فينيقيا الوهميةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 12:04:13

إبراهيم عبدالله العلو

مترجم سوري مقيم بمدينة يوما – ولاية أريزونا - الولايات المتحدة الأمريكية

ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو

تأليف الدكتورة: جوزفين كوين

أستاذة التاريخ القديم في كلية ورشيستر- جامعة أوكسفورد

يدعي البريطانيون والإيرلنديون واللبنانيون تحدرهم من الفينيقيين القدماء. ولكن فينيقيا القديمة لم توجد قط.

خلقت القومية الحديثة التاريخ على الصورة التي نعرفها اليوم: فكل ما نتعلمه في المدرسة أو ندرسه في الجامعة وجل ما نقرأه في بيوتنا يتشكل وفق أشكال وأنماط دولنا القومية.

ولكن القومية الحديثة أستلبت التاريخ من مجال الهاوي الثري، بما أن القومية تركز على الثقافة والتعليم المنظم، وجعلت الماضي ديموقراطيًا واحترافيًا. وبالمقابل نلجأ إلى التاريخ لتبرير القومية نفسها إضافة إلى وجود الدول القومية المحددة وقال اريك هوبسبوم ذات مرة: "التاريخ بالنسبة للقومية هو مثل نبات الخشخاش لمدمن الأفيون".

ويمنح ذلك كله القومية الحديثة قوة هائلة لتشكيل- وتشويه- ممارسة وتفهم التاريخ الحديث وكذلك ثقافة العصور القديمة.

خذ على سبيل المثال الفينيقيين القدماء المجندين لدعم التواريخ القومية للبنان وبريطانيا وأيرلندا وفي بعض الحالات المشوهة لها.

وبالرغم من الادعاءات للعديد من الوطنيين اللبنانيين والبريطانيين والأيرلنديين لتسجيل الفينيقيين أسلافهم القدماء ولكن الفينيقيين لم يتواجدوا قط كمجتمع واع ناهيك عن دولة ناشئة.

انهارت الإمبراطورية العثمانية التي حكمت بلاد الشام لمدة 400 سنة في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

تسارعت القوى الأوروبية لتقسيم المنطقة وفق نموذجها للدول القومية وبداية تحت السيطرة البريطانية أو الفرنسية. شمل الانتداب الفرنسي في سوريا شريطًا من الموانئ المتوسطية المزدهرة والتي امتدت نحو الأعالي الريفية في جبل لبنان المعقل التقليدي للموارنة الذين يتبعون المذهب الكاثوليكي الشرقي بالتوافق مع الفاتيكان والدروز الذين تشمل اعتقاداتهم التعاليم الإسلامية المطعمة بتقاليد دينية أورو آسيوية.

حاز الموارنة والدروز تاريخًا من الحروب وقليلاً من التشابه. ولكنهم خضعوا منذ عام 1861 لحكم الأتراك كوحدة إدارية منفصلة عن المدن الساحلية بيروت وصيدا وصور التي سكنها على العموم مسلمون سنة.

وفي عام 1919 ومع وضع المقاطعات العثمانية على طاولة المفاوضات أدركت مجموعة من المسيحيين المحليين ورجال الأعمال الفرانكوفونيين فرصة لتوسيع هذا الجيب الجبلي ليضم الموانئ الغنية في دولة جديدة تسمى "لبنان الكبير".

أصر "اللبنانيون" على التكافل الطبيعي بين الجبل والساحل: وبالنسبة لهم كانت الدولة المقترحة الجديدة كلٌ متناسق ولكنها افتقدت لتاريخ مميز لتبرير استقلالها السياسي.

كانت الدولة القومية شيئًا جديدًا في الشرق الأوسط ولكن اللبنانيين علموا أن الحركات القومية تحتاج لشرعنة تاريخية وماض مشترك لبناء نظام حكم مشترك.

عرض مرشح محلي نفسه: الفينيقيين، التجار القدماء الذين أسسوا المدن الساحلية وأبحروا في عباب البحر الأبيض المتوسط وما بعده واخترعوا الأبجدية التي لا نزال نستخدمها لغاية اليوم.

صور اللبنانيون الفينيقيين كأبطال للمشاريع الحرة على غرار أنفسهم وحاججوا بأن الجذور الفينيقية القديمة منحت اللبناني هوية غربية ذات تركيز متوسطي تختلف كثيرًا عن الثقافة الإسلامية لمنطقة سوريا الكبرى والتي اعتبروها متخلفة وبغيضة.

وكان من صميم أيديولوجيتهم أنهم ليسوا عربًا: وصدحت انشودتهم "لا يوجد جِمال في لبنان" .

ومن أجل تقديم نموذج أولي وموازي للبنان الحديث أصر اللبنانيون على أن الفينيقيين كانوا على الدوام شعب مفرد مستقل أو حتى أمة وحدتها الجغرافية والثقافة والدين وهوية مشتركة. وكما ذكر تشارلز قرم، المجازف الجذاب، والوكيل الأوحد لشركة فورد للسيارات في تموز عام 1919 في عدد من مجلته القومية القصيرة الأجل "لا ريفيو فونيسين": "نريد هذه الأمة لأنها نالت على الدوام الأسبقية في كافة صفحات تاريخنا". ونجحت تلك المجادلة: حيث تمت إدارة لبنان الكبير منذ عام 1920 كدولة مستقلة ضمن الانتداب الفرنسي. ولكن هل كانت حقيقية؟

إن القومية الحديثة التي تصر على الاستقلال السياسي لمقاطعة معينة وتفوقها على الآخرين هي ظاهرة حديثة النشأة.

وما هي إلا نتاج العصر الصناعي والاتصالات الواسعة النطاق

والثورات في فرنسا والولايات المتحدة وبلغت أوجها مع التوحد السياسي لألمانيا وإيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر.

ولكن لغة "الأمة" ترجع إلى فترة القرون الوسطى في أوروبا بالترافق مع أفكار الشخصية القومية- حيث جُمعت لوائح للأشكال العرقية النمطية في أديرة القرن الحادي عشر- والتصاقات شخصية بأمم محددة قد تشجع مفاهيم الإبادة الجماعية.

يجادل بعض علماء القومية بأننا نستطيع إرجاع تعاطفات مماثلة إلى العصور القديمة. أوضح كتاب أنثوني د سميث الكلاسيكي "الأصول العرقية للأمم" (عام 1986) أن المجتمعات العرقية الواعية لذاتها تواجدت منذ الألف الثالث قبل الميلاد وأن هذه المجموعات "تشكل النماذج والأساس لبناء الأمم" في العالم الحديث.

ورغم أنها لا تشكل أمماً بالمغزى الحديث تشاركت هذه المجموعات بارتباطات ثقافية وعاطفية واسم مشترك وأسطورة الأصل المشترك والذاكرة التاريخية المشتركة وارتباط بأرض محددة.

وكانت فينيقيا أحد الأمثلة التي قدمها سميث مع "الولاء السياسي لولاية الفرد". واكتشف "وحدة ثقافية وعاطفية مع أقارب الفرد حيث يُفسر ذلك بالأساطير الراهنة للأصل والمتحدر…المؤسس على تراث مشترك من الدين واللغة والفن والأدب والمؤسسات السياسية واللباس وأشكال الترفيه".

ولكن ذلك كله إضافة إلى ادعاء سميث كان ليفاجئ الفينيقيين القدماء وهم مجموعة متباينة من الولايات المتجاورة والمتناحرة غالبًا والتي تنفصل عن بعضها البعض في معظم الأحوال بوديان الأنهار العميقة. ولم يروا أنفسهم كشعب أو مجموعة عرقية مفردة وهو النوع الذي قد يقدم "الأرضية" لبناء أمة.

ولم يتواجد حادثة معلومة ادعى فيها أحد الفينيقيين بتسمية أنفسهم بالفينيقيين أو أي مصطلح جماعي. ووصفوا أنفسهم في نقوشهم بمعايير عوائلهم الفردية ومدنهم. ولا يبدو أنهم امتلكوا ثقافة مشتركة ولكن لهجاتهم تقع في تسلسل ربط الولايات عبر فينيقيا وسوريا وفلسطين. طورت الموانئ الفردية ثقافات فنية ومدنية منفصلة مستقية من أمثلة وعلاقات أجنبية مختلفة: مثلاً اتجهت بيبلوس نحو النماذج المصرية بينما نحت أرادوس نحو النماذج السورية واشتقت العمارة الصيدونية من فارس واليونان بينما ارتبطت صور بعلاقات سياسية وتجارية وثيقة مع القدس.

كان مصطلح "فينيقي" وسم عام ابتكره المؤلفين اليونانيين القدماء يعني بحارة بلاد الشام الذين صادفوهم خلال اكتشافاتهم البحرية. ولكن بعض الكتاب الإغريق أشاروا إلى صورة نمطية خفيفة لهؤلاء الفينيقيين باعتبارهم مخادعين وعابثين ولكنهم لم يستخدموا ذلك المصطلح قط لوصف مجتمع عرقي ثقافي متفرد.

يتحدث المؤرخ هيرودوتس مثلاً في كثير من الأحيان - بإعجاب كبير- عن الفينيقيين ولكنه لم يكتب قط وصفًا إيثنوغرافيًا لهم كما يفعل مع المجموعات الأخرى مثل المصريين والأثيوبيين والفرس.

إذًا لم يخطئ سميث حول الفينيقيين فحسب ولكنه أرجعهم إلى الخلف. لا يمثل الفينيقيين الأصول العرقية القديمة للأمم الحديثة ولكن الأصول القومية الحديثة لعرقية قديمة واحدة على الأقل.

بدأت قصة تواشج الفينيقيين القدماء مع القومية الحديثة منذ لبنان القرن العشرين.

وعلى الجزيرة التي تدعى اليوم بريطانيا العظمى جاء بحث القرون الوسطى عن أصول قومية منذ البداية بنوعيات "إنكليزية" و"بريطانية". استهل المسلك الإنكليزي أولاً بيدي المبجل في القرن الثامن وركز على ملوك البلاد من الساكسون. بينما تعاظم المنحى البريطاني في القرن الثاني عشر مع أعمال العالم الويلزي جيفري من مونموث وتتبع تاريخه لملوك بريطانيا إلى بروتس الطروادي حفيد حفيد أينياس. وكان جيفري أيضًا أول مؤلف يكتب تقريرًا مفصلاً لمآثر الملك آرثر الذي هزم (وبسرعة) غزاة بريطانيا الساكسونيين. وجدت هذه الأساطير فرصة جديدة للحياة بعد انفصال هنري الثامن عن روما لأن الكنيسة الكاثوليكية المحلية كانت وثيقة الارتباط مع الساكسون "الإنكليز" الذين تربعوا على وارداتها إلى الجزيرة في القرن السادس الميلادي. جعلت الأصول الويلزية لملوك تودور الرؤية البريطانية الأعرض للأمة جذابة بشكل خاص لتلك الفترة وكذلك طموحاتهم الإمبريالية نحو سكوتلندا.

وفي وقت من الأوقات حوالي منتصف القرن السادس عشر كتب مدير مدرسة وسياسي ثانوي يدعى جون تواين مجلدين من التعليقات اللاتينية على الشؤون الإنكليزية والبريطانية والبيونينية. قدم تواين هذه الشروح كمناقشات في فرصة الغداء استضافها جون فوشي آخر قديس من سانت أوجستين من كانتربري قبل أن يحل هنري الثامن الدير في عام 1538. نشرت هذه التفاسير بعد موته في عام 1590 ولم تترجم قط وبرغم قيمتها الرفيعة في زمانها فقد أضحت اليوم منسية إلى حد كبير.

وهذا عار كبير لأنها مسلية للغاية ويقدم الأباتي فيها قضية جديدة مثيرة لضيوفه بشأن جذور بريطانيا.

نفى فوشي قصة جيفري السخيفة للأصول الطروادية وأعلن أن البيون ابن الإله نبتون استقر أولاً في بريطانيا ومن ثم أوجد عرقًا من العمالقة الذين سكنوا الكهوف في الأرض التي منحها اسمه ألبيون. كان الفينيقيين أول أجانب يصلون إلى هذه الجزيرة بإغراء معادن كورنوال.

تشمل أدلته على هذا الادعاء "الزي البوني" الذي لا تزال بعض النسوة يرتدينه في ويلز إضافة إلى "الأكواخ البونية" في تلك المنطقة ويضيف الأباتي إن العادة البريطانية لطلاء الجسم بنبات الوسمة كانت محاولة واضحة من الفينيقيين لاستعادة بعض اللون الذي فقدوه على مدار أجيال من الابتعاد عن الشمس.

كانت فكرة التحدر من الفينيقيين بارعة: من خلال استبعاد الفرضية الطروادية القديمة قدم تواين هوية تاريخية جديدة لسلالة تيودور الجديدة والتي حرص على ربطها على الأخص بتيدور ويلز ومنحت بريطانيا أسلافًا أكثر بطولة وتحضرًا من التحدر عما دعاه فوشي"لاجئ مجهول وغامض".

والفينيقيين أنفسهم ضبابيين بالنسبة لتواين الذي يكرر ببساطة ما وجده في النصوص القديمة.

يقال أن الفينيقيين تجارًا حازوا سمعة الخداع والتدليس. وأصر على علاقاتهم مع الشعوب الأخرى: نشأوا في بابل قبل الهجرة إلى العديد من الأراضي القديمة الأخرى بما في ذلك مصر وإثيوبيا وسوريا واليونان وإسبانيا وأخيرًا وصلوا إلى بريطانيا.

ويتساءل أخيرًا "من أين يأتي الرجال بعادة حلق اللحية باستثناء الشفة العليا إن لم يكن من البابليين؟

تناغم هذا المنهج مع التفكير المعاصر حول الأمم والذي لم يُفترض سابقًا على الإقصائية أو المواجهة: ثمة مكون حاسم في المفاهيم المبكرة "للأمم الأوروبية" ألا وهو مفهوم أصلها المشترك. قدمت لائحة الأمم في سفر التكوين خريطة تتبع العلماء من خلالها جذور شعوبهم عبر شجرة العائلة الكبرى لأبناء نوح.

وبحلول الوقت الذي نشر فيه ايليت سامز كتاب "عاديات بريطانيا القديمة المشتقة من الفينيقيين" (عام 1676) تحول التفكير نحو اتجاه آخر.

تعززت نظرية سامز لفينيقية بريطانيا القديمة بالعمل الشهير للعالم الفرنسي صموئيل بوشارت الذي تتبع في "الجغرافية المقدسة"(عام 1646) تفرق ذرية نوح عبر العالم.

أولى بوشارت اهتمامًا خاصًا بالفينيقيين مقترحًا أنهم وصلوا إلى بريطانيا وايرلندا. ادعى سامز أن الفينيقيين استوطنوا في جنوب بريطانيا بينما استعمر السيمبري الألمان الشمال.

وكتب سامز أن الفينيقيين تركوا أكبر الأثر: "ليس فقط اسم بريطانيا وحده ولكن معظم الأماكن هناك ذات الجماعات القديمة أشُتقت من اللسان الفينيقي…اللغة نفسها إلى حد كبير إضافة إلى العادات والأديان والأصنام والمراتب وكرام بريطانيا القديمة هم كلهم فينيقيين وكذلك أدواتها الحربية".

وبالنسبة لسامز شملت الكلمات البريطانية المشتقة من الفينيقية اسم كورنوال وكلمة بيرة وضم بقاء الثقافة الفينيقية موقع ستونهنج.

ما اللغة التي تحدثها الفينيقيين وفق سامز؟

أصر سامز على أن هجرة السيمبري تشرح سبب ضخامة الأسكتلنديين وعنفهم أكثر من الإنكليز إضافة إلى ميزة اتحاد التيجان عام 1603. "اللغات المتعددة والعادات والاستخدامات …لا يعاكس بعضها البعض ولكن عبر خليط النبلاء والاتحاد السعيد لهذه الأمة تحت ملك واحد تلتقي جميعًا لتأسيس إحدى أفضل الممالك المتراصة في العالم".

يقترح استخدام سامز الأصول المختلفة للمهاجرين لتفسير أنواعًا جسدية حديثة ومميزة: أصل مشترك أو علاقة عرقية بطريقة لم تقدمها قصة تواين للاستعارة الثقافية. كما أنها تتابع توجهًا جديدًا في المسار القومي والذي يركز الآن على الفرق بين الأمم أكثر من الروابط بينها.

وبالمثل وبالرغم من أنه ركز على أصول الممالك البريطانية التامة ميز سامز بشدة بريطانيا عن الأمم الأوروبية الأخرى. وعلى الأخص كان ضد منافستها اللدود فرنسا وشعبها. وبالنسبة لسامز ومعاصريه ارتبط الفرنسيون بشكل وثيق بالرومان وهي دولة أرضية محلية. فاقم تحدر البريطانيين المفترض من أعداء روما التقليديين، قوة التجارة البحرية قرطاجة الفينيقية، الفوارق بين الدولتين الحديثتين وعزز تفوق بريطانيا في البحر.

عنت معارضته القوية للفرنسيين أنه من المهم لسامز أن تكون بريطانيا على الدوام جزيرة وليس-كما هي الحقيقة في هذه الحالة- ذات مرة شبه جزيرة من شمال أوروبا.

وكتب: "إذا تم الاعتراف بهذا البرزخ فإنه يستثني مقولة أن الغال استوطنوا هذه الدولة وهو أمر لا يمكن تخيله. ومن المفاخرة أن يكون هذا الجزء من العالم على الدوام أمة مستقلة بحد ذاتها بدلاً من أن تكون معتمدة على إقليم لطالما منحته القوانين".

وهذه قراءة مختلفة تمامًا لأصول القومية البريطانية عن قراءة تواين. وبريطانيا وفق سامز كانت على الدوام أمة وينطبق المبدأ ذاته على سكانها البشريين الأصليين: وهو أول من وصف الفينيقيين "كأمة" وحتى "دولة".

ظهرت في أيرلندا نسخة بديلة من القومية الفينيقية. كان معاصر سامز رودريك أو فلاهرتي أول عالم ايرلندي يقترح في عمله المؤثر"أو جيجيا" عام 1685 أن الفينيقيين شكلوا جزءًا من الأرومة الأيرلندية. أصبحت نظرية أوفلاهرتي في القرن الثامن عشر بأن الفينيقيين أسلاف الأيرلنديين شديدة الرواج بين المفكرين الغال ودعاة التفوق البروتستانتي.

كان تشارلز فالانسي أحد أكثر المتحمسين البروتستانت الذي وصل إلى أيرلندا عام 1756 كمراقب عسكري بريطاني وبقي هناك كأثاري محلي محترم وعضو مؤسس للأكاديمية الأيرلندية الملكية. انصب اهتمام فالانسي الرئيسي على العلاقة بين اللغتين: الأيرلندية القديمة، حيث أعلن في واحدة من العديد من دراساته المطولة حول الموضوع، أن الأيرلندية القديمة ربما كانت بدرجة كبيرة لغة هاني بعل هاميلكار هاسدروبال".

وكما استخدم القوميين البريطانيين الفينيقيين لتمييز أنفسهم عن الفرنسيين "الرومان" فإن المناصرين للقومية الايرلندية استخدموا الماضي الفينيقي لتمييز الايرلنديين عن البريطانيين الأكثر "رومانية".

وبهذا المنظور صُور الاحتلال البريطاني لأيرلندا كصراع عظيم بين قرطاجة النبيلة المتطورة أي الأيرلنديين- الفينيقيين والقوة الغوغائية الإمبريالية لروما أي بريطانيا.

وفي الوقت ذاته فإن التلقف الفالانسي للخصوصية الفينيقية في العالم القديم كان ضبابيًا ولم يميزهم بقوة عن الشعوب القديمة الأخرى: وصف الفينيقيين أنهم يستوعبون السكيثيين في أسفارهم ونسب الأبراج الأيرلندية المستديرة في أزمان عديدة للعمارة الفينيقية والفارسية.

كانت القومية الأيرلندية الانفصالية الحقيقية حتى بين الكاثوليك ظاهرة من القرن التاسع عشر.

ربما أخلص فالانسي للتاريخ والثقافة الأيرلندية ولكن عمله الأساسي كان مخصصًا للملك الإنكليزي. احتفى المفكرون الأيرلنديون من أمثاله بالفينيقيين كمجموعة واحدة من الجذور القديمة المركبة والمتداخلة ولكنها لم تبحث آنذاك عن مستقبل أيرلندي مفرد ومنفصل. بجلوا الأسلاف الفينيقيين ولكنهم لم يسعوا لأمة فينيقية.

وفي أواسط القرن التاسع عشر أوهن الاعتراف بأن عائلة اللغات الهندو أوروبية التي تشمل الإنجليزية والأيرلندية كانت منفصلة عن اللغات السامية، التي ضمت اللغة الفينيقية، البحث عن الجذور الفينيقية لهذه الأمم الحديثة.

وكذلك فعل الفقدان المميز لدليل آثاري عن الاستقرار الشامي في الأرخبيل الأطلسي الشمالي.

وفي الوقت ذاته شجعت الإيديولوجيات المتنامية للقومية الحديثة المؤرخين لاعتناق فكرة أمة فينيقية قديمة والتي اجتاحت فيما يسميه بول جيلروي في "الأطلسي الأسود" عام 1993 إيديولوجية "الأمة كموضوع عرقي متجانس" إضافة إلى "الربط المميت بين مفهوم القومية ومفهوم الثقافة".

بدأت الكتب بالظهور حول "الفينيقيين" بفصول مطولة مخصصة لثقافاتهم وحرفياتهم. وبحلول 1860 عندما بدأ عالم الآثار الفرنسي (ولاحقًا منظر القومية) ارنست رينان بنشر "مهمة فينيقيا" نتيجة لأعمال التنقيب التي قام بها في لبنان وأشار إلى الفينيقيين "كأمة".

ووفق رينان كان لدى الفينيقيين فن وعمارة مميزة وتشاركوا بملكة عملية والمعية تجارية.

وأصبحوا عرقًا فيما بعد: ووفق جورج بيرو وتشارلز شيبيز في مجلد نشر عام 1885 عن الفن الفينيقي والقبرصي "يمكن القول جليًا أن الفينيقي امتلك بعض مزايا اليهودي في القرون الوسطى ولكنه كان قويًا وانتمى إلى عرق يستحق الإشادة بقوته وتفوقه في بعض الاعتبارات".

اكتملت العملية مع نهاية القرن التاسع عشر عندما بدأ جورج راولينسون الطبعة الثالثة لكتابه "تاريخ فينيقيا" معلنًا أن شواطئ بلاد الشام كانت "مأهولة بثلاثة أمم متمايزة سياسيًا وإثنيًا وعرقيًا: سوريا وفلسطين وفينيقيا. وضعت ثلاثة قرون من البحث والاطلاع القومي الفينيقيين في بلاد الشام القديمة أمة مكتملة وسلف محتمل لدولة تحت السيطرة الأوروبية الإمبريالية.

 

المصدر

https://aeon.co/essays/phoenicia-an-imaginary-friend-to-nations-in-need-of-ancestors

Phantasmic Phoenicia

Josephine Quinn

is an associate professor in ancient history at Worcester College, University of Oxford. Her latest book is In Search of the Phoenicians (2017).

3,100 words

Josephine Crawley Quinn

University of Oxford, Classics, Faculty Member


عدد القراء: 2632

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-