العلاج بالتبريدالباب: مقالات الكتاب
إبراهيم عبدالله العلو مترجم سوري مقيم بمدينة يوما – ولاية أريزونا - الولايات المتحدة الأمريكية |
تأليف الدكتور: فيليب جايكل*
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
قد يسهم العلاج بتخفيض درجة الحرارة بإنقاذ حياة الأفراد وتمكين السفر بين الكواكب وزيادة الوعي."
عانى بعضهم من الاكتئاب والشحوب وقد هدهم التعب ثم الإغماء فالموت. تمددوا على الثلج ...شوهد بعضهم يمشي بلا وعي وقد جهلوا مكانهم ووجهتهم ...وبمعنى آخر عجزوا أخيرًا عن المشي وقد فقدوا كل رغبة وقوة. سقطوا على الركب .... كان نبضهم منخفضًا لا يكاد يقاس وكذلك تنفسهم غير المتواتر وشبه النادر المصحوب بالشكاية والآهات. كانت العين في بعض الأحيان مفتوحة مثبتة باهتة متسعة وقد استحوذ على الدماغ الهذيان".
قدم الدكتور الفرنسي بيير جين موريشو بوبري هذا الوصف في مقالة عن آثار وخواص البرد في عام 1826 والذي يعتبر أكمل وأفضل وصف لنقص حرارة الجسم وهي الحالة التي تهبط بها درجة حرارة الجسد بشكل خطير عن 35 درجة مئوية. كان يكتب حينها عن تجربته إبان انسحاب نابليون من موسكو في عام 1812وقبل 80 عامًا من استنباط ذلك المصطلح الطبي.
ولهذا التعبير"هيبوثيرميا" Hypothermia أصول اغريقية حيث تعني هيبو hypo "تحت" وثيرمي therme" حرارة تعتمد أعراضها على مدى انخفاض درجة الحرارة وتشمل في البداية الارتجاف والحركة المتثاقلة غير المتزنة والتوهان. وفي الحالات الشديدة ينخفض معدل دقات القلب إلى حد كبير ويبدأ الارتباك وفقدان الذاكرة الارتجاعي.
وبعد الانخفاض التالي يبدأ المرضى باتخاذ قرارات لا عقلانية والتحدث بشكل غير مترابط.
ولأسباب لا تزال مبهمة يبدأ المرضى بخلع ملابسهم والبحث عن الأماكن المحصورة قبل أن يسيطر الموت.
يقوم الأطباء اليوم باستحداث هذه الحالة التي لا تطاق من أجل إبطاء الاستقلاب (الأيض) بحيث يتمكن المريض من النجاة. وبعد عقود من النزاع العلمي بدأ تخفيض حرارة الجسم بتوفير العون لإيقاف التأثيرات المؤذية التي تسبب الموت. وتكمن قيمته العلاجية في المقدرة على توقيف الاحتياجات الفيزيولوجية للخلايا ومن المعروف أن الخلايا الباردة في مرحلة السبات لا تتطلب الكثير من الأوكسجين والمواد المغذية الأخرى خلال أو بعد توقف القلب أو الصدمة عندما يتوقف تدفق الدم ولذلك تستغرق تلك الخلايا-وبالتالي المريض-وقتًا أطول بكثير للتحلل والموت. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة وجود تلك الرابطة بين تخفيض درجة الحرارة و"الإراحة المتوقفة" ‘suspended animationوهي الحالة المتجمدة التي يأمل الكثير ان تحفظنا خلال سنوات السفر الفضائي في طريقنا إلى المريخ والأرض الثانية.
وبالرغم من تعقيد الآلية المحددة يقوم تخفيض درجة الحرارة بإبطاء الاستقلاب وتأخير التأثيرات المدمرة لفقدان الأوكسجين لحين عودة دوران الدم الطبيعي إلى سابق عهده.
بدأ الحقل الجديد للعلاج بتخفيض درجة الحرارة بإعادة تأطير حدود الحياة. ففي الماضي ساد الاعتقاد بإن الحد الفاصل بين الموت والحياة هو غياب دقات القلب. وتعلمنا فيما بعد أن الدماغ يتمكن من النجاة رغم فقدان النبض لمدة وجيزة وقد أمكن إعادة الأفراد الذين عانوا من موت القلب من حافة الموت طالما بقيت أدمغتهم سليمة. ولكن الدماغ لا يتمكن من البقاء طويلاً بدون دوران الدم.
أظهرت الطرق الحديثة أن التبريد العلاجي خلال السنوات الأخيرة قد أسهم بإبطاء نشاط الدماغ إلى حد كبير مما دفع بحدود الموت أبعد من لحظة توقف القلب عن الخفقان. سمحت هذه التطورات، من بين منافع أخرى، للبحاثة بتوسيع دراساتهم لتجربة الموت الوشيك مع ورود تقارير عن أشخاص توقف القلب لديهم لفترات طويلة ثم عادوا إلى الحياة. كما إنها قدحت دراسات في السبات البشري بهدف استخدام التبريد بتخفيض درجة الحرارة لرواد الفضاء السابحين في الفضاء ما بين الكواكب والنجوم.
استخدم العلاج بالتبريد للمرة الأولى كعلاج موضعي. تشمل أولى التطبيقات الموثقة تلك الموجودة في أوراق البردي المنسوبة لادوين سميث-والتي تعتبر أقدم نص طبي موجود لغاية الآن والذي يعود تاريخه لعام 3500 قبل الميلاد- والتي سميت كذلك نسبة لمالكها الذي قام بشرائها من تاجر في الأقصر في عام 1862. تصف هذه الأوراق الاستخدام المصري للبرد لعلاج الدمامل. اقترحت المدرسة الابوقراطية للطب في اليونان ما بين القرن الرابع والخامس قبل الميلاد تضميد المرضى بالثلج لمعالجة النزف عبر تقليص الأوعية الدموية. وفي أواخر القرن الثامن عشر قام جيمس كوري وهو طبيب في ليفربول بإجراء أولى المعالجات بالتبريد للجسم بأكمله. حيث قام بغمر المتطوعين الأصحاء المخلصين على الأغلب في مياه باردة وصلت درجة حرارتها إلى 6.5 درجة مئوية لمدة تصل إلى 45 دقيقة في محاولة لإيجاد طريقة لعلاج البحارة الذين يعانون من صدمة المياه الباردة بعد تحطم السفن. وقد تيسرت مساعيه بتوفر تحسينات مهمة في دقة موازين الحرارة.
بدأت الأمور بالتغير بعد فجر الطب الحديث عندما أصبح المعيار للأطباء المدربين تشخيص وعلاج الأمراض بالوسائل العلمية المكتشفة. قدمت الأبحاث الرائدة والمثيرة للجدل لجراح الأعصاب الأمريكي تيمبل فاي الوقود لذلك المسعى. تقول الحكاية أن فاي وقتها كان لا يزال طالبًا في كلية الطب في أواخر العشرينيات من القرن المنصرم وقد سئل عن ندرة حدوث السرطان النقيلي metastatic في الأطراف. لم يمتلك وقتها إجابة على هذا السؤال ولكنه لاحظ لاحقًا أن أطراف المرء تكون عادة ذات حرارة أخفض. وقام بذكاء بالغ بالربط بين هذه الحقيقة واكتشاف قام به في مزرعته في ماريلاند- بأن تخفيض درجة الحرارة قد ثبط النمو في أجنة الدواجن. وافترض من هناك إمكانية استخدام البرد لعلاج ومنع النمو السرطاني. وكانت لحظة "يوريكا" وجدتها بالنسبة له. ووصل في عام 1929 إلى مرتبة الاستاذية في الجراحة العصبية بجامعة تيمبل في فيلادلفيا. ثم بدأ مباشرة باستخدام الطرائق الأساسية لتبريد الجسم الكامل وتضميد المرضى بالجليد مثلاً واستنباط أدوات متنوعة للتبريد الموضعي-وشمل ذلك أدوات ذات حجم لا بأس به، وربما تبدو فجة بمعايير اليوم لإدخالها ضمن الجمجمة.
ولكن طرائقه البدائية أثارت الانتقاد والفوضى في جناح المشفى. استخدم ألواحاً ضخمة من الجليد – يزن بعضها 150 رطلاً-في غرفة العمليات لفترات تدوم لغاية 48 ساعة. تسبب ذوبان الجليد بتبلل الغرفة مما استلزم تنشيفها باستمرار. وتمت المحافظة على برودة الغرف عبر الإبقاء على النوافذ مشرعة مما تسبب بتعريض المرضى والطاقم الطبي بأكمله للشتاءات المحلية القاسية. وعلاوة على ذلك لم يكن وقتها من الممكن قياس درجة حرارة المريض بدقة بدون موازين الحرارة الملائمة (والشرجية غالبًا) المصممة لتلك الغاية. (لم تدرج موازين الحرارة وقتها لقراءة درجات الحرارة التي تقل عن 34 درجة مئوية). مما جعل فاي منبوذًا بين أفراد طاقم التمريض الذين أعلنوا وفق أحد التقارير عن التمرد ضد "خدمات التبريد" البشري التي قدمها.
ولكن فاي كان ألمعيًا ذكيًا. وذكر في بواكير تقاريره معدل وفيات %11.2 ونسبة 95.7 % من النجاح في تخفيف الألم نتيجة طريقته في العلاج بالتبريد. كشفت هذه التجارب بشكل حاسم عن إمكانية تحمل البشر لحالة انخفاض درجة الحرارة لمدة أيام والهبوط لغاية 32 درجة مئوية ومن ثم الإنعاش مع تحسن ملحوظ في حالتهم.
وبشكل تراجيدي وفي تحول مفاجئ وإجرامي للأحداث وقعت هذه التقارير بيد النازيين واستخدمت في مئات من التجارب الوحشية خلال الحرب العالمية الثانية. حيث أجبر السجناء على الدخول في أحواض من المياه المتجمدة في منهج تجريبي "للانتظار ونرى ما الذي سيحصل". اعتبرت البيانات منذ ذلك الحين غير علمية. كما أن ارتباطها بالتعذيب أبعد إجراء المزيد من الأبحاث لمدة عقود. وعلاوة على ذلك كان ذلك الوقت زمن يعني فيه "الحاجز الحراري" وجوب استثناء انخفاض درجة حرارة الجسم عن المعتاد مهما كلف الأمر.
لم يحدث جديد يذكر حتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي عندما قام طبيب التخدير الرائد بيتر سافار المولود في فيينا عام 1924 بإجراء بعض الأبحاث للعلاج بتخفيض درجة حرارة الجسم بالرغم من الوصمة السيئة التي اتسمت بها. عمل في جامعة بتسبرغ باستخدام الكلاب نموذجًا طبيًا وأثبت بعد توقف القلب اسهام درجة حرارة الدماغ المخفضة قليلاً ما بين 33 و36 درجة مئوية بتحسين الناتج العصبي والحيلولة دون تضرر الدماغ. قام سافار بنجاح بإعادة الحيوية لأبحاث تخفيض الحرارة مع هذه الاكتشافات. أطلق على المعالجة التي قام بابتكارها مسمى "الإراحة المتوقفة للإنعاش المؤجل".
تحفز علم تخفيض الحرارة العلاجي بشكل أكبر عبر الحالات المتطرفة للمرضى الناجين من الغرق في المياه الباردة – خذ على سبيل المثال الطبيبة النرويجية المتدربة آنا باجنيهولم التي عانت من توقف القلب بعد حادثة تزلج على الجليد في شمال النرويج في عام 1999.
نجت من البقاء في المياه المتجمدة تحت طبقة من الجليد لمدة 80 دقيقة وبقيت لساعات بدون نبض قبل استعادة دقات القلب.
دفع الدكتور جوزيف فارون الذي يشغل اليوم رئاسة العناية الحرجة في منظومة المشفى العام بجامعة هيوستن مع بداية الألفية ذلك العلاج إلى ذرى جديدة. حدث ذلك في عام 2005 عندما أحضر أحد السواح من المكسيك إلى هيوستن بعد حادثة غرق. أخبرني فارون أنه طلب نقل المريض بالطائرة إلى هيوستن. كان الشاب متوفي لمدة ساعتين وقاموا باسترجاع دقات قلبه وبالتالي تمكنوا من تبريده ومن ثم استعادة عمل الدماغ وشفي المريض تمامًا.
ذُكرت الحالة لاحقًا في مجلة "الإنعاش". ويضيف فارون "عندما عانى البابا جون بول الثاني من توقف قلبي طُلب مني الذهاب إلى الفاتيكان لتبريده."
عرف الدكتور فارون في الدوائر الداخلية "بدكتور التجميد" ونُظر إليه مثل الدكتور فاي بشك وارتياب من قبل طاقم المشفى. ويقول: "عندما بدأت بإجراء ذلك في هيوستن استخدمت الكثير من الجليد. وقمت بتخفيض درجة حرارة الغرفة بنسبة كبيرة: وبعد فترة وجيزة قام باستخدام تخفيض درجة الحرارة لحماية لمرضى من الأذية العصبية بعد العديد من الصدمات بما في ذلك توقف القلب والجلطة وفشل الكبد. يتم تبريد مرضاه بشكل روتيني إلى درجات حرارة تصل إلى 32 درجة مئوية لمدة قد تصل إلى 11 يوم. استخدم في عام 2014 تلك المعالجة لإنقاذ حياة زوجته بعد تعرضها لجلطة. وأخبرني "كان أول ما تبادر لذهني مقولة "بردوني".
تحسنت تقنياته بشكل كبير فيما بعد. يستخدم فارون اليوم العديد من الأجهزة المتطورة لاستحداث التبريد الموضعي وللجسم بأكمله لتبريد المرضى عادة إلى 32 درجة مئوية خلال فترة الإنعاش من توقف القلب وبعد أن يعود القلب إلى النشاط. تشمل التقنية آلات ذات كمادات من الجل المائي التي تقوم بتدوير الماء البارد لتبريد المرضى وآلية ارتجاع حيوي لضبط درجة الحرارة ومجسات حاسوبية تدخل ضمن الساق مما يسمح للمريض بالبقاء مبردًا ويقظًا في ذات الوقت وهو المفتاح الأساس للتقييم العصبي الملائم.
علاوة على ذلك وفي بعض حالات الصدمة الشديدة مثل الإصابة بطلق ناري أو بطعنة سكين تجري تجربة سريرة غريبة الأطوار. حيث يمر المرضى بتخفيض كبير في حرارة الجسم ويتم تبريدهم إلى 10 درجة مئوية وغالبًا لدى انعدام النبض أو التنفس. نعم يشمل ذلك تبريد "الموتى" ولكنه قد ينقذ حياتهم.
قد يسهم التبريد بتطويل نافذة زمنية قصيرة عادة والتي يجرى فيها لمرضى الصدمة العمليات الجراحية الضرورية خاصة تلك اللازمة للحيلولة دون فقد الدم. تجري محاولة جديرة بالاهتمام وتسمى الإنعاش والمحافظة الطارئة Emergency Preservation and Resuscitation (EPR) في بيتسبرغ وبلتيمور في تجمعات تعاني من أعلى معدلات الصدمات بسب الطلق الناري أو الطعن بالسكاكين. وتستخدم عادة كحل أخير عند فشل محاولات الإنعاش الأخرى مما يترك المريض بفرصة نجاة لا تزيد عن 5%. تشمل العملية استبدال دم المريض بمحلول ملحي دوار مبرد يمنع أذية الخلية والنسج بسبب نقص الأوكسجين. وعند استخدام تلك الطريقة يتمكن المريض من استعادة خفقان القلب بعيد البقاء بدون نبض لمدة ساعة. والهدف هو مقارنة 10 مرضى تلقوا هذا العلاج مع 10آخرين لم يتلقوه وملاحظة أي تحسن في الناتج وفي هذه الحالة الحياة عوضًا عن الموت. ولا تزال النتائج لغاية اليوم محظورة من النشر ولا تتوفر للعموم بعد.
ولكن سامويل تيشرمان الذي يقود التجربة متفائل للغاية.
عمل تيشرمان مع سافار في موضوع الإراحة المتوقفة خلال الثمانينيات عندما كان لا يزال طالبًا في كلية الطب. والآن يتم تبريد أفراد تجربته بشكل روتيني من درجة الحرارة الاعتيادية البالغة 37 درجة مئوية إلى درجة منخفضة للغاية تبلغ 10 درجة مئوية على مدار 20 دقيقة. ويشرح تيشرمان بالقول: "نحتاج للقيام بذلك بسرعة لأن المريض يعاني مسبقًا من انخفاض النبض والفكرة برمتها تتمحور حول تخفيض حاجة الجسم للأوكسجين" خاصة عندما نحتاج لتبريد القلب والدماغ لأنها الأعضاء الأكثر تأثرًا بنقص الأوكسجين. وعندما يتم التبريد ينقل المريض المفتقر للنبض أو أي ضغط للدم إلى غرفة العمليات. وأخيرًا وفي ظل تلك الظروف المتطرفة للغاية يحاول جراح الصدمة إصلاح مصدر فقدان الدم ورتق الجراح الأخرى. ولدى انجاز ذلك يقوم بتدفئة المريض ببطء. ويضيف تيشرمان "على أمل أن يبدأ القلب بالخفقان ثانية متى سار الدفء في أعطافه.".
وعندما سئل عن التطور الحالي في التجربة بعد مواجهة هذه القضايا توقف تيشرمان قليلاً ثم أجاب بضحكة رقيقة" نحن نقوم بها وذلك تقدم بحد ذاته. ويجب أن ننتظر النتائج الرسمية ويبدو أننا على حافة معلم مهم."
يمكن استخدام تخفيض درجة الحرارة خارج إطار التطبيقات الطبية للمرضى الذين أوشكوا على الموت في كثير من الأمور التي عرفها معظمنا عبر الخيال العلمي كنوع من الإراحة المتوقفة وبتعبير آخر البيات البشري. حصلت الفكرة على بعض الدفع خلال الستينيات إذ بان سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وتم إحياءها مجددًا عبر ما نسميه اليوم السبات.
يقدم السبات جملة من المنافع للسفر الفضائي الطويل. ويمكن أن يمنع المضاعفات الطبية بما في ذلك الضمور العضلي وفقدان كثافة العظام والذي ينجم عن قضاء فترات طويلة في بيئة انعدام الجاذبية. وخارج إطار تلك الأهداف الوقائية قد تنجز بعض المنافع السيكولوجية. يحول فقدان الإدراك دون الشعور بالضغط الحاد والملل الشديد الذي قد يحدث مع قضاء أشهر من السفر الفضائي في مكان ضيق ناهيك عن الخلافات الشخصية التي قد تنشأ على الأغلب بين أعضاء الطاقم الصغير على مدى فترة طويلة كتلك.
تلقت مشاريع مثل سبيس ووركس المتمركزة في أتلانتا تمويلاً متجددًا من وكالات مثل برنامج مفاهيم الابتكار المتطورة التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية الناسا لأبحاث السبات البشري. يؤكد منهج سبيس ووركس المبتكر على توفير هائل بالغذاء والتخلص من الفضلات والتخزين ومتطلبات المساحة التي قد تساهم بشكل مهم في وزن المركبة وبالتالي تكلفة البعثة.
يقول دوجلاس توك مدير قسم الأجهزة الجراحية في المحطة البحرية الجوية في ليمور بكاليفورنيا "قدمنا لهم فكرة واقعية وشرحنا لهم المنفعة المالية المترتبة على ذلك وطريقة حسابها" وأخبرني "أنا طبيب ومهووس خيال علمي كبير وهذا هو المزج الأمثل لكلا العالمين."
تشمل خطة سبيس ووركس الحالية شكلاً قصير الأجل من السبات الذي يمر به المسافرين الفضائيين ومن ثم يخرجون من الحالة المتوقفة مرة كل أسبوعين وتخفيض الاستقلاب بنسبة 7% لكل درجة مئوية. ويقول توك: "نعلم بوجود العديد من الثدييات التي تقوم بالسبات لذلك لا يكون السؤال: هل تستطيع الثدييات السبات؟ بل كيف نحدثه في البشر وإمكانية تحقيق ذلك؟" نعلم إننا نستطيع القيام به لمدة أسبوعين وهو يشير إلى حالة في الصين عام 2008 حيث تم تبريد امرأة في غيبوبة إثر حالة أنورسماaneurysm (أم الدم) لمدة 14 يوم لمنع المزيد من الأذية الدماغية وتسهيل الاستشفاء. ومن المذهل أنها شفيت تماماً.
وثمة مسلك مفاهيمي يسري من معرفتنا الراهنة بالركود الحراري المنخفض (الهيبوثيرمي) إلى مهمة تسعى للوصول إلى المريخ. تحدث توك عن رحلة تبدأ من محطة على القمر. حيث يكتسب رواد الفضاء بعض الخبرة بالسبات لمعرفة ما الذي قد يواجههم من حيث الدخول به والخروج منه. تخطط سبيس ووركس للحفاظ على رواد الفضاء عبر خط تغذية وريدي مزروع جراحيًا يدعى mediport ويشبه الأنبوب المستخدم الآن لمرضى السرطان الخاضعين للعلاج الكيماوي. وسيملك المسافرون الفضائيون أنبوبًا يمر عبر المري إلى المعدة للتغذية. "يوجد لتلك الوسائل معدلات اختلاطات متدنية للغاية. وعندما ينتهي الطاقم من كافة الاختبارات يتوجه إلى حجرة السبات ويستلقون على الأسرة ويوصلون أجهزة المراقبة والتغذية. ومن ثم نقوم بتخفيض درجة حرارة الوسط المحيط. سنبتدأ السبات بطريقة تختلف عن الطريقة المستخدمة في المشافي التي تستخدم جرعات كبيرة من المواد المهدئة. سنستخدم وسائط دوائية تقوم بتخفيض درجة حرارة الجوف إلى 32 درجة مئوية وتخفض المعدل الاستقلابي".
يعكف توك وزملائه على استنباط مثل تلك الوسائط ويعتبرها هدفه الأساسي. وقد قاموا بإحراز بعض النجاح مع الخنازير وهذا انجاز مهم" لأنها المرة الأولى التي يتم فيها استحداث السبات بشكل دوائي في حيوان ثديي لا يقوم عادة بالبيات الشتوي."
سيتمكن الطاقم بعد بعض التدريبات على سطح القمر بالبيات المتناوب بحيث يبقى دائمًا أحد أفراد الطاقم متيقظًا لمراقبة سلامة السابتين الآخرين.
قد يفضي تحوير طبيعة النوم عبر الزمان والمكان إلى تغيير في الطبيعة البشرية. وسيعني السبات عند الطلب أننا قد تخطينا روابطنا الفطرية اليوماوية circadianإلى عناصر كونية مثل الليل والنهار. يحتم أساسنا الوراثي بيولوجيا متواترة مع إيقاع دوران الأرض. ومثل ذلك التوليف ضروري لتنظيم أنماط النوم وأوقات الطعام وتحرير الهرمونات وضغط الدم ودرجة حرارة الجسم. وهذه الإيقاعات هي جزء أساسي من بشريتنا. إذا قامت حالة السبات المحدث بتخفيض درجة الحرارة بإبطاء العمليات الاستقلابية إلى حد كبير وأوقفت احتياجاتنا البيولوجية الايقاعية هل تستطيع على سبيل المثال إبطاء تأثيرات الشيخوخة؟ أو إذا أبعدنا التفكير في المستقبل البعيد هل يعود المستكشفين ما بين النجوم إلى الأرض بعد قرون أو حتى آلاف السنين من وقت مغادرتهم لها؟
لم يكن توك على يقين من أن السبات البشري سيقلب الإيقاعات اليومية ولكنه قال بإمكانية العثور على قادح أساسي للسبات في البشر له أساس وراثي. ويضيف: "تقترح الأبحاث الحديثة وجود مادة تدعى قادح محفز السبات وهي مادة كيماوية تهيئ الجسم وتقدح السبات والمقدرة على تحمله. واعتقد أنه في مكان ما من حمضنا النووي توجد المقدرة على قدح السبات بنفس الطريقة وأننا أضعنا تلك المقدرة خلال تطورنا."
وثمة تحدي آخر لإحساسنا بالمقدرة الذاتية يتأتى من توسيع حدود الموت. وقمنا فيما مضى بتعريف الموت بأنه "موت القلب"- عندما يتوقف القلب نفنى. ومن ثم قمنا بتوسيعه ليعني "موت الدماغ" ويعني انعدام موجات الدماغ أنك لن تستطيع العودة قط. والآن تم استعادة مرضى انخفاض درجة الحرارة الذين أبدوا أعراضاً لموت القلب والدماغ عبر التبريد مما يدفع بحدود الحياة نحو آفاق جديدة مرة أخرى.
دعنا ننظر للمشفى في النرويج حيث عولجت باجنيهولم بعد حادثة التزلج عام 1999. وقبيل دخولها توفي كافة مرضى انخفاض درجة الحرارة المفتقدين للنبض وكان معدل النجاة صفر. ولكن عندما أدركت المشفى أن المرضى قد يظهرون نشاطًا دماغيًا لعدة ساعات وربما حتى بعد أيام من توقف القلب لديهم قامت باستخدام محاولات أكثر حدة للإنعاش وزيادة معدل النجاة إلى ما لا يقل عن 38%.
لقد حورت الحالات المتطرفة للمرضى الذين حضروا متجمدين نهجنا تجاه الموت. أدخل في عام 2011 رجل يعاني من توقف القلب إلى المشفى في ايموري بمدينة اتلانتا ووضع في حالة تخفيض الحرارة لحماية الأعصاب. وبعد الفحص العصبي أعلن الأطباء أنه ميت دماغيًا ووصل بعد 24 ساعة إلى غرفة العمليات لتوفير الأعضاء. ووفق تقرير تال في مجلة طب العناية المشددة لاحظ الأطباء منعكسات السعال والقرنية لديه وتنفسه اللاحق. بالرغم من انعدام الأمل بإنعاشه (ولم تقطف أعضاءه وهو على قيد الحياة.) تلقي مثل تلك الحالات بالشك على الاختبارات العصبية المعتمدة لوقت طويل لتحديد وقت الوفاة.
يحضر مفهوم أكثر غرابة من المرضى الذين يتم انقاذهم من الموت باستخدام التقنيات الجديدة. يقوم الدكتور سام بارينا مدير أبحاث الإنعاش والعناية الحرجة في كلية الطب بجامعة نيويورك بمدينة نيويورك بأبحاث ملفتة. بحث بارينا عن الإنعاش عبر تخفيض درجة الحرارة من أجل انقاذ مرضاه وطرح أسئلة جوهرية: متى يكون الموت نهائياً وغير قابل للعكس؟
ما الذي ندركه من الجانب الآخر من الموت؟ ومتى يتوقف الإدراك فعلياً؟
تقترح أبحاثه الأخيرة أن الإدراك يستمر لعدة دقائق بعد توقف القلب-وقد يتم توسيعه أكثر عبر تبريد الدماغ وإبطاء موت الخلية ويمنح الأطباء فرصة لعكس العملية واستعادة المريض إلى الحياة. أظهرت دراسات بارينا والتي تعزز الكثير منها استخدام تخفيض درجة الحرارة أن الدماغ المحتضر يكون "هادئًا وفي سلام" بما يتوافق مع العديد من التقارير عن حالات الموت الوشيك المجمعة على مدار سنوات عديدة ووصف المرضى في دراسته "الترحيب بنور مشرق".
لا تزال التطورات في أبحاث التبريد غير مستقرة ولهذا كانت موضع تنافس. وبعض تلك المقاومة براجماتية: حيث يأتي مع التبريد العلاجي خطر الانخفاض الحاد في تجلط الدم المترافق بتضرر النسج بسبب نقص الأوكسجين وساهمت بشيء في العديد من ضحايا هبوط درجة الحرارة العرضي-الموت. وبالفعل من المعلوم أن هذه الأعراض تشكل "مثلث الموت". وبالتالي توافر اتفاق محدود على كيفية تسليك الابرة كما يشير فارون. ويضيف "سيستمر زمن واستدامة درجة الحرارة بإثارة المزيد من الجدل. ويختلف كل فرد عن الآخر لذلك فإن العثور على شيء يصلح للجميع لن يحدث قط".
ومنذ استهلال تجربة الإنعاش والمحافظة الطارئة حارب تيشرمان النقد الطبي الصامد. ومن الأمور التي تحظى باهتمام زملائه على وجه الخصوص عجز الدم عن التخثر في ظروف الحرارة المنخفضة للغاية وهي قضية تثير الكثير من الانتقاد لمرضى الصدمات الذين فقدوا النبض أو المحتضرين بسبب النزف الشديد. ومع ذلك يستجيب تيشرمان بأن مرضاه هم عرضة مسبقًا لخطر الوفاة الكبير. "لا يوجد لديهم سوى فرصة 5% للنجاة ولذلك لم لا نحاول شيئًا جديدًا؟"
يتعلق انتقاد آخر بالناتج العصبي. ما الذي سيحدث إذا نجا المريض من طلق ناري أو طعن بالسكين بسبب هذا الإنعاش والمحافظة الطارئة ولكنه عانى من أذية دماغية مستديمة بسبب وجودة فترة طويلة من توقف امداد الدماغ بالأوكسجين؟ يجيب تيشرمان: "تلك قضية تتعلق بكل نوع من توقف القلب سواء حدثت صدمة أم لم تحدث. وإذا حدث توقف للقلب سواء بوجود الإنعاش أم لا هناك فرصة بأن المريض سينجو ولكنه سيعاني من أذية دماغية جدية ويحدث ذلك الخطر بوجود الإصابة بغض النظر عن التبريد. ولا نعلم حقيقة إن كان ما نفعله يرفع أو يخفض ذلك الخطر."
واستطرد في تأطير القضية كقضية بقاء. "غالبًا ما يستيقظ مرضى الإنعاش ويعيشون ويكونون على ما يرام أو أنهم لا يعيشون. لذلك لا نعلم. نعم هناك مخاطرة فهم يحتضرون لذلك نجهد لإنعاشهم وابقائهم على قيد الحياة."
يستمر العمل باطراد. لقد وضعت تطورات العلاج بالتبريد تعريفنا للبشرية قيد التساؤل عبر دفع حدود الموت والادراك وقد تبشر بوصولنا إلى عوالم أخرى. يتواصل اكتشاف الفوائد العلاجية للتبريد وتتطور عبر طريق ملتوي يدخل في تضاريس وعرة ولكنها تخرج بدفع جديد. لو كان موريشو بوبري حيًّا لشعر بالدهشة والذهول.
* إخصائي علم الأعصاب الإدراكي. تخرج من جامعة يورك في كندا وأنهى دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة فابرا في برشلونة وجامعة روتشستر في نيويورك. ظهرت مقالاته في مجلات مثل ذا أتلانتيك والجارديان. يعكف حاليًا على تأليف كتابه العلمي الأول ويعيش في مدينة ترومسو في النرويج.
المصدر:
https://aeon.co/essays/how-freezing-patients-could-save-lives-and-even-reverse-death
تغريد
اكتب تعليقك