رواية «الغابة» تعدت القلوب إلى البطونالباب: مقالات الكتاب
إبراهيم عبدالله العلو مترجم سوري مقيم بمدينة يوما – ولاية أريزونا - الولايات المتحدة الأمريكية |
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
تأليف: سكوت مكليمي
أصبحت رواية الغابة للأمريكي ابتون سنكلير رمزًا لحقبة الفضائح والإصلاح ولكن مؤلفها سعى للثورة وليس التنظيم.
كانت رواية الغابة (1905) لابتون سنكلير عملاً روائيًا مشهورًا حكى قصة لا تُذكر إلا قليلاً. وربما يُعزى السبب لعقود من استخدامها في مقررات تدريس التاريخ الأمريكي.
تدور الرواية في حي صغير لجالية ليتوانية متواشجة في شيكاغو مطلع القرن العشرين. الشخصية المركزية فيها هو يورجيس رودكوس العامل التقليدي المهاجر الذي يعمل بأقصى ما أوتي من طاقة لإعالة أسرته. كانت صفحات الرواية القليلة التي تصف الظروف المزرية في مصانع تعليب اللحوم في المدينة هي الكلمات التي اشتعلت في مخيلة الجمهور بدرجة لم يفعلها قط رودكوس وشخصيات سنكلير الأخرى.
خلق هذا الوصف الحي لصناعة اللحوم سردًا معينًا حول الرواية ترك أثره في الذاكرة التاريخية للبلاد.
أضحت "الغابة" وثيقة مهمة في نشوء الدولة التنظيمية. يمكن استخدامها بتلك الطريقة لتلخيص الحقبة التقدمية بطريقة آسرة ومحفزة تضمن انصات أكثر الصفوف صخبًا بتفاصيلها الخفيضة.
تبقى سردية الغابة الفوقية انيقة وفعالة وتستحق المكونات، التي نهل منها سنكلير لكتابتها، تفحصًا عن كثب: أقصد العصر الذهبي. فجر الفضائح وصحوة إمكانيات الإصلاح.
كيف اختلطت تلك المكونات لتشكل نمطاً مقبولاً من الاحداث؟
تواجدت بعض أسوأ الفظائع في حظائر تجميع الماشية ومصانع توضيب اللحوم في خضم كل ذلك الجشع والفساد الذي استشرى في عصر البارونات السارقين. ذهب سنكلير متخفيًا وكشف ما دخل في اللحم الموجود على أطباق أمريكا. (استخدم تعبير "دخل في" في الرواية بالمعنى الحرفي على نحو مرعب).
خلقت الفضيحة إحساسًا (على الأخص) من الغثيان وسرعان ما أصبحت الغابة من الكتب الأكثر مبيعًا على مستوى العالم. كان من قرائها الرئيس تيودور روزفلت وقيل إنه ألقى بنقانق فطوره من النافذة إثرها. وهذه هي الشهرة التي لا يمكن شرائها بالمال.
أرسل روزفلت المحققين إلى شيكاغو والذين أكدوا أن مستويات النظافة في قطاع تعليب اللحوم كانت مقلقة في أحسن الأحوال. دفع الصخب الشعبي إلى إصلاحات كاسحة شملت الكشف الحكومي الدوري على المعامل.
خلص السرد التاريخي إلى أن تأكيد فضائح سنكلير (التي كتبت في عام 1904 ونشرت في العام اللاحق) كانت الدافع الأساسي والحاسم لتفعيل قانون سلامة الغذاء والدواء عام 1906.
كانت حكايات التقدم الاجتماعي مثيرة للملاحظة في فعاليتها. وتأتي كاملة بنهاية سعيدة: استعاد المستهلكون الأمريكيون شهيتهم بفضل التحقيق الاستقصائي والتشريعات اللاحقة.
التحديق بباكينج تاون
بقيت نسبة من الأمريكيين بلا ريب نباتيين. وتضيع مظاهر مهمة من الغابة وإطارها عندما نتذكر الدرس الذي احدثته في العالم المدني.
من المفيد قبيل النظر إلى الرواية استحضار الخصائص القذرة لإنتاج اللحوم والتي أحدثت ذلك التأثير على القراء في عام 1905. وهي واحدة من اللحظات التاريخية النادرة التي تتوافق فيها الأحاسيس الشخصية للمؤلف ووجهات نظره العامة مع أحاسيس الأجيال القادمة.
تدور أحداث الرواية في حي من أحياء شيكاغو يدعى باكينج تاون. يصور العمال الموظفين حديثًا من المهاجرين الجدد وهم ينقلون إلى مصنع لتعليب اللحوم وقد خذلتهم الروائح العطنة قبل أن يتمكنوا بعد من مشاهدة مكان عملهم. تصل الأبقار والخنازير بشكل متواصل بالقطار. يتم انزالها وتلقيمها لآلة الذبح. بالرغم من شعور رودكوس بالرعب لمعاناة الحيوانات ولكنه ينبهر بسلاسة أداء العملية. تخزن الذبائح في غرف قذرة وفق درجة الحرارة السائدة في ذلك الفصل. يقضي العمال المنهكون حاجتهم متى وحيث تيسر لهم بما في ذلك الأرض. ومن اعتاد منهم على البصق لا يتورع عن فعل ذلك ولا يقدر أي منهم على تفويت يوم عمل بسبب سعال عارض-كما لا يفلت أي حيوان من الذبح فقط لأنه مريض أو مات أثناء النقل. ولا يهدر اللحم بسبب التعفن.
تحظى الجرذان بالمذاق الأول للحم البقر والخنزير في المصنع وتترك أشعارها وبرازها خلفها. وعندما تقتل السموم بعض منها تذهب القوارض الميتة عبر نفس المطاحن كمكونات تدخل التعليب بما في ذلك غبار المنشار. تدخل الحشرات في كل مرحلة من مراحل الإنتاج وهذا ربما من نافل القول.
قال سنكلير أنه شهد بعض ظروف المصنع تلك بأم عينه. وتعرف على الظروف الأخرى عبر اجراء مقابلات مع العمال. تبقى النسبة الإضافية من معلومات الغابة الابتدائية والثانوية محط نقاش. لا تزال الدرجة التي مارس فيها سنكلير الرخصة التأليفية عبر خلط التفاصيل من أسوأ الحالات في صورة قدمها كصورة نمطية للقطاع بكامله قضية مهمة. اعترف أنه لم يكن قادرًا على توثيق ادعاء الرواية الأكثر رعبًا: بأن بعض العمال سقطوا في بعض الأحيان في القدور الضخمة التي أذيب فيها الشحم الحيواني وتحول إلى سمن وأن أجسادهم لم تكتشف إلا بعد فترة طويلة من الطبخ.
كتب سنكلير في مذكراته "كان هناك العديد من الحالات ولكن على الدوام كان المصنعون (أي ملاك المعامل) يتولون عودة الأرامل إلى الريف القديم".
استطاع سنكلير وفي أوج الفضيحة التي احدثتها الغابة أن يدعم مصداقيته بـ"سجلات قضايا المحكمة للعديد من حالات الإقرار بالذنب" من قبل أقطاب اللحوم في شيكاغو "التي رُفعت في العديد من الولايات بتهمة بيع منتجات اللحوم المغشوشة".
تحريض جيش
كانت احتمالية الصدق أحد عناصر تأثير الرواية. لم يتوقع سنكلير بأنها ستجعله العراب الفخري لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية. وغالبًا ما يتم التعامل مع الغابة على أنها شهادة إفادة تتعلق بالحيوانات الميتة بدلاً من رواية تدور حول البشر الأحياء.
وكما ذكر سنكلير لاحقًا "استهدفتُ قلوب الجماهير وبطريق الصدفة أصبت بطونهم". تجمل تلك الملاحظة الخالدة والبليغة طموحاته للكتاب وخيبة أمله من طريقة استقباله.
كان سنكلير في السادسة والعشرين من العمر عندما كتب الغابة ولكنه لم يكن بأي حال من الأحوال كاتبًا مبتدئًا. كانت نشأته غير اعتيادية ويمكن اعتبارها تهيئة ملائمة لدور الروائي ذي التوجه الاجتماعي.
قدم والدي سنكلير من عائلات مترفة ولكن إدمان والده على الكحول ولّد تراجعًا حادًا ومتطرفًا في الغنى. تألفت طفولة سنكلير من التنقل بين الظروف القاهرة والبقاء ضمن ظروف أكثر استقرارًا. بدأ في سن السادسة عشرة بكتابة آلاف الكلمات كل يوم- مما يمكن تسميته اليوم بالروايات التاريخية الموجهة للشباب-والتي ساهمت بتسديد تكاليف تعليمه الجامعي. وفي بداية العشرينات ألقى بكامل ثقله في السعي ليصبح كاتبًا عظيمًا: من نوع المعيار الأدبي للمبدعين الذين درسهم إبان مراهقته.
لم تحظى روايات سنكلير الجدية الأولى بقبول طيب. كان الإرهاق العاطفي قد أخذ منه كل مأخذ ناهيك عن القلق المعيشي. (وتفاقم ذلك كله بتوترات الأبوة اللاحقة لزواج مأسوف عليه لاحقًا). تواصل خلال تلك الفترة المأساوية مع قلة من الكتاب والمفكرين الاشتراكيين. تردد صدى أفكارهم عبر تجربته بين طرفي الثراء الفاحش والفقر المدقع. كما إنها سمحت له بتخيل مستقبلاً أفضل ومستقبلاً تستطيع كتاباته الإسهام في بناءه.
قام سنكلير بالخطوة التالية في عام 1904 عندما انضم للحزب الاشتراكي الأمريكي. وبدأ بالكتابة لصحيفة "الاحتكام للمنطق" وهي صحيفة اشتراكية في الغرب الأوسط. بلغ عدد مشتركيها ربع مليون شخص وفي ازدياد بفضل "جيش الاحتكام" وهو تجمع للداعمين الذين تأكدوا من حصول المطبوعة على قراء جدد.
كانت أول مساهمات سنكلير في الصحيفة مقالة تتحدث عن الاضراب الفاشل في حظائر شيكاغو في ذلك الصيف.
أصاب تقييمه نقاط الغضب والتحدي وحظي بقبول واسع من قبل قراء الصحيفة بما في ذلك العمال في باكينج تاون. انتقل سنكلير إلى شيكاغو بعد تلقي دفعة أولى من الصحيفة بمبلغ 500 دولار ليعمل عدة أسابيع في البحث عما سيصبح "الغابة" والتي نشرت مسلسلة على صفحات الصحيفة قبل الظهور ككتاب مستقل.
وبعد عشر سنوات من تحصيل رمقه من الكتابة (وإن بالكاد) كان سنكلير بمعنى أو آخر قد وصل منتصف نجاحاته. نشر رواية عن الحرب الأهلية بعنوان: "مانا ساس: رواية عن الحرب" - قبل التوجه بقليل إلى باكينج تاون. واعتبرها انتصارًا فنيًا. وافق بعض المراجعين –ولكن مبيعاتها كانت غير مشجعة بحيث تراجع عن خطة لجعلها المجلد الأول من ثلاثية.
أظهر زميله الكاتب الاشتراكي جاك لندن لمحة جلية لتطلعات سنكلير عندما سمى الغابة “كوخ العم توم لعبودية الأجور".
تفتح الرواية برودكوس في حفل زفافه محاطًا بجالية حميمة ومتحمسة. تحيل التجارب اللاإنسانية اللاحقة في باكينج تاون البطل إلى فرد بائس معزول يولد أخيرًا من جديد ضمن حركة سياسية تدعو إلى "كومنولث تعاوني" للديموقراطية والمساواة.
كان هذا السرد للغابة هو أقرب ما يكون لنوايا سنكلير. وهو عمل كاتب امتلك الأمل بأن الحياة ستقلد أدبه.
التشريعات والبلبلة
يستقي تأثير جمالية الغابة التراكمية من محاولة سنكلير توليد التعاطف (القلب) والاشمئزاز (المعدة) والحماس الأيديولوجي (الرأس). كان الخليط في عام 1905 انفجاريًا. وبحلول عام 1912 ارتفع عدد أعضاء الحزب الاشتراكي بستة أضعاف عما كان عليه عندما التحق به سنكلير. يُعزى جزء من هذا النمو إلى الغابة إضافة إلى أن المرشح الرئاسي عن الحزب يوجين ديبس كان شخصية كاريزمية وخطيبًا مفوهًا. وقام متطوعو جيش الاحتكام بالطبع بدورهم.
لم يتعلق تأثير الرواية المباشر وسمعتها المستديمة بفعاليتها في نشر تعاليم الثورة البروليتارية. وفي كثير من الأحيان أصيب القراء على مر السنين بالإحباط من فصول الكتاب الأخيرة.
وكاد رودكوس نفسه أن يختفي. ينضب السرد. تدخل شخصيات جديدة تتحدث بإسهاب عن أصول وأهداف وطرائق الحركة الاشتراكية.
كان سنكلير في "الجمهورية الصناعية" عام (1907) - وهي عمل غير روائي كتب في أوج نجاح الغابة- على يقين بأن الولايات المتحدة في طريقها إلى التحول الراديكالي. وأكد للقراء أن الكومنولث التعاوني سوف يتأسس في غضون سنة من الانتخابات الرئاسية عام 1912. ولكن حماسه الواضح لم يكن معديًا.
تحدد كتب التاريخ الأمريكي في المدارس الثانوية دورًا رئيسيًا للغابة في تحفيز القوانين لضبط المظاهر البغيضة للرأسمالية. ولكن المؤلف نفسه كان يعلم أفضل من ذلك.
حاولت الولايات المفردة حماية مواطنيها من المواد الغذائية غير الصحية والتي يعلن عنها بإعلانات غير صادقة لعقود عدة قبل أن ينتقل سنكلير إلى باكينج تاون. بدأت الدعوات للفحص الفيدرالي للحوم ابان عام 1880 عندما بدأت البلدان الأوروبية بحظر لحوم الأبقار والخنازير الأمريكية بسبب التلوث. (وثبت أن اللحم المستورد من الأرجنتين كان أكثر أمانًا).
تم إقرار أول قوانين فحص اللحوم حوالي عام 1890 بدعم من بعض شركات التعليب التي سيطرت على حظائر شيكاغو في الرواية. لم يكن الدافع حماية الزبائن بقدر ما كان تخفيف المنافسة عبر إقصاء المنتجين الأصغر من السوق. ومع بداية القرن ذبحت خمسة شركات أمريكية لتوضيب اللحوم 80% من أبقار البلاد.
تواصل الحفاظ على الفحص الفيدرالي "ودُفعت تكاليفه من قبل شعب الولايات المتحدة" كتب سنكلير في عام 1906" لمنفعة المصنعين... يتم توظيف رجال يرتدون بذات زرقاء وأزرار نحاسية من مديريات الولايات المتحدة للتأكيد لدول العالم المتحضر أن كافة اللحوم والمريضة والملوثة والتي صادف وجودها في الولايات المتحدة يتم فرزها واستهلاكها من قبل الشعب الأمريكي."
طور علماء الاقتصاد في وقت لاحق المفهوم الذي تضمنته ملاحظات سنكلير: "الاحتجاز التنظيمي" النزعة القوية والحتمية التي تمكن قطاع ما (وخاصة المركز منها) من تفادي السياسات والوكالات القادرة على مساءلته.
يبدو في الوقت الراهن أن قانون فحص اللحوم الفدرالي الذي أقر عام 1907 قد كتب وفي الذهن رواية الغابة. وتضم أحكامه الفحص المستمر لحيوانات الحظائر قبل الذبح وفحص الذبائح قبل التقطيع والتعليب.
كانت هذه المجموعة اللاحقة من التشريعات الصارمة بارقة من الإضاءات الدورية عن الظروف الخطرة والقذرة في المعامل والتي تبعتها دعوات للفحص المحسن.
لم يركن سنكلير لإنجازاته. ومن الجدير بالذكر أن مساره الأدبي تواصل لستين سنة لاحقة وعدد مماثل من الكتب. كما أنه خاض حملة ترشح لحاكم كاليفورنيا في عام 1934 لجر قدم الرئيس روزفلت للنار عبر استنهاضه من اليسار نحو الأهداف الأوسع للصفقة الجديدة.
كان حكم سنكلير اللاحق لتأثير الغابة حادًا ودقيقًا. كتب في عام 1932 في كتاب "بؤرة أمريكية: كتاب الذكريات "يُفترض انني ساعدت في تنظيف الحظائر وتحسين موارد اللحوم في البلاد على الرغم من ان ذلك يبقى غالبًا مجرد تضليل. ولا يمكن لأحد أن يتقول بأنني حسّنت من ظروف عمال الحظائر."
المصدر:
تغريد
اكتب تعليقك