اللسانيات الإدراكية ودلالة مصطلح «إدراكي»الباب: مقالات الكتاب
أ. د. تحسين رزاق عزيز أستاذ في جامعة بغداد |
بقلم: يلينا كوبرياكوفا1
ترجمة: أ. د. تحسين رزاق عزيز
النموذج الإدراكي شأنه شأن أيِّ نموذج جديد من نماذج المعرفة العلمية، يشق طريقه في علم اللغة ليس من دون مقاومة، وإذا ما كانت الخطابات المناهضة له في الأدبيات التخصصيّة نادرًا ما تحمل طابعًا مكشوفًا، فإنَّ الهجمات الانتقادية عليه في مختلف الاجتماعات والموائد المستديرة والمؤتمرات أكثر شيوعًا. بشكل عام، هذا الوضع مفهوم تمامًا: إذ يستغرق الأمر دائمًا بعض الوقت قبل أن يترسخ نموذجٌ جديدٌ للمعرفة ويجد المؤيدين له. الأمر الأكثر إثارة للدهشة، أنه حتى في هذا الوقت يعمل الكثير من العلماء في مجال اللسانيات الإدراكية، وحتى يمكننا الآن أنْ نذكر الكثير من الأعمال المثيرة للاهتمام التي تشير إلى أنَّ لدينا مدرستنا الخاصة من علماء الإدراكيات.
ما دامت اللسانيات الإدراكية الآن ممثلة في العالم من خلال عدة اتجاهات قوية، يتميّز كل واحد منها بآليّاته الخاصة، وبمجال التحليل الخاص به وبإجراءات التحليل الخاصة، وإنَّ تدفق البحوث الأجنبية التي تُجرى بطريقة معرفية لم ينضب بعد، فإنَّ وجود المصطلح «إدراكي» في بنية العديد من التراكيب لا يعني، في حقيقة الأمر، أنَّ العمل المعَيَّن قد نُفِّذَ في إطار النموذج الإدراكي، وعلاوة على ذلك، إنَّ المصطلح نفسه يُفهم بطريقة مُشابهَة.
مما لا شك فيه أنَّ هذا الوضع يتعقّد بسبب حقيقة أنَّ العلم الإدراكي نفسه، الذي تحت رعايته ظهرت اللسانيات الإدراكية، ينقسم بشكل متزايد ليس فحسب إلى مدارس مختلفة، بل وإلى علوم إدراكية مختلفة أيضًا - علم النفس الإدراكي، وعلم الأعصاب، والأنثروبولوجيا وما شابه ذلك. إذ يقدم العلماء المختلفون تعريفات متنوّعة لمفهوم «الإدراكي» حتى في هذه العلوم، وفي «المقدمات» التي ظهرت في العلوم الإدراكية المختلفة، ترتبط تفسيراته، بالطبع، بالعلم المعيَّن الذي تُستَعمل فيه، وبمجموعة العلماء الذين يصفونه على وجه التحديد.
وفي ظل التطور السريع لجميع العلوم الحديثة وحتى جميع نماذج المعرفة العلمية تُعَدّ مدة ثلاثين إلى خمسة وثلاثين عامًا من وجودها في القرن العشرين مدة ليست قليلة، وحتى خلال هذه المدة القصيرة، فإنَّ التغييرات الفعلية في كليهما جوهرية جدًا. لقد تغيَّرت جزئيًّا حتى الافتراضات الأولية للعلم الإدراكي، ومجالات اهتماماته، والمسائل المحدَّدة المطروحة فيه، وكل هذا معًا لا يمكن إلا أنْ ينعكس حتى على مظهر اللسانيات الإدراكية.
ولو أخذنا، على سبيل المثال، كتاب ألان بيفيو Allan Urho Paivio الشهير (في منتصف الثمانينيّات) حول الصياغة المزدوجة للمعارف في دماغ الإنسان (الصورية واللفظية)، لأمكننا التأكد من أنَّ السؤال عن كيفية تمثيل المعرفة في المخزون الذهني من المفردات - لا يزال أهم مشكلة في العلوم الإدراكية كلها. ومع ذلك، لا يمكننا أن نوافق على أنَّ مشكلة التمثيلات الذهنيّة لا تزال هي المشكلة المركزية لجميع العلوم الإدراكية اليوم (انظر Paivio 1986: 3-4). ولكن أهداف العلم الإدراكي تتغير، ومحتوى المصطلح الذي يصفه يتغير جزئيًا.
دعونا نذكر مثالاً آخر. في محاولة للتعبير عن كيفية نمو الطفل، ركَّز علماء النفس قبل الستينيات في المقام الأول على دراسة التفكير وحدَّدوا في تكوّن الطفل مراحل مختلفة من النشاط المعرفي المادي الذي يقوم به. ومع ظهور علم النفس الإدراكي وانتشار وجهات النظر حول الإنسان بِعَدِّه يمتلك نَسَقًا إدراكيًّا خاصًا يعمل على معالجة المعلومات وتعديلها وتخزينها وما إلى ذلك، تغيرت أيضًا زاوية النظر في كيفية تقدم النمو العقلي للطفل. وهنا، في البداية، كان التركيز على كيفية تشكّل التمثيلات الذهنية للعالم عند الطفل وبأي شكل توجد في ذهنه؛ ولكن تدريجيًا، في ظل التطور الإدراكي للطفل، يبدأ فِهم نطاقٍ أوسع من الظواهر المرتبطة بإتقان الطفل لوسائل وطرائق التعامل مع المعلومات، وبتكوين النسَق الإدراكي نفسه بكل مكوناته مثل الاستيعاب والخيال والقدرة على التفكير وحل المشكلات، وما إلى ذلك. والقضية المركزية هي دور اللغة في هذه العمليات كلها، سواء كانت فطرية أو مكتسبة أثناء التعلم. وفي الوقت نفسه، يُلاحَظ أنَّ مصطلح «النسَق الإدراكي» نفسه، وكذلك مصطلح «المعلومات» (أي المصطلحات الأساسية لوصف العملية الكاملة لنمو الطفل!)، تُستخدم من دون تعريفٍ دقيقٍ لما يُقصد به! (راجع McShane 1991: 9). لدى العديد من المتخصصين انطباع بأنَّ مصطلح «إدراكي» يبدو غامضًا ولهذا السبب غالبًا ما يكون «فارغًا» (راجع فرومكينا Фрумкина 1996: 55). ونجد فيه الكثير من البيانات غير المتوقعة. استدلَّ فاديم كاسيفيتش منطقيًا على مساهمة اللسانيات الإدراكية في علم اللغة الحديث، ولخَّص نتائج تحليله وتوصَّل إلى أنَّ المناهج والنتائج التي طُوِّرَت هنا، على الرغم من أنها تثري علم اللغة، لكنها «لا تخلق بأي حال موضوعًا جديدًا (بتعبير أدق، مادةً) للبحث، أو حتى طريقة جديدة» وبالتالي «من المشروع الاعتقاد بأنَّ اللسانيات الإدراكية غير موجودة (التأكيد هنا لفاديم كاسيفيتش) بالفعل وذلك لعدم وجود لسانيّات (نفسية) لا إدراكية» (كاسيفيتش Касевич 1998: 20). لقد أردتُ في هذه المقالة أنْ أثبت العكس: إذ أنَّ اللسانيات الإدراكية، بالطبع، موجودة (مثلما توجد لسانيات لا إدراكية أيضًا - على سبيل المثال، اللسانيات البنيوية)، وفي إطارها يتشكَّل فهمٌ خاص للمصطلح الذي يهمنا، والذي، حتى عندما يتحول إلى كلمة متعددة المعاني، لا يصبح «تحوّلاً وتمرّدًا» ويلفت الانتباه إلى التقييمات الأخرى للسانيات الإدراكية نفسها في بلدنا وفي الخارج. فمثلاً، عندما وصف بافيل بوريسوفيتش بارشين النظرية والأسلوب في لسانيات نهاية القرن العشرين كدليل على «التمرد» و«التحولات»، ذكر مثالاً عليها اللسانيات الإدراكية بوصفها واحدة منها (بوصفها الأكثر تميّزًا). وفيها (حسب تأكيد المؤلف) «تبرز البُنيات والعمليات الإدراكية بمثابة تراكيب مُقَوْلَبة (وهذا يمكن عدّه أساسَ تعريفًا لها) سواء كانت بُنيات إدراكية مثل الإطارات» (مارفن مينسكي)؛ وقد كيَّف تشارلز فيلمور هذا المفهوم مع احتياجات اللسانيات. وسُمِّيَ هذا المفهوم - المخطط الإدراكي المثالي (جورج لاكوف) أو الفضاءات الذهنية (جيل فوكونير)؛ والرسم التخطيطي للأبعاد (راي جاكندوف)؛ والفئات الدلالية النحوية الفائقة الشبيهة بالبنية التناسقية، ودينامية القوى، وتوزيع التأثير، و«المُتَلَقَّيات»... الخ (ليونارد تالمي)؛ والتراكيب المعقدة المتعددة الأبعاد (بالمعنى الخاص لهذا المصطلح الذي اقترحه تشارلز جاي فيلمور وبول كاي)؛ والعمليات الإدراكية من نمط قواعد الاستدلال المفاهيمي (شينيك Шенк 1980)، أو مستوى خاص من دراسة الأنظمة الذهنية التي افترضها ألان نيويل والتي تختلف عن «مستوى المعارف» الرمزي (Newell 1982) (انظر بارشين 1996: 30 -31 Паршин). لقد أوردتُ عن عمد هذه التفاصيل لكي أثبت أنَّ اللسانيات الإدراكية ليس موجودة وجودًا حقيقيًا فحسب، بل وحتى أنها تتميَّز بدائرة واسعة جدًا من القضايا المدروسة، علاوة على ذلك، مع كل تنوعها، الذي يُنظر إليه في إطار منهج موحد ومواقف نظرية موحدة.
وسأذكر هنا مقطعًا آخر من التقييم العام للسانيات الإدراكية2. «إذا ما نظرنا إلى اللسانيات الإدراكية ليس من الجانب الذي حفَّز ظهورها (دراسة التفكير والنشاط المعرفي والإدراك)، ولكن من وجهة نظر موقعها المادي في نظام المستويات اللغوية للغة، فسيتبين لنا أنها تشارك بشكل عام في دراسة مقامات محتوى اللغة. هذه هي مجالات الدلالة الإدراكية، والدلالة المكانية، ودلالة الإطارات. إنها دراسة الفئات والتصنيف، والمفاهيم والتصور، والاستعارة وتكوين الاستعارة، والإشارة المرجعية، وجوانب معلومات اللسان (الترقية، التفعيل، والمجاز)، واللغة الذهنية، وهلم جرا (برافيكوفا 1999: 37-38 Правикова). والأهم من ذلك أنه في نفس العمل يشير المؤلف بشكل صحيح إلى أنَّ «اللسانيات الإدراكية في علم اللغة الروسي لها مسار تطور متميز. وإذا ما كان الاتجاه الإدراكي في اللسانيات الأجنبية مرتبطًا بدراسة أنماط مختلفة من دلالات الحياة اليومية، فإنَّ الأفكار الإدراكية ارتبطت في بلدنا، حسب ما نرى، بالبحث في مجال التسمية... طرحت هذه النظرية العلاقة المتبادلة بين الشكل اللغوي والمحتوى اللغوي على مستوى علم الدلالات وعلم المدلولات» (برافيكوفا Правикова 1999: 39-40).
صدرَ في عام 1999، في سلسلة من الدراسات حول اللسانيات الإدراكية، كتابٌ مُكَرَّس لأساسيات اللسانيات الإدراكية ولنطاق مشاكلها وطرائق مناهجها (انظر: Cognitive Linguistics: Foundations, Scope and Methodology 1999)، وقد لخّصَ أكبر علماء الإدراكيات الحديثة في المقالات المنشورة فيه مشاريع اللسانيات الإدراكية، وكذلك الخطوط العريضة لطرق تطويرها. مقال رونالد لانجاكر المعنون: «الدلالة القيمية للاتجاه الإدراكي» (انظر: Langacker 1999)، يحتوي على مجموعة القضايا التي تميز هذا الاتجاه (الصفحة: 17)؛ ويبيّن عدم الكفاءة وعدم الإنصاف في نقده وفقًا لمجموعة كاملة من القرائن (الصفحة: 20)؛ ويسرد المبادئ المنهجية الرئيسة للمذهب الإدراكي (الصفحة: 23 وما يليها). ولكن الشيء الرئيس الذي يُدافَع عنه هنا، هو الافتراض بأن التصورات الإدراكية الوظيفية حول جميع الظواهر التي تدرسها اللغة بالذات تعطي أكثر بكثير مقارنةً بالوصف الشكلاني لتلك الظواهر نفسها.
وكتبَ وليام كروفت في الموضوع نفسه (1999 Croft)، مشددًا على القيمة الاستثنائية للبيانات الإدراكية في الدراسات التصنيفية للغة. ولكن التقييم العالي بشكل خاص للمذهب الإدراكي يقدمه جيل فوكونير: فهو يربط «نجاحه المذهل» بحقيقة كون هذا المذهب «في جميع الاحتمالات بدأ لأول مرة في ربط العلم الحقيقي لبناء المعنى مع ديناميته»، وأنه على الرغم من أنَّ اللسانيات الإدراكية تشترك في النظرة القديمة قِدَم العالم للغة بوصفها أداة (لتكوين ونقل) المعنى، إلا أنَّ جميع أساليبها ونتائجها جديدة تمامًا (Fauconnier 1999: صفحة 96-98).
أخيراً، لا بد أن نذكر الدراسة الأخيرة التي كتبها جورج لاكوف ومارك جونسون (Lakoff, Johnson 1999) التي تشدد على أنَّ العلم الإدراكي واللسانيات الإدراكية يتحديان الفلسفة الغربية برمتها ويشككان في العديد من مُسَلَّماتها، عندما تُظهِر تقدماً كبيراً في مجال معرفة العقل البشري والآليات الرئيسة لنشاطه الذهني.
عندما نفترض جنباً إلى جنب مع علماء الإدراكيات الآخرين، أنَّ التطور الرئيس للنموذج الإدراكي (أو الوظيفي الإدراكي، والخطابي الإدراكي) سوف نلاحظه في بداية القرن القادم وأنَّ هذا التطور سوف يرتبط بالتأثير المتزايد للسانيات نفسها على العلوم الأساسية الأخرى، فإنَّنا نرى أنه من الأهم أنْ نوضح الآن المعنى الحقيقي لهذا العلم، وبالتالي، معنى الصفة التي تميز علم اللغة هذا عن دائرة «اللسانيات» الأخرى بأكملها.
من الجدير بالذكر أنَّ في الاجتماع الأخير لعلماء الإدراكيات الذي جرى في ستوكهولم في الصيف من عام 1999، أكد ب. بيترز على الحاجة إلى حل هذه المشكلة - لتوضيح دلالة المصطلح «إدراكي» - على الرغم من أنه يبدو له أنَّ الصفة في التركيب «اللسانيات الإدراكية» لها معنى تعريفي محدَّد أكثر من المعنى الوصفي (Peeters 1999: 52).
أود أنْ أشير أيضًا إلى أنه في وقت إعداد وكتابة «المعجم الوجيز للمصطلحات الإدراكية»، لم يخطر ببالنا أبدًا أنْ نخصص مقالاً منفصلاً لمصطلح «الإدراكي»: كان مُقَرَّرًا «افتراضيًا»، أنَّ معناه واضح تمامًا بفضل تفسير المصطلحات التي يحمل فيها الثقل الوظيفي الرئيس. غير أنَّ الوضع قد تغير في الوقت الحاضر بالفعل (قارن، على سبيل المثال، ظهور مصطلح «المفاهيمي» إلى جانبه في معانٍ قريبةٍ من «الإدراكي»، ولكنهما في الوقت نفسه لا يتشابهان بشكل متطابق تمامًا). بعبارة أخرى، حان الوقت، على ما يبدو، لأن يكتسب المصطلح الذي ندرسه تفسيراً منفصلاً.
في هذه المقالة، لا أستعرض تاريخ المصطلح، بل أسعى فحسب لإثبات نطاق معين من استعماله الحديث، وكذلك استبعاد حالات الاستخدام «غير الصحيحة» التي تبدو لي غير مبررة بشكل كافٍ والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال عدِّها مقبولة بشكل عام. وهذا يكون، أولاً، من خلال مُطابَقَته مع المصطلح «مُبتَذَل»3 - مع التشديد الممكن ضمن عدد من المفاهيم، التي تتألَّف منها فكرة ماهية الإدراك، ومفهوم الإدراك المبتَذَل (انظر أيضًا في أدناه). وثانيًا، تحديده وتفسيره من خلال مساواة الصفة «إدراكي» مع الصفة «عصبي»، أي أنه مُكتَسَب من خلال استخدام الملاحظات والتجارب العصبية المنطقية (على سبيل المثال، في Peeters 1999). وأخيرًا، ثالثًا، استخدام المصطلح، الذي يفقد في ظله محتواه الحقيقي ويعبر فقط عن رغبة المؤلف الذي استخدمه في متابعة الموضة أو التوافق مع موضوعات ذات اتجاهات رفيعة في زمانها (مثل هذا الاستخدام لا معنى له بالتأكيد ويجعل المصطلح نفسه «فارغاً» حقاً).
بشكل عام، ترادفت الكلمة «إدراكي» في المعنى مع الكلمة «معرفي» أو «الموافِق للمعرفة» منذ طويلة في الأدبيات الفلسفية (انظر القاموس الموسوعي الفلسفي، 1983، الصفحة: 263)، ولم تستبدها كلمة مُقتَبَسة من خلال الترجمة مثل الكلمة «معرفي»، أيْ يُعتقد على نحو صحيح أنَّ تلك المفاهيم المذكورة قد تباعدت. ونظرًا لوجود هذا المصطلح في علم النفس حتى قبل ظهور علم النفس الإدراكي، فقد تُرجِمَ في الغالب إلى اللغة الروسية، مع الأخذ في الحسبان أنَّ معناه - هو المعنى المُعتاد للصفة النسبية (أي «المنسوب للمعرفة») وبالطبع غالبًا ما يُستعمل حتى الآن بهذا المعنى، وكذلك بمعنى «المنسوب إلى عمليات المعرفة. ولكن مع نشوء علم النفس الإدراكي، الذي عُرِّفَ على أنه «دراسة العمليات الذهنية» (راجع Ellis, Hunt 1993: الصفحة 2 وما يليها)، وقد أُثريَ المصطلح «إدراك» بشكل كبير من خلال دراسة العديد من الجوانب الجديدة لهذه العمليات التي تحدث في دماغ الإنسان، وحتى فيما يتعلق بالمناهج الجديدة التي تنظر في العمليات نفسها (التلقّي، والانتباه، والتذكّر، والتفكير، وما إلى ذلك) بوصفها عمليات تصف النشاط الذهني للإنسان. ويؤكد راي جاكيندوف في كتابه الشهير، الذي صدرَ بسبع طبعات تقريبًا، على أنَّ «النظرية الإدراكية... هي دراسة للمعلومات الذهنية»، أي المعلومات المخزنة في القاموس الذهني داخل الدماغ والتي تشكل أساس وعي الإنسان (راجع Jackendoff 1993: 35؛ الطبعة الأولى من الكتاب - 1983).
يمكن القول بأنَّ الدائرة الثانية من المعاني يُشكّلها المعنى الذي يربط المصطلح - الصفة بالمصدر الذي حفزه، أي بالاسم «إدراك»، الذي بمقتضاه ينبغي كذلك مراعاة العديد من الاعتبارات. ويبدو أن ليس من قبيل الصدفة أنَّ مع وجود الكلمة «معرفة» في اللغة الروسية، طُرِحَت في الاستعمال إلى جانبها الكلمة «إدراك» المنقولة بالحروف من الكلمة الإنكليزية «cognition»، إذ أنَّ الكلمتين، اللتين تبدوان مترادفَتَين حقيقيتين، تشيران في الواقع إلى جوهرين مختلفين. إنَّ مفهوم الإدراك، وهو المفتاح لجميع العلوم الإدراكية، يتعلق، أولاً وقبل كل شيء، بالمعرفة المُبتَذلة، ذات الاستعمال اليومي الاعتيادي، إذا جاز التعبير، المباشرة، والمهمة لتفاعل الإنسان مع عالم حياته العادية.
كتبَ س. ت. ريد: الإدراك يُعرَّف عادةً على أنه الحصول على المعرفة أو اكتسابها، ولكن هذا يشمل أيضًا استخدامها، وإتقان العديد من المهارات والقدرات العملية المختلفة؛ وأشار أولريك غوستاف نيسر إلى أنَّ الإدراك مرتبط بجميع العمليات التي تُحوَّل من خلالها البيانات الحسية إلى المدخلات وتُرزَم وتُنشَر، وتُدَقَّق وتُطَوَّر، وتُخَزَّن وتُستَعمَل (راجع Reed 1996: 4). إنَّ الإدراك – هو المُعالَجة مع المعرفة، والعمل مع المعلومات.
يسعى العلم الإدراكي والتوجّه الإدراكي كله، كما يقول أ. أندرسون، إلى إنشاء نظرية إدراكية للحياة اليومية (Anderson 1996).
تؤكد واحدة من أحدث المقدمات في العلم الإدراكي كذلك على أنَّ العلماء عند دراسة العقل البشري والعمليات التي تحدث فيه، يجب عليهم، أولاً وقبل كل شيء، متابعة هدفَ فِهْمِ أساسيات ماهية تفكير الناس، وبهذا المعنى، دراسة الإدراك الذي يحققه الإنسان (Thagard 1996: 17). إنَّ المكون الرئيس للإدراك هو اللغة، وقد خُصِّصَت اليوم عشرات الأعمال حرفيًا لمشاكل العلاقة بين الإدراك واللغة (انظر، على سبيل المثال،M. Schwarz 1995 الصفحة: 359 وما يليها، حيث ينصب التركيز أيضًا على معرفة الإنسان للعالم؛ وانظر كذلك، التأكيد على أهمية المسار الآني للنشاط المعرفي للإنسان في علم النفس الإدراكي لدى بوريس ميخائيلوفيتش فيليتشكوفسكي، Величковский - 1983، وآخرون). كان يمكن الاستشهاد بتعريفات أخرى للإدراك، لكن ما قيل، على ما أعتقد، يكفي لنذكر، من ناحية، أنَّ علماء الإدراكيات يقصدون دائماً مقابلة المعرفة العلمية للعالم وتدفق الإدراك الطبيعي باستمرار بوصفه يهدف إلى التفاعل البسيط مع العالم في مجال حياتنا اليومية وخبرتنا اليومية. تتعلق جميع الدراسات، حول تصنيف وتصوّر الواقع في العلم الإدراكي، في المقام الأول، بالتجربة العادية والسلوك البشري العادي. وحتى اللغة تعكس نتائج الإدراك كعملية موَجَّهة إلى حل المشكلات العملية في تكييف الشخص مع البيئة المحيطة به، وفي بقائه، وفي تصنيف بيانات التلقّي المباشر، وفي تقسيم تدفق المعلومات، وما إلى ذلك.
عند وصف هذه الجوانب من الإدراك، يتحدث الباحثون أحيانًا عن مقابلة المعرفة العلمية والمعرفة اليومية المُبتَذَلة (Лазарев 1999، لازاريف 1999)، وينوِّهون إلى أنَّ الأولى تركّز على الحصول على الحقيقة، والثانية - على أهداف نفعية بحتة. يمكن للمرء أيضًا أن يقول إنَّ في هذه الحالات، يُقابَل تحقيق المعرفة والنشاط مع المعلومات ومعالجتها البسيطة، لكن المعنى الحقيقي للتقابل واضح تمامًا: الإدراك يميز حياة أيّ إنسان خارج اهتماماته العلمية الخاصة، وهو حلٌّ للمهام المطروحة خصيصًا في عملية النشاط العلمي... لذلك غالبًا ما يعني «الإدراك» ما «يُفهَم بشكل طبيعي» وما «يُعرَف من خلال التجربة العادية» وما إلى ذلك. إنَّ بُنى المعرفة المثبتة في أيّ لغة - هي، أولاً وقبل كل شيء، التراكيب «الطبيعية» وتراكيب الخبرة والفهم وتقييمات العالم، التي يتقاسمها جميع أعضاء جماعة لغوية معينة، وبالتالي فهي مدرجة في مجال ما يُسمّى «المعرفة المشتركة».
ربما، يكون من المفيد الخوض بشكل خاص في كيفية ترابط مفاهيم الإدراك والمعرفة والمعلومات في العلم الإدراكي واللسانيات الإدراكية (إنَّ هذا ضروري، على سبيل المثال، لفهم كيفية تفسير مفهوم المعنى في هذه العلوم)، لكن هذا سيأخذنا بعيدًا إلى حد ما عن الموضوع الرئيس للمقال، الذي في نهايته سننظر في مسألة نطاق آخر نهائي من المعاني لمصطلح «الإدراكي». ترتبط هذه المعاني المتكررة باستخدام المصطلح، الذي يقحم بمظهره المُقتَرِنات المرتبطة به، مثل العلم الإدراكي، والمنهج الإدراكي، والاتجاه الإدراكي. وفي التركيبات من نمط «العلماء الإدراكيين» أو التركيبات الروسية: التحليل الإدراكي، الدراسات الإدراكية وما شابهها، يجري الحديث بالذات عن حقيقة أنَّ مثل هذه الدراسات تُنَفَّذ في إطار العلم الإدراكي أو بالمفتاح الإدراكي. وهذه طريقة شائعة جداً للانضغاط الدلالي: تمامًا كما تولد على أساس مصطلح «القواعد التوليدية» قرائن من نمط «البحث التوليدي، والمنهج التوليدي» وما إلى ذلك، واسم المتخصص في النحو التوليدي على الصيغة generativist (إنه نفسه لا «يولِّد» أي شيء سوى الاعتبارات العلمية حول نوع خاص من القواعد)، يجب اعتبار العديد من العبارات التي يدخل في تركيبها المصطلح «إدراكي» بمثابة ناقلات (بشكل مضغوط) للمعاني «المُنَفَّذَة بروح المادّة الإدراكية (المشار إليها)» وحتى بمثابة «الافتراضات الأولية المنجِزة (المواقف والمبادئ وما إلى ذلك) للعلوم الإدراكية أو اللسانيات الإدراكية». في هذه المعاني (ذات الدلالات الخفية التي تشير إلى العلم، والمنهج، والاتجاه) يُستخدَم المصطلح في كثير من الأحيان ليس أقل من معناه النموذجي الأصلي «المتعلق بالإدراك، والمرتبط بالإدراك، وبعمليات الإدراك ونتائجها». وبالطبع، إنه في جميع المعاني التي أدرجتها ليس فارغًا.
إنَّ النظر في دلالة المصطلح «إدراكي» يسمح لنا ليس بتكملة المعلومات حول مصطلحات النموذج الإدراكي للمعرفة فحسب، بل ويساعدنا أيضًا على إضفاء مزيد من الوضوح على فهم ماهية اللسانيات الإدراكية. أولاً، هذا العلم، هو أحد العلوم الرئيسة من السلسلة الإدراكية بأكملها - أي جميع العلوم التي تتطور تحت رعاية العلم الإدراكي على هذا النحو. ثانياً، يتمثل العلم الإدراكي اليوم من خلال عدد من المدارس التي تختلف عن بعضها البعض إلى حد كبير. وإنه في الوقت نفسه، من دون شك، يوحِّد السعي الذي يُضفي على الحقائق اللغوية والفئات اللغوية تفسيرًا نفسيًا وبطريقة أو بأخرى يسعى لربط الصيغ اللغوية بنماذجها الذهنية وبالتجربة التي تعكسها كبُنى للمعرفة. ثالثًا، يهتم العلم الإدراكي بشكل أساسي بدلالة الألفاظ العميقة ويهتم بالمقام الأول بجوانب محتوى الصيغ اللغوية. لذلك، غالباً ما ترتبط خصوصية العلم الإدراكي بتوجهه نحو دراسة بناء المعنى، وديناميته، وتعقيد تكوين المعنى داخل التراكيب المختلفة وفي الخطاب، وهلم جرا. (راجع Cognitive Linguistics... 1999). وبالتالي، فإنَّ إدراج مصطلح «الإدراكي» في اسم اللسانيات مهم للغاية ويسمح بالتمييز الصحيح بين اللسانيات الإدراكية واللسانيات الوظيفية، على الرغم من بعض نقاط الالتقاء بينهما، وعلى وجه الخصوص، تقابلهما مع اللسانيات المنهجية.
الهوامش:
1 - يلينا سامويلوفنا كوبرياكوفا (1927-2011) - لغوية سوفيتية وروسية، دكتوراه في علم اللغة، أستاذة جامعية، رئيسة باحثين في معهد اللسانيات التابع لأكاديمية العلوم الروسية، عالمة شرف في الاتحاد الروسي. صدرت لها الكثير من الكتب والدراسات والمقالات في مجلات علم الدلالة واللسانيات الإدراكية (المترجم).
2 - آمل أن يفهم القارئ بشكل صحيح حقيقة أنه عند الإشارة إلى تقييمات اللسانيات الإدراكية، لا أستخدمُ عملي أو عمل المؤلفين المشاركين لي في إعداد «المعجم الوجيز للمصطلحات الإدراكية» (1996)، وكذلك لا أستخدم البيانات، غير المدرجة لسبب أو آخر في هذا القاموس، وفي معظم الأحيان تلك التي أصبحت معروفة لي بعد نشر القاموس. (يلينا كوبرياكوفا).
3 - على سبيل المثال، فلاديمير فاسيليفيتش لازيريف، في مقاله المفيد جداً والذي عالج بشكل صحيح من نواحٍ عديدة الأولويات في فهم نظريات المعرفة المختلفة، يعارض بإنصاف نظرية المعرفة العلمية ونظرية معرفة المبتذل، لكن لا يمكنني أن أتفق معه (حتى ضمن العمل نفسه) عندما يقترح اعتبار مصطلح «الإدراكي» مرادفاً لمصطلح «مبتذل» (يُستَمل في الحياة اليومية) (انظر: Лазарев لازاريف 1999، الحاشية السفلية على الصفحة 26). (يلينا كوبيرياكوفا).
قائمة المَراجِع:
- Paivio A. Mental Representations. A dual coding approach. Oxford (Mass.): Oxford University Press. 1986.
- McShane J. Cognitive Development: An Information Processing Approach. Cambridge (Mass.): Blackwell. 1991.- 394 p.
- Фрумкина P.M. "Теории среднего уровня" в современной лингвистике // Вопросы языкознания. - 1996. - №2. - С. 55- 67.
- Касевич В.Б. О когнитивной лингвистике // Общее языкознание и теория грамматики. Материалы чтений, посвященных 90-летию со дня рождения С.Д.Кацнельсона. -СПб: Наука, 1998. - С.14- 21.
- Паршин П.Б. Теоретические перевороты и методологический мятеж в лингвистике XX века // Вопросы языкознания. - 1996. -№2. - С. 19- 42.
- Правикова Л.В. Когнитивная и когита-тивная лингвистика // Вестник Пятигорского государственного университета. - Пятигорск. - 1999. - №2. - С. 37- 44.
- Кубрякова Е.С. и др. Краткий словарь когнитивных терминов. - М.: МГУ, 1996. - 245с.
- Cognitive Linguistics: Foundations, Scope, and Methodology. Ed. by TJanssen and G.Redeker. Berlin, N.Y.: Mouton de Gruyter. -1999- 270 p.
- Langacker R. Asessing the cognitive linguistic enterprise. In: Cognitive Linguistics... (CM. №8), p.p. 13- 60.
- Croft W. Some contributions of typology to cognitive linguistics and vice versa. In: Cognitive Linguistics... (CM. №8), p.p. 61- 94.
- Fauconnier J. Methods and generalizations. In: Cognitive Linguistics (CM. №8), p.p. 95- 128.
- Lakoff G. and Johnson M. Philosophy in the Flesh. The Embodied Mind and Its Challenge to Western Thought. N.Y.: Perseus Books - 1999. - 624 p.
- Peeters B. Does cognitive linguistics live up its name?// Abstracts of the 6th International Cognitive Linguistics Conference. 10-16 July 1999. Stockholm, p.p. 52 -53.
- Лазарев В.В. К теории обыденного/когнитивного познания (от Коперника к Птолемею) // Вестник Пятигорского государственного университета. - Пятигорск.- 1999. - №2. - С. 25- 34.
- Философский энциклопедический словарь. М., 1983.
- Ellis H.C., Hunt R.R. Fundamentals of cognitive psychology. Madison (Wise.): Brown. 1993.-449 p.
- Jackendoff R. Semantics and Cognition. 6th ed. Cambridge (Mass.): The MIT Press. 1993.-283 p.
- Ress J.J. On the developing history of psycholinguistics // Language Sciences. Vol. 13.-1991.-№!.-p.p. 1- 20.
- Reed St.R. Cognition. Theory and Application. 4th ed. San Diego: Brooks. - 1996 -479 p.
- Anderson H.H.A. Functional Theory of Cognition. Mahwah (New Jersey): Erbaum. 1996.
- Thagard P. Mind. Introduction to Cognitive Science. Cambridge (Mass.): The М22 Press. 1996- 217 p.
- Schwarz M. Kognitivismus, kognitive Wissenschaft und Linguistik // Die Ordnung der Worber. Kognitive und lexikalische Strukturen. Hrgs. von G.Harras. Berlin: Mouton de Gruyter. -1995.- S.359- 367.
. Величковский Б.М. Современная когнитивная психология. М.: МГУ. -1983- 336 с-
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- العلم الخَفي: ما اللسانيات الإدراكية؟
- خطاب لوباتشيفسكي «حول أهم مواضيع التربية»
- اللسانيات الإدراكية ودلالة مصطلح «إدراكي»
- ألكسندر نيستروغين وسلاسة الشعر الروسي المعاصر
- فيرا بولوزكوفا صوت مُمَيَّز في الشعر الروسي
- مهام الأدب في المجتمع المعاصر
- السياسة اللغوية في روسيا والعالم
- السوسير وباختين
- روح النثر الشعرية
اكتب تعليقك