميز بعض المفاهيم عن التاريخ ومن الذي يؤخذ فيها بعين الاعتبار. تنحو تلك السرديات، بسبب الثغرات في تكوينها، إلى تطبيع بدلاً من استغراب الحالة الراهنة للعالم. وبالمقارنة يرغب هذا الكتاب بترميم شعور الأرجحية -ولتوضيح غرابة تكوين الدولة العميق للعالم الراهن.
يعتبر هذا الكتاب متطرفًا على جبهة أخرى. لقد مضى وقت طويل منذ وقت اعتبارنا "لرجل العصر الحجري" كمصطلح حيادي عالميًا ولكن كما أشارت اليسون باشفورد في مقالة نشرت عام 2018. ولا يزال كثير من الكتاب الذين يكتبون عن التاريخ التطوري للنوع البشري يستمرون في إقصاء النساء. وبالمقارنة نجد أن التحليل الجندري gendered يسري طوال الكتاب. وكما يكتب جريبر ووينجرو "تقع المرأة وعملها واهتماماتها واختراعاتها في صلب هذا التفهم الأكثر دقة للحضارة."
قامت النساء بأولى محاولات استزراع للنباتات على الأغلب وربما استنبطت الرياضيات المعقدة، من النوع المسجل في الوثائق المسمارية أو شكل النموذج المادي في هندسة المعابد المعقدة، وتطورت من "الهندسة الصلبة والحساب التطبيقي للحياكة أو أعمال الزخرفة الخرزية. وربما كان جلّ ما نعرفه عن الحضارة لغاية اليوم في حقيقة الأمر استيلاء جندري - من قبل الرجال الذين خلدوا ادعاءاتهم بالصخر-على نظام معرفي مبكر تمحور حول المرأة".
شاركت المرأة في مجالس البلدات ومحافل المدن جنبًا إلى جنب مع الرجل في العصر ما قبل السلالي في بلاد ما بين النهرين ومجدت ذكرها في النقوش كحاكمة قوية ووسيطة روحية في القرون الأخيرة من فترة المايا الكلاسيكية وتولت أحيانًا سلطة دينية وسياسية واقتصادية هائلة، وفق تكليفها من قبل الإله، في المرحلة الثالثة الوسيطة والمتأخرة في مصر. وبالطبع لم تكن تلك النماذج عالمية بالتأكيد، وكما يلاحظ جريبر ووينجرو، لا يمكن انكار الظهور التاريخي للسلطة الأبوية وانحطاط سلطة المرأة في المجتمع ككل.
لماذا تراجعت سلطة المرأة؟
ذلك هو السؤال الذي يشجع جريبر ووينجرو القراء وبحاثة المستقبل على طرحه.
وبالنظر إلى الطبيعة الراديكالية للعديد من إدعاءات الكتاب يبدو من الملائم التساؤل: كيف يستقيم الدليل ويتماسك؟
انتقد مراجع آخر للكتاب بشدة تأكيدات الكتاب حول التجارب التفاضلية للمستوطن والسجناء الأصليين في القرن الثامن عشر بالرغم من وهن ذلك الادعاء. (ولدى تفحص ذلك المصدر نجد أن القضية تستند إلى خط غامض في الخلاصة والتي قرأت بشكل خاطئ. ويدعم الدليل المساق في النص نفسه، وهي أطروحة من عام 1977، نقاش جريبر ووينجرو وقد يتطلب ذلك قراءة الدليل المعاكس للنتائج التي توصل إليها كاتب الاطروحة نفسه).
لا يمكنني التأكيد، دون الاطلاع على كل مصدر ذكره الكتاب، أن المؤلفان قد بالغا في ادعاءاتهما ولكن ضمن المناطق التي لامست اهتماماتي العلمية تبقى المفاجئات متماسكة في ضوء التحري اللاحق.
يكتب جريبر ووينجرو في الخاتمة عن تفادي الكتابة بالوضعية الأكاديمية التقليدية حيث يسرد المؤلف كافة الأدلة المتوفرة وتأويلاتها ومن ثم يقوم بصياغة السبب الذي يدعو لتفضيل تأويل على آخر (أو لماذا فشلوا جميعًا في فهم القضية قبل عرض تحليل جديد).
ويكمن التحدي هنا جزئيًا بالمنظور: ونظرًا لجسامة المنطقة المفاهيمية والجغرافية والزمنية المغطاة سينتهي الأمر بالمؤلفين إلى كتاب أكبر يُشعر القراء "بانغماس المؤلفين بمعركة مستمرة مع غيلان لا يتجاوز طولها 2 بوصة".
اختار الكتاب عوضًا عن ذلك التركيب أولاً ومن ثم الانتقاد والإشارة عند الضرورة بشكل مباشر إلى السقطات الواردة في السرد المعياري.
يمكن تفهم هذا الاستخلاص ولكنه قد يكون أيضًا مصدرًا للاضطراب العرضي. وكم تمنيت لو عرض جريبر ووينجرو بعض الأسماء واخبارنا بالضبط من الذي استحدث تلك الشذرات من التفكير الحضاري والنظرية التطورية التي تغلغلت عبر الفكر المعاصر وجلبت لنا الكثير من الاستنتاجات المقيدة.
ومن المثير للاهتمام رؤية حالات أكثر يتساءل فيها محللين آخرين للقوس التاريخي للبشرية عن القصة السائدة واللحظات الأخرى التي يقع فيها السرد المعياري تحت التقييد.
بدأ الإطار الغائي لتطوير الأداة الحجرية، على سبيل المثال، بالتصدع في ثلاثينيات القرن الماضي تحت وطأة القوى المزدوجة للأنظمة البدائية لتقدير العمر الجيولوجي العابر للمناطق (والذي أسس التعاصرcontemporaneity ) والدليل على صنع معظم أنواع الأدوات الحجرية في أجزاء متعددة من العالم. قد يشرح ذلك بالطبع سبب تتهاوى حضارات الأدوات الحجرية ضمن فترة "آثارية" واسعة (كما يشرح جريبر ووينجرو في الفصل الثالث) وإشارة الاستعارات السائدة للتطور البشري الاجتماعي الثقافي إلى قردة البابون وغيرها من الرئيسات الاجتماعية وتحول العتبة التحويلية نحو الاستنبات الزراعي.
يتطلب القيام بالنقاشات التي قام بها جريبر ووينجرو القراءة بعكس الاتجاه الجغرافي التاريخي أو الاهتمام بشكل وثيق بأعمال الأفراد الذين عملوا خارج الإطار العام أو الذين تم استثنائهم من المجتمع الأكاديمي كليًا. (الإشارة إلى روسو في نقطة ما "موسيقي فرنسي فاشل في القرن الثامن عشر) كما أن المصادر التي تتم الإشارة إليها متنوعة وأقدم مما كان يتوقعها المرء - يحصل الانثروبولوجيون في بدايات القرن العشرين من مدرسة فرانز بواس على ظهور مفاجئ وجيد وغالبًا لأنهم قاموا بالضبط بإجراء نفس الدراسات الاثنوجرافية المفصلة للمجتمعات الأصلية ذات البنى الاجتماعية السياسية المتنوعة التي يهتم بها المؤلفان كثيرًا.
ولكن عندما تبدأ بالتفكير مثل جريبر ووينجرو يصعب عليك التوقف. عدت مؤخرًا إلى مجموعة أخرى من الكتابات الآثارية من أواسط القرن العشرين. ومن بين العناوين "مسارات نحو الحياة الحضرية: الاعتبارات الأركولوجية لبعض البدائل الثقافية" وهي ندوة عقدت في بورج وارتنستين في النمسا في يوليو عام 1960 وأسستها مؤسسة وينر جرين للبحث الانثروبولوجي ونظمها روبرت ج بريدوود من جامعة شيكاغو وجوردون ر ويلي من جامعة هارفرد. انغمس بريدوود وويلي فيما يمكن لجريبر ووينجرو أن يعرفاه بالتقاليد التطورية الاجتماعية التي وصلت إلى ذروتها الكمية في ندوة "الإنسان الصياد" التي عقدتها جامعة شيكاغو بعد عدة سنوات. اهتم بريدوود وويلي خلال تنظيم الندوة بتفهم ما الذي أوصل الناس إلى "عتبات الحضارة المدنية" كما عرفاها-"الدرجات المتنوعة من التكثيف" لإنتاج الغذاء والانتقال من جمع الغذاء إلى انتاجه "والظهور اللاحق لحياة المدينة والحضارة". يعكس تأطيرهم للندوة ميولهم التطورية الاجتماعية كما فعلت الخلاصات التأويلية التي توصلوا إليها في نهاية الاجتماع الذي دام لمدة أسبوع.
عندما تقرأ نقاشات الندوة المضادة للاتجاه العام تظهر الغرائب - حالات "الوصول إلى عتبة الاستزراع" ومن ثم ابتعاد المجتمع عنها أو لدى ظهور أنماط التطور في أماكن غير متوقعة لا تسير وفق أي قاعدة ايكولوجية أو تطورية مقنعة. تركزت بعض ظروف العمل مثل العتبة المؤسسة للزراعة في أمريكا الوسطى على مزايا قد تظهر بشكل متكرر أو ظهرت بشكل مستقل عن الظواهر الاجتماعية التي توقعا أن تشير إليها.
وفي نقاط أخرى اعترف بريدوود وويلي بالحاجة إلى ملئ الفجوات الدلالية الكبيرة بأحكام لاحقة للحقائق وتخميناتهم الاستنباطية المفضلة.
ومرة تلو أخرى يبدو ظهور عادات التفكير التي فضلت بعض الترتيبات للدول والقوى الأولية واستثنت أخرى واعتبرتها شاذة أو فاشلة بغض النظر عن البيانات لبناء نظرية كبرى للتطور البشري. رجحت كفة الميزان لصالح الثقل المتراكم للاستعارات السياسية والاستدلالات الموروثة من التنوير وتم اصطفائها في العقود الامبريالية للقرن التاسع عشر وتعززيها وتجدديها من خلال العلوم الاجتماعية في منتصف القرن.
توصل بريدوود وويلي وغيرهم من المشاركين في الندوة إلى نتائج مدعومة ببياناتهم ومتوافقة مع الدفق النظري السائد في تلك اللحظة. ومع ذلك يجب أن تتساءل عن النتائج التي ربما توصلوا إليها لو حاولوا استدلالاً بديلاً.
لا يُعتقد أن السرد المعياري سيغيب قريبًا. إذ يتمتع بالديمومة والتاريخ القصصي الفكري ناهيك عن الجاذبية الشعبية المستمرة التي يشهد لها مبيع 16 مليون نسخة من "العاقل" في العقد الأخير.
لا يحاول جريبر ووينجرو منافسة أو هزيمة السرد المعياري-ويقومان بالتجريب واللعب حول طرق مختلفة للنظر إلى الأدلة وتاريخ البشر ورؤية ما قد تتمخض عنه من أشكال جديدة للقوة الاجتماعية والمثل السياسية.
لا نجد في سردهم مركز أو سهمًا للتاريخ. هناك فقط البشرية الخلاقة واللعوبة والعنيفة والراعية وتخيل العوالم الاجتماعية الجديدة ومن ثم تجربتها.
المصدر:
https://bostonreview.net/science-nature/emily-m-kern-radical-promise-human-history
تغريد
اكتب تعليقك