ألكسندر نيستروغين وسلاسة الشعر الروسي المعاصرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 08:58:03

أ. د. تحسين رزاق عزيز

أستاذ في جامعة بغداد

في محاولة لتقديم صورة حقيقية للقارئ العربي عن واقع الشعر الروسي المعاصر لم أكتفِ بقراءاتي وحدها وسعيت لطلب المشورة، ليس من معارفي الروس الأكاديميين فقط، بل من القرّاء وخاصة الشباب، وقد أشار الكثيرون إلى ألكسندر نيستروغين بالذات. فوجدته شاعرًا غنائيًا رائعًا، لكنّ بالرغم من جزالة ألفاظه ورقّتها إلا إنها عصية على الترجمة وتتطلب جهدًا كبيرًا ووقتًا كثيرًا، وفيها تحدٍّ للمترجم.

ولد ألكسندر غافريلوفيتش نيستروغين عام 1954 في إحدى القرى التابعة لمقاطعة فارونيش في روسيا. تخرج في كلية الحقوق بجامعة فارونيش الحكومية. عمل محققًا ومحاميًا وقاضيًا ورئيس محكمة. حاليًا قاضٍ فيدرالي متقاعد. عضو اتحاد الكتّاب في روسيا. نال العديد من الجوائز والميداليات.

نُشرت له عدة مجموعات شعرية من بينها «صوتان» (1988)، «اسم روسي» (1993)، «ثلوجي» (1999)، «سيزهر الأقحوان» (2003)، «غنائيّات» (2007)، «بطاقة مفتوحة» (2011)، «النهر» (2012)، «أشجار الحور تمشي في المنطقة» (2018)، «كلام عنيد» (2021)، وكتاب نثري بعنوان «بكلماتي الشخصية» (2016).

ألكسندر نيستروغين لا يصرّح علنًا عن حبه. فحتى قصائده الأولى التي كتبها أثناء الدراسة لا تتناول موضوعة الحب بشكل مباشر، بل من خلال الشعر عبّر عن الصراع النفسي وعن معنوياته الداخلية القوية، ثم أصبح الشعر نافذة له للخلاص من وقع القضايا الجنائية والبروتوكولات والأجندات.

لابد من القول أنَّ نيستروغين أدرك في وقت مبكر طبيعة موهبته وحددها. ففي واحدة من قصائده المبكرة يقول:

هل سيُحدِث المطرُ حفيفًا في شجرة الزيزفون،

وتزقزقُ ورقةٌ صفراء على السطح؟ -

ما لقلبي يتنصّت لكل شيء؟

إنه يستجيب للمطر، فتعصره الكآبة…

على ما يبدو، هنا يكمن أساس الموهبة الشعرية. الإحساس المتزايد بالحياة، والمشاعر الشخصية. إنه يشبه ابن بلدته الشاعر والكاتب النوبلي إيفان بونين، الذي كان يوحي من خلال شعره أنه يتمتع ببصر حاد لدرجة أنه يرى نجومًا لا يمكن تمييزها إلا من خلال التلسكوب، وبحاسة شم وسمع مثلها. إذ كان بونين يسمع رنين الجرس من عدة فراسخ، من خلال الصوت فيعرف مَن أتى مِن أصحابه.

ربما يكون ألكسندر نيستروغين أدنى من ابن بلدته الكبير في فسيولوجيا إدراك العالم، لكنه قد ينافسه جيدًا في القدرة على الاستماع إلى القلب، وفي العلاقات الحميمة مع العالم الخارجي. وهذا مجرد مثال صغير، ففي قصيدة «أدغال الليل» هكذا يصف الشاعر لقاءه مع الأدغال:

بالنسبة لي، ليس هناك ما هو أكثر صدقًا وقلقًا

وقدسيةً من بضع الدقائق،

التي همسُكِ الحذِر

يعيدُ فيها القممَ المعتِمة

إلى الروح التي فيها كل هذا الظلام...

يسمع الشاعر كيف أنَّ في أوائل الربيع «تنعب الغربان بلسان النصر» وكيف أنَّ «الطرائد الجريحة // تتجمد في القصب الأجش»، ويرى كيف أنَّ ذبابة مايو (أيار)، العثة التي لا يتجاوز عمرها يومًا واحدًا «تدور، وتنعَم في هزّات الزفاف // ولا تؤمن بموتها»، مثل «القارب - تحت بهجة القصب البيضاء - // يدور في سكون». ومفهوم له أنَّ: «مياه البحيرات الفارغة عمياء» وفي الغابة الرطبة: «غضب أعواد الكبريت. وبكاء الحطب القشاش...» ولكن ربما يمكن عَدّ ذروة ثقة الشاعر هذه وعلاقته الحميمة مع الطبيعة حديثَه مع البحيرة:

الماء والقصب ليسا خَرساوَين إطلاقًا،

إنهما أبكمان، أبكمان فحسب...

لماذا أتيتِ ووقفتِ في الظلام،

يا بحيرة نمريج؟

أنا لم أُنادِكِ – بل مجرد همستُ

بكلمات ضائعات...

فأتيتِ مثل شُجَيرة حور،

حامت في بردِ الظلام.

يا له من شعور حقيقي! ويا لها من صورة مؤثرة! ولكنّ نيستروغين في الوقت نفسه لا يتجاوز الخط أبدًا، ولا يسقط في إثارة المشاعر المعسولة. فغنائية نيستروغين تتميز بالرصانة وبالوضوح النادر في الشعر الروسي المعاصر. الشاعر منفتح على كل الرياح، وصريح، لكنه دائمًا مقيّد بنوع من خشونة الرجال.

موهبته لوحظت وبرزت في وقت مبكر جدًا. ولكنه لم يستغلها لمنفعة شخصية. فحتى في ظل السلطة السوفيتية السابقة، عندما كان من الممكن ممارسة أيّ مهنة أدبية من خلال الانتماء للحزب وبسيرة ذاتية سليمة. ويحصل على مرامه ويكسب بذلك رزقًا لا بأس به، كان نيستروغين يميل إلى ولوج مجال الأدب من دون تملق ومن دون شَغْل مناصب رفيعة أو إدارة مجلات أدبية. فكتب عن الوطن، ولكن من غير مدح أو مغالاة في وصف المنجزات. فمثلًا، عند وصف الحرب لم يتغنَّ بالانتصارات بل بكى المعاناة. ففي قصيدة بعنوان «رسالة من عام 1941» يقول:

العنوان قصير: بدلًا من الشارع والمنزل –

رقم البريد الميداني فقط...

خربشاتُ طفلٍ مائلةٌ على الورقة:

«بابا

تعالَ حيًّا على الفور.

ماما توعَّكَت.

أعطتني ونوشا

الخبزَ...

ولكنها لم تأكل...

أَمّا الصقيعَ...»

... لم تُتَح للأب أنْ يقرأ الرسالة...

ووصفَ نيستروغين ببراعة معاناة الإنسان البسيط وضياعه:

مراكزُ المحافظات...

ضجرٌ. دخانُ نارِ طبيخِ حساءِ أوراق البنجر.

الأكشاكُ مكدَّسَة قرب الكنيسة،

والناس مُكَدَّسون عند الأكشاك.

من أجل قدح خمرٍ مغشوشٍ،

أجل، مغشوش، لكن الحصول عليه بصعوبة!

ومن أجل حديث طويل على الهامش

حول كيفية إنقاذ الروح...

بيد أنَّ الشاعر ألكسندر نيستروغين يقف في قصائده الأخيرة، كما يقول هو بنفسه، «عند المَعْبَر» ويتّخذ الخيار الأخير. ويؤكّد بأشعاره أنّ سعادة ناسه «ليست وراء البحر، بل خلف المنعطف القريب». ويدين لهاث البعض نحو تقليد الغرب:

هذه الحقائق الجديدة،

التي فيها الربح أهم شيء،

تشبه الجزمة الضيّقة:

اذهب بعيدًا – والعبْ!

كلا، لن أُسرِع في المساومة.

(سيقولون عنّي بالتأكيد: يا له من مُقَتِّرٍ شحيح!)

سوف أنتعلها حتى تبلى،

جزمتي، تلك غير الضيّقة!

وفي تأملات ألكسندر نيستروغين الدينية تشعر بالصمت الذي يكتنف الوجود ويستولي على كل شيء. فكأنه يناجي الرب ليهدّئ معاناته الجسدية والروحية ووحدته، وهذا لا يُتاح إلا لأولئك الذي حباهم الله بمواهبه. ومع ذلك يمتاز نيستروغين بالتواضع. ويرى فيه زينة النفس... والتواضع، برأيه، معرفة مكان المرء وقدراته وحدوده، وقبوله بنفسه كما هي:

أنا لست ربيب الأدب.

الناس يغضون الطرف عني بدافع اللياقة.

فبعد كل شيء، خبايا الطبيعة الملتوية

تخرج هزيلةً من مَقاطع القصيدة!

 

فأبدو كأنّي لم أتغذَ منذ زمن بعيد ...

الأمر ليس عَصيًّا على الإدراك:

كلُّ الطعام - جذورٌ مُرة

من كلمات أصبحت كالأعشاب الجافة من مدة طويلة.

وفي الأسلوب والمفردات، حتى على المستوى الصوتي - كل شيء لديه يُنجَز بدقة وبتناسق، وصحيح من الناحية التقليدية وجميل. إذ تتناغم في قصائده الأخيرة المعاني مع رنين المفردات.

يأتي الليل: مظلم وحزين.

أجلس، أُغمِضُ عيني بيدي،

فيبدو لي السرير مغطى بالثلج

كأنه المقطع الأخير من القصيدة.


عدد القراء: 2706

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-