السوسير وباختين الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 07:05:26

أ. د. تحسين رزاق عزيز

أستاذ في جامعة بغداد

بقلم: فلاديمير ألباتوف

ترجمة: أ. د. تحسين رزاق عزيز

الملخص

وضع فردينان دي سوسير إطارًا صارمًا للأولويات في اللسانيات، وفصل اللغة عن الكلام، وعدَّه خاليًا من النظام. ميخائيل باختين في عمله «مشكلة أنواع الكلام»، بعد قبوله، خلافًا لفالنتین فولوشینوف، فصلِ اللغة عن الكلام (عن القول حسب اصطلاحه)، عدَّ التركيز على مشاكل اللغة غير كافٍ، واعتبر دراسة الكلام مسألة ضرورية. وفي مجال الكلام، ميَّزَ العنصرَ الأكثر استقراراً- وهو أنواع الكلام المطروحة بدقة للمتحدث جنبًا إلى جنب مع اللغة.

الآن هناك اتجاهان متعاكسان، لكنهما في الغالب يتعايشان. من ناحية، نرى سعيًا نحو الصرامة العلمية، لاسيما في الأبحاث التجريبية والتطبيقية، وفي الدراسة اللغوية البحتة لأداء اللغة ثمة سعي أيضًا للاعتماد على بعض الخصائص الثابتة التي تشمل بالطبع أنواع الكلام. ومن ناحية أخرى، بالنسبة للعديد من اللغويين، مقارنة مع الفترة السابقة، لوحِظَ انخفاض في مستوى الصرامة العلمية. وبشكل عام، في روسيا الحديثة، نجد أن اللسانيات الوظيفية بعيدة كل البعد عن المبادئ التي انطلق منها فردينان دي سوسير. ومن بين أتباع مبدأ الوظيفية يشغَل ميخائيل باختين من دون شك مكانة بارزة.

تخلَّت اللسانيات الوظيفية الحديثة عن القيود التي فرضها فردينان دي سوسير ووسعت موضوع البحث، بما في ذلك دراسة أنواع الكلام.

كما هو معروف، تستند الدراسات الحديثة لأنواع الكلام إلى حد كبير على أعمال ميخائيل باختين التي سبقت عصرها وخاصة على مخطوطته غير المكتملة «مشكلة أنواع الكلام» [1] (كتبها في عام 1953-1954، وصدرت في عام 1978). من الضروري النظر في ترابط أفكار هذه المخطوطة مع أفكار اللسانيات المؤثرة في وقتها، وبالمقام الأول مع أفكار محاضرات دي سوسير في اللسانيات العامة التي صدرت بعد وفاة مؤلفها في عام 1916، قبل مائة عام بالضبط. في السنوات التي كتب فيها ميخائيل باختين «مشكلة أنواع الكلام»، كان تصور فردينان دي سوسير يحتفظ بتأثيره بشكل كامل، بما في ذلك في بلدنا، على الرغم من أنه كان يُنتقد في بعض الأحيان من وجهات نظر إيديولوجية وعلمية؛ وكان النقد الأكثر خطورة من النوع الثاني هو كتيب ألكساندر سميرنيتسكي[2] الذي ظهر في وقت واحد مع كتابة «مشكلة أنواع الكلام». وفي ذلك الوقت قد ظهرت بالفعل النسخة الروسية من «محاضرات» دي سوسير التي صدرت في عام 1933 (هناك إشارات إليها في «مشكلة أنواع الكلام»). المزيد من الاقتباسات من هذا العمل أخذناها من الطبعة الروسية الثانية[3] بوصفها جزءً من كتاب «أعمال دي سوسير في اللسانيات» (موسكو: دار التقدم، 1977، 695 صفحة، الصفحات 35-273) مع الإشارة إلى رقم الصفحة فقط.

من بين الموضوعات التي طرحها فردينان دي سوسير في «المحاضرات»، على وجه الخصوص، أنه أثار مسألة التحديد الواضح للمسائل اللغوية والمسائل غير اللغوية، ومع ذلك قام بتوسيع حدود اللسانيات وتضييقها في الوقت نفسه. إنَّ توسع الإشكالية اللسانية عند سوسير جرى على حساب «ردّ الاعتبار» للسانيات السنكرونية التي لا تتعامل مع تاريخ اللغة. لكن سوسير في الوقت نفسه ضيَّق كذلك مجالات البحوث ذات الأولوية في عدة اتجاهات دفعة واحدة.

ويمكن ملاحظة هذا بالفعل فيما يتعلق بالتمييز بين اللغة والكلام، والتي، على عكس التمييز بين السنكرونية والدايكرونية، لم تتسبب في امتعاض اللغويين بشكل خاص، ما لم يرفضوا النموذج العلمي ككل، كما حدث مع فالنتين نيكولايفيتش فولوشينوف. إن كلمات فردينان دي سوسير معروفة جيدًا: «من البداية، ينبغي الوقوف على أرض اللغة واعتبارها أساسًا لجميع المظاهر الأخرى للسان (النشاط الكلامي)» (47). «وإذا درسنا ظواهر اللسان (النشاط الكلامي) في آنٍ واحد من وجهات نظر عديدة، فإن موضوع اللسانيات يبدو لنا كتلةً من ظواهر متباينة، لا شيء يربطها بعضها ببعض. ومن خلال القيام بذلك نفتح الباب لعدد من العلوم: كعلم النفس والأنثروبولوجيا وقواعد النحو المعياري وفقه اللغة وما إلى ذلك التي نميزها بشكل صارم عن اللسانيات، والتي، نتيجة لخطأ منهجي، قد تدّعي أنَّ اللسان أحد أغراضها». (المرجع نفسه). إذا كانت اللغة «تمثل كيانًا قائمًا في حد ذاته» (48)، فإن الكلام (= اللسان ناقص اللغة) هو في الأساس غير متجانس ولا يشكل وحدة (المرجع نفسه). والخلاصة: «أما بالنسبة لعناصر اللسان الأخرى، فإن علم اللغة قادر تمامًا على تجاوزها» (53). الكلام يُنسَب إلى المفاهيم الأساسية لتصوّر سوسير، ولكن في الواقع يُعرَّف بشكل جُزئي فقط؛ ولا تعطى خصائصه إلا بشكل عمومي جدًا: «الكلام هو مجموع كل ما يقوله الناس»؛ ولا يحتوي على «شيء غير مجموع الحالات الجزئية» (57). ليس من الصعب أن نرى أن أنواع الكلام تظهر عند فردينان دي سوسير في مجال الكلام.

لقد فصل العلّامة بين «لسانيات اللغة» و«لسانيات الكلام». وعدَّ ذلك القسم من دراسة اللسان الذي مادته اللغة، هو القسم الرئيس؛ أما لسانيات الكلام فعُدت ثانوية (57). وهنا لا يدور الحديث عن ضرورة التمييز بين هاتين الظاهرتين فحسب، بل أنه قال: «أننا سنتعامل حصريًا مع لسانيات اللغة» (58). والحقيقة، أنَّ في المناهج التي وصلت إلينا والموجودة في محاضرتين للطلاب، هناك موضوع «لسانيات الكلام» في النهاية. ومع ذلك، لم يكن ثمة شيء حول هذا الموضوع في ملخصات الطلاب لطبعة «المحاضرات»؛ ومن الواضح جداً أن سوسير لم يقرأ مثل هذه المحاضرة.

وبعد أن أبعدَ سوسير لسانيات الكلام قام بإبعاد مجموعة متنوعة من المواد التي أطلق عليها اسم اللسانيات الخارجية؛ وإنه لم يناقش مسألة العلاقة بين لسانيات الكلام واللسانيات الخارجية. فهو يقول: «إن التعريف الذي قدمته للغة يعني إبعاد كل شيء يقع خارج كيانها ونظامها– أو باختصار، كل ما يُعرف "باللسانيات الخارجية"، على الرغم من أن اللسانيات الخارجية تتعامل مع مواضيع مهمة للغاية، وهي الأشياء التي تخطر على بالنا عندما نبدأ بدراسة اللسان (النشاط الكلامي)» (59). وتشمل «جميع الروابط التي قد تكون موجودة بين تاريخ اللغة وتاريخ الأعراق والحضارة»، «والعلاقات الموجودة بين اللغة والتاريخ السياسي»، وقضايا اللغة الأدبية (الفصحى)، ومسائل التوزيع الجغرافي للغات (59-60). ويندرج هنا وفقًا للمسميات الحديثة للتخصصات اللسانية علم اللغة الاجتماعي والأسلوبية وفلسفة الثقافة اللسانية ودراسة لوحة العالم اللغوية وما شابه ذلك. ويندرج هنا كذلك من دون أي شك «تفرّع اللهجات»، على الرغم من أنه يمكن أيضاً دراسة اللهجات من الناحية البنيوية. وتقع في نطاق اللسانيات الخارجية كذلك دراسات الاقتراض (الاستعارة من اللغات الأخرى) (60 –61)، على الرغم من أنه في عدد من اللغات قد تمتلك منظومة الاقتراض الفرعية أيضًا سمات بنيوية. وأحد الأمثلة على ذلك هو اللغة الإنكليزية ذات النظام الفرعي الروماني الخاص. الظواهر اللسانية الخارجية من دون أي تحفظات تسمى غير لسانية، وعلى الرغم من أن دراستها معترف بها بأنها «مفيدة للغاية»، على عكس لسانيات اللغة، فإن اللسانيات الخارجية «تستطيع أن تجمع بين تفصيل وآخر من دون أن تجد نفسها مقيدة بقبضة النظام» (60-61).

وحتى الكتابة (في المحاضرات) «في حد ذاتها لا تمت بصلة إلى النظام الداخلي للغة»: إنها ليست سوى «آلية تُثبَّت بواسطتها اللغة» (62)؛ وتُسمّى أهمية الكتابة في علم اللغة بأنها «لا تستحقها» (64). ويُعَدُّ ثانوياً في قضية اللسان (النشاط الكلامي) حتى «موضوع جهاز النطق (الكلام)» (48)؛ وإن عمل هذا الجهاز بحد ذاته لا يُعَدُّ إشاريًا (سيميائي)، لذلك ينبغي عَدّهُ «ثانويًا فحسب» (55). وإذا كان جهاز النطق (جهاز الكلام) على كل حال يحتل مكانًا في «المحاضرات»، فإنها (أي المحاضرات) ترفض بشدة وجهة النظر حول حاجة اللساني لمعرفة الحقائق (60).

ويُستَبعَد خارج لسانيات اللغة كل ما يرتبط بعمليات الوعي: «فالإرادة والعقل» تُعزيان إلى الكلام فقط (52). و«اللغة ليست وظيفة المتكلم. اللغة هي منتج نهائي يتمثَّلُه المتكلم بشكل سلبي؛ ولا تحتاج مطلقًا إلى قصد مسبق» (المرجع نفسه)؛ أي أنَّ الحديث لا يجري عن أي خيار من جانب المتكلم، الذي يستعمِل فقط «المنتج النهائي». هنا يمكننا أن نفترض وجود جدل خفي مع فيلهلم فون همبولت الذي اعتبر اللغة نشاطًا؛ وإنَّ مسألة السلبية والقصد المُسبَق قد ميَّزَت كذلك وجهة نظر سوسير عن آراء بدوان دي كورتيني (وجهة نظر سوسير تستبعد التدخل الواعي في اللغة وفي السياسة اللغوية، مما تسبب في انتقادات شديدة من طرف تلميذ بدوان ليف ياكوبينسكي[4]).  إنَّ أي قانون في اللغة، وفقًا لما يراه سوسير، ما هو إلا «نتيجة عرضية ولا إرادية للتطور» (119).

وفي معرض حديثه عن المشاكل التي يطلق عليها الآن «التصنيفية»، أشار سوسير إلى أنَّ: «اللغة لا تزودنا بالبيانات الدقيقة والصحيحة عن أخلاقيات ومؤسسات الناس الذين يستعملون هذه اللغة إلا بشيء قليل نسبيًا» (264). واعترض كذلك «على الاعتقاد السائد بأن اللغة تعكس التركيب السيكولوجي للشعب»، لأنَّ «الأسباب السيكولوجية لا تحدد بالضرورة الوسائل اللغوية» (المرجع نفسه). في الواقع، نفى سوسير إمكانية دراسة ما يسمى الآن لوحات العالم . ونتيجة لذلك، عندما لاحظ أن الدراسات التصنيفية «ليست بدون فوائد»، خلص إلى القول أنه من هنا «لا يمكن استخلاص أي استنتاجات حول ما يقع خارج حدود اللغة نفسها» (265).

ينتهي كتاب «المحاضرات» بالعبارة الشهيرة: «إن الموضوع الحقيقي الوحيد للسانيات هو أنَّ تُدرَس في حد ذاتها ومن أجل ذاتها» (269). أصل هذه العبارة، غير المسجلة في الملاحظات التي وصلت إلينا، غامضٌ. هناك من يفترض أنَّ مَن اختلقها هم ناشرو المحاضرات (الدروس) شارل بالي وألبرت سيشهاي ولا تتوافق مع أفكار سوسير [5: 19]. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تكون أعمال بالي وخاصة سيشهاي أكثر انسجامًا مع هذه العبارة من كتاب «المحاضرات»، فقد تكون العبارة بمثابة تسجيل لكلام شفهي قاله سوسير.

ومع ذلك، تعود العبارة لشارل بالي بالذات، وربما هي التعبير الأكثر وضوحًا لجوهر نهج  سوسير وأتباعه. فقد ذكر في كتابه عام 1913: من أجل أن يكون لدى الباحث «فرصة لفهم الحالة الحقيقية لنظام اللغة»، «يجب أن لا يكون لديه أدنى فكرة عن ماضي هذه اللغة، ويجب أن يتجاهل تمامًا علاقة اللغة بالمجتمع الذي تُستَعمَل فيه هذه اللغة وبثقافته حتى يتمكن الباحث من أن يركز انتباهه بأكمله على تفاعل رموز اللغة» [6: 39]. كان هذا هو المثل الأعلى للبنيوية، وهو سمة لكثير من مدارسها ومذاهبها، في بعض الأحيان بشكل ثابت للغاية (هلمسليف)، وأحياناً بشكل بعيد عن الصرامة (حلقة براغ).

يمكن أن نقوِّم إجمالاً مهام علم اللغة ونحصرها في الإجابة على ثلاثة أسئلة: «ما هي بنية اللغة؟» و«كيف تتغير اللغة؟» و«ما هي وظيفة اللغة؟». في جميع التقاليد اللسانية، بما في ذلك الأوروبية، التي نشأ منها علم اللغة، كانت المسألة الأساسية حول بنية اللغة هي المسألة الأكثر ارتباطًا بقضايا تعلُّم اللغة وقواعد اللغة. ومع ذلك، في القرن التاسع عشر ركز العلم اللساني على دراسة مسألة التغييرات اللغوية. كتاب سوسير «محاضرات في اللسانيات العامة» أعلن مهمة العودة إلى دراسة بنية اللغة. أما مسألة وظيفة اللغة فَلَم تَنَلْ حتى منتصف القرن العشرين إلا القليل من الدراسة. فقد كانت في هذا الشأن ثمة تخمينات رائعة لدى هومبولت وكارل فوسلير وإدوارد سابير وآخرين، ولكن نظرية وظيفة اللغة ارتسَمَتْ بخطوطٍ عامة فحسب، ولم يكن ثمة أي منهج علمي معَدّ يعمل بطريقة أو بأخرى للإجابة على المسألتين الأخريَين.

كان ميخائيل باختين أحد العلماء القلائل الذين توجهوا باستمرار إلى دراسة وظيفة اللغة واستخدام المتحدث لها في التواصل مع المحاور/المحاورين. ابتعد فردينان دي سوسور عن هذه الدراسة، معتقدًا (وهذا الأمر، بطبيعة الحال، تبسيط شديد) كما لو أنه لم يكن هناك أي شيء سوى «مجموعة من الحالات الخاصة» التي يمكن للمرء الاستغناء عنها وتجاوزها. لا يجوز اعتبار أن مثل هذا التقييد لم يكن مثمرًا: فالتركيز على مشكلات بنية اللغة (التي لم تُدرَس من الناحية النظرية إلا قليلاً من القرن السابع عشر وحتى أوائل القرن العشرين) أدى إلى خروج علم اللغة من الأزمة ودفع إلى الأمام مكونها البنيوي بشكل كبير. لكن ميخائيل باختين لم يوافق على مثل هذا التقييد، شأنه شأن حلَقَته المزعومة، الذي انعكس في كتاب فالنتين فولوشينوف «الماركسية وفلسفة اللغة».

ومع ذلك، كانت بين كتاب «الماركسية وفلسفة اللغة» وكتاب «مشكلة أنواع الكلام» ثمة اختلافات فيما يتعلق بأفكار فردينان دي سوسير. ففي كتاب عام 1929، تُنفى تماماً موضوعية وجود اللغة بالمعنى السوسيري (الذي أثبته ألكساندر سميرنيتسكي بعد مضي ربع قرن من ذلك): «إن الوعي الذاتي للمتحدث لا يعمل على الإطلاق مع اللغة بوصفها نظامًا من الصيغ المتطابقة معياريًا. مثل هذا النظام ما هو إلا تجريد حُصِلَ عليه بشق الأنفُس بقصدٍ معرفي وعملي محدَّد. ونظام اللغة هو نتاج الانعكاس على اللغة الذي يتحقق على الإطلاق ليس من خلال وعي المتحدث بتلك اللغة وليس مطلَقًا لأغراض التحدث المباشر غير المتكلِّف» [7: 281-282]. ويشير القصد المعرفي والعملي إلى مسألة تعلُّم اللغة وتفسير النصوص في لغة أجنبية (بما في ذلك اللغة القديمة). لكن «لا يمكن لهذا النظام أن يكون أساسًا لفهم الحقائق اللغوية وتفسيرها في كينونتها وتطورها» [7: 298].

وفي الوقت نفسه يجري الحديث في كتاب «مشكلة أنواع الكلام» باستمرار عن نظام اللغة بوصفه ظاهرة موجودة بشكل حقيقي. في بداية العمل يكتب ميخائيل باختين متحدثًا عن الأقوال التي وفقًا لصياغتها تُستَعمَل اللغة (إنَّ المصطلح parole عند فردينان دي سوسير، الذي يُترجَم تقليديًا على أنه الكلام، يتطابق عند فالنتين فولوشينوف وميخائيل باختين مع مصطلح القول؛  ففي كتاب «مشكلة أنواع الكلام» يتطابق المصطلحان مرّتين في صفحة واحدة (275): «هذه الأقوال تعكس الشروط والأهداف المحددة لكل مجال من هذا القبيل ليس فقط من خلال محتواها (المتعلق بالمواضيع) وأسلوب اللغة، أي بانتقاء وسائل اللغة المفرداتية (المعجمية) والاصطلاحية (الخاصة بالعبارات المسكوكة) والنحوية، ولكن قبل كل شيء ببنيتها التركيبية» (249). تتوافق اللغة بالمعنى الذي طرحه سوسير هنا مع «الوسائل المفرداتية والاصطلاحية والنحوية». وهذا ليس ضربًا من الخيال، وليس «نتاج عمل الفكر» كما جاء في «الماركسية وفلسفة اللغة»، بل شيء حقيقي: فالحقيقي فقط هو ما يمكن أن يستعمله حامل اللغة. ثم يُعبَّر عن الفكرة نفسها بشكل أوضح: «اللغة، بوصفها نظامًا، تمتلك، بالطبع، ذخيرة ثرية من الوسائل اللغوية - المعجمية والصرفية والنحوية - للتعبير عن الحالة التقويمية العاطفية» (279). تسمى الكلمة والجملة «وحدات اللغة ذات المعنى» (277). فاللغة في كل مكان من كتاب «مشاكل أنواع الكلام» تُفهَم بالمعنى التقليدي الذي انطلق منه سوسير، لكنها تتوضح أكثر. أي أن «اللغة بوصفها نظاماً» موجودة وضرورية لبناء الأقوال. ولا بد لي أن أشير هنا إلى أن جميع حالات الجدل المباشر مع العلّامة السويسري في كتاب «مشكلة أنواع الكلام» لا تتعلق بالتمييز بين اللغة والكلام في حد ذاته، ولا بالمشكلات المتعلقة باللغة. وكانت وجهة نظر فالنتين فولوشينوف على كل حال متطرفة، أما ميخائيل باختين فقد وجد في 1953-1954 مكاناً للغة في نظامه المفاهيمي.

اللغة في كتاب «مشكلة أنواع الكلام» هي نظام من الوسائل (ومن بينها، بالإضافة إلى الوسائل المعجمية والنحوية، ذُكِرَت التنغيمية أيضًا) المشتركة عند «الناس» كلهم. ومن هذه الوسائل تتكون الأقوال في عملية الحوار الكلامي. هذا الرأي لا يتناقض مع سوسير. ومع ذلك، لا يتفق مؤلف كتاب «مشكلة أنواع الكلام» البتة مع تصوّر الكلام (القول) على أنه «مجموع الحالات الخاصة»، ناهيك عن تقييد مهام العلم من خلال النظر في «اللغة في ذاتها ولذاتها». وبالفعل في أول الاقتباسات المذكورة في أعلاه يجري الحديث عن «محتوى الموضوعات»، وعن «البنية التركيبية» و«أسلوب اللغة». وهذا كله لا ينفيه فردينان دي سوسير بل يتجاهله. ويجري الحديث كذلك عن «انتقاء وسائل اللغة المفرداتية (المعجمية) والاصطلاحية (الخاصة بالعبارات المسكوكة) والنحوية»، والاختيار هو «النشاط» و«الإرادة والعقل» الذي أبعَدَه دي سوسير خارج حدود اللسانيات الداخلية التي حثَّ على الاشتغال بها. وقد كتبَ ميخائيل باختين في كتابه المذكور بصراحة أن الانتقاء (في هذه الحالة، انتقاء نوع الكلام) يعكس «إرادة المتحدث» (271).

إنَّ تناول مشاكل الكلام، وفقًا لفردينان دي سوسير، لا يعني في كتاب «مشكلة أنواع الكلام» رفضَ البحث عن الاتساق. فقد نظر باختين إلى هذا الاتساق انطلاقًا من مفهوم النوع الكلامي الذي هو المفتاح لتصوِّره. إنَّ «كل قول منفرد، بالطبع، شخصيّ، لكن كل مجال من مجالات استخدام اللغة ينتج أنماطاً خاصة به مستقرة نسبيًا لهذه الأقوال التي نسميها أنواع الكلام» (249). وعلى الرغم من كل تنوعِ وعدمِ تجانس أنواع الكلام (التي بسبب ذلك لم يُنظَر إليها قَبلَ ميخائيل باختين في وحدة واحدة) إلّا أنها تمتلك «طبيعة لسانية مشتركة» (251). «لا يمكن لظاهرة (صوتية، معجمية، نحوية) جديدة أن تدخل نظام لغة ما من دون أن تجتاز مسارًا طويلاً ومعقدًا لاختبارٍ وتطويرٍ اسلوبي ونوعي» (256) .

أنواع الكلام المختلفة موَّحَدة المواصفات بدرجات متفاوتة، ولكن «حتى في المحادثة الحرة وغير المُتَكلّفة نميِّز كلامنا وفقًا لأشكال معينة من الأنواع، أحياناً تكون مبتذلة ومبنية وفقاً لنموذج معيَّن، وأحيانًا أكثر مرونة وتناسقاً وإبداعيةً (الحوار اليومي الدارج له أيضاً أنواع ابداعية). فنحن نكتسب أنواع الكلام هذه بالطريقة نفسها التي نكتسب بها اللغة الأم ....

أنواع الكلام تنظِّم كلامنا بدرجات متفاوتة كما تنظيمه الصيغ القواعدية (النحوية) .... ولو لم تكن ثمة أنواع للكلام ولو لم نكتسب تلك الأنواع، ولو كان لزاماً علينا أن نكوِّنها لأول مرة في عملية الكلام، لكان من المستحيل علينا تقريبًا أن نقوم بحرية ولأول مرة ببناء كل قولٍ وحوارٍ كلامي وتبادلِ للأفكار» (272).            

هذه الصياغة مهمة جدًا. فمع حفاظه على مقابلة سوسير للغة والكلام رفض ميخائيل باختين واحدًا من الفوارق الرئيسة بينهما وفقًا لسوسير وهو: نظامية (اتساق) اللغة وعدم نظامية (عدم اتساق) الكلام. هنا يمكن مقارنة أفكار كتاب «مشكلة أنواع الكلام» بأفكار سير ألان غاردنر الذي بحث عن الاتساق ليس فقط في اللغة ولكن أيضًا في الكلام؛ لرؤية المزيد من التفاصيل انظر في [11؛ 12: 255–259]. والحقيقة إنَّ في «مشكلة أنواع الكلام» استُخدِمَت كلمة تقريبًا لأن «أنواع الكلام، مقارنة بأشكال اللغة، أكثر قابلية للتغيير ومرنة ومطاوِعة» (274)، لكنها «بالنسبة للفرد الناطق لديها معنى معياري، ولا يقوم هو بتكوينها بل توهبُ له. لذلك لا يمكن على الإطلاق عَدّ القول الواحد بكل خصائصه الفردية وطبيعته الإبداعية تركيبًا حرًا تمامًا من صيَغ اللغة، كما فعل، على سبيل المثال، سوسير (وتبعه في هذا الرأي العديد من اللغويين الآخرين)، الذي يقابل القول (la parole) بوصفه فعلاً فرديًا محض مع نظام اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية بحتة وقسرية» (274-275). «وبهذا الشكل، يتجاهل سوسير حقيقة مفادها أنَّ بالإضافة إلى صيَغ اللغة هذه هناك أيضاً صيَغُ تركيباتِ هذه الصيَغ، أي أنه يتجاهل أنواع الكلام» (275).

أيْ إنَّ النقطة الرئيسة للاختلاف مع فردينان دي سوسير هي أنَّ الأخير يضيِّق إشكالية اللسانيات عندما يُقصِر مهامها على دراسة «أشكال اللغة». وفي الوقت نفسه، فإن ميخائيل باختين، عندما يعالج المشاكل التي يعزوها فردينان دي سوسير إلى مجال الكلام، يسعى إلى أن يعزل هناك من بين العديد من الظواهر شيئًا ثابتًا وقابلاً للتحليل الدقيق إلى حد ما - إنه أنواع الكلام التي لديها أيضًا «معنى معياري». تتحدد بعض خصائص الأنواع، أولاً وقبل كل شيء، بتمايزها إلى أولية وثانوية. ومع ذلك، لم يعط ميخائيل باختين أي معايير للتمييز بين الأنواع، وليس ثمة أي وجود لذلك حتى في العلم الحديث.

وترتبط حالة أخرى (من حيث الترتيب في النص هي الأولى) للجدل المباشر لميخائيل باختين مع فردينان دي سوسير بقضية معايير التواصل الكلامي. وينبغي هنا أن ننوه إلى أنَّ في المصطلحات الخاصة بـكتاب «مشكلة أنواع الكلام» ثمة عدم ترابط: حيث أن القول يعادل parole، ولكن في الغالب يُفهَم بمعنى آخر: ليس بوصفه parole، وإنما كوحدة أساسية منه. يقال، على سبيل المثال، أن القول يمكن أن يتطابق ضمن الحدود مع الجملة. ولكن في هذه الحالة يكون التواصل الكلامي بوصفه وحدة ذات درجة أعلى من التجريد هو الذي يتطابق مع parole. عند دي سوسير وعلماء آخرين «يُنظَر إلى اللغة من وجهة نظر المتكلم، وكأنّ المتكلم وحيدًا وليس له ارتباط لازم بالمشاركين الآخرين في التواصل الكلامي. وإذا أُخِذ دور الآخر كذلك في الحسبان، فعندئذ يُأخذ كدور المستمع الذي لا يفهم إلا المتكلم بشكل سلبي.... في كتاب محاضرات في اللسانيات العامة (وحتى في الكتب الجدية الشبيهة بكتاب دي سوسير) غالبًا ما تُطرَح تمثيلات تخطيطية بصرية لشريكين في التواصل الكلامي - المتكلم والمستمع (الذي يستوعب الكلام)، ويُعطى مخطط لخطوات عمليات الكلام الإيجابية عند المستمع والعمليات السلبية المقابلة للاستيعاب وفهم الكلام عند المستمع» (258-259). تقوَّم هذه المخططات على أنها «خيال علمي»، لأن «المستمع، عندما يستوعب ويفهم معنى الكلام (اللغوي)، في الوقت نفسه يأخذ موقفَ استجابةٍ نشيطة تجاهه» (259).

بالإضافة إلى فردينان سوسير ينتقد ميخائيل باختين على هذا الفهم للتواصل الكلامي همبولت وكارل كوسلير (كما تعرَّض هذا الأخير للنقد في «الماركسية وفلسفة اللغة» كذلك). وينبغي أن أذكر أن الموقف الفعال للمستمع لم يؤخذ بعين الاعتبار في عدد من المخططات الأخرى لعمليات الكلام: عند كارل بوهلر وشارل بالي؛ وكان الاستثناء هو ألان غاردنر الذي يُفهم الكلام عنده على أنه ظاهرة ذات أربعة جوانب: المتحدث - المستمع - الكلمات - الأشياء المسماة بالمعنى الواسع [13: 62]. وكما يشير الباحث المعاصر لأفكار ميخائيل باختين، «يمكن اعتبار غاردينر بمثابة حلقة وصل بين تصوّر باختين للقول ونظرية أفعال الكلام لجون أوستن وجون سورل» [14: 181].

مرة أخرى، يوجّه ميخائيل باختين انتقاده إلى «مدرسة سوسير» قائلاً أنَّ فيها، مثل ما عند أتباعها - البنيويين بما في ذلك «علماء السلوكية الأمريكيين» (أي، اللسانيات الوصفية)، دراسة «فقرات كلام الحوار اليومي» «اقتصرت على تفاصيل الخطاب اليومي الشفهي، وأحياناً تركز بشكل مباشر على أقوال بدائية عن عمد (السلوكيون الأمريكيون)» (251). أي أنَّه هنا أيضًا انتقد الحد من موضوع البحث ورفض النظر فيه في مجمله.

وثمة موضوع آخر. كما هو معروف، فإن «مشكلة أنواع الكلام» كُتب في المرحلة القصيرة «للعقيدة الستالينية للغة» (بدأت بعد ظهور عمل يوسف ستالين «الماركسية وقضايا علم اللغة» في عام 1950، وتلاشت تدريجيًا، حتى قبل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956). لذلك، في هذا الكتاب ذُكِرَ عمل يوسف ستالين عن علم اللغة أكثر من مرة؛ والحقيقة، جرى إسقاط هذه الإشارات في الإصدارات الموجودة من كتاب «مشكلة أنواع الكلام» ولا تُستعاد دوماً من السياق. ولكن في الاقتباس الذي سبق ذكره، حول أنَّ المتكلِّم يجب أن يمتلك، بالإضافة إلى اللغة، أنواعَ الكلام تُثيرُ الانتباه كذلك عبارةُ «أشكال لغة الشعب المشتركة (المفردات والبنية النحوية)». وهذه إشارة مباشرة إلى ما كتبه يوسف ستالين الذي طرح المكونين الرئيسين للغة - «المضمون الرئيس للقاموس» و«البنية النحوية» [15: 6]. مصطلح «لغة الشعب المشتركة» أيضًا يستخدمه يوسف ستالين باستمرار. أيْ أنَّ في كتاب «مشكلة أنواع الكلام»، ثمة اعتراف واقعي أن موقف الزعيم (ستالين) يشبه في هذه الحالة موقف فردينان دي سوسير وأتباعه الذين انتقدهم ميخائيل باختين. وفي المواد التحضيرية لـكتاب «مشكلة أنواع الكلام» يتضح ذلك أكثر (هنا كان لا يزال الناشرون يحتفظون باسم مؤلف «الماركسية وقضايا علم اللغة»): «التصور الستاليني للغة - هو تصوّر اللغة بوصفها نظامًا (ونظامًا معياريًا) لا يتطابق مع التواصل الكلامي الذي يُعَدُّ هذا النظامُ شرطاً لازماً له ولكن يرتبط (معه) ارتباطًا وثيقًا» [1: 272]. أي أن القائد (ستالين)، مثل فردينان دي سوسير أخذ في الاعتبار نظام اللغة فقط، متجاهلاً التواصل الكلامي، بما في ذلك أنواع الكلام وهي الأكثر ثباتًا فيه. وفعلاً، لا يمكن عدُّ مثل هذا الرأي سمة تقتصر على وجهة نظر العلّامة السويسري؛ إنّه أعرب بوضوح أكثر عن الرأي السائد في تلك الحقبة التاريخية فحسب، والذي انعكس حتى على يوسف ستالين.

بطبيعة الحال، استمرت وجهات نظر دي سوسير تجاه اللغة والكلام بشكل أو آخر بصورة واضحة في السنوات التي كان فيها ميخائيل باختين في مدينة سارانسك يعمل على كتاب «مشكلة أنواع الكلام». وكانت دراسة اللغة بالمعنى السوسيري آنذاك ذلك وبعد ذلك بوقت قصير تمضي إلى الأمام وتمارس تأثيراً ملحوظًا على اللسانيات بما في ذلك اللسانيات السوفييتية. وأحد أوضح الأمثلة – هو النموذج الشعبي عندنا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، نموذج «المعنى ↔ النص»، الذي وضعه إيغور ميلتشوك. بالنسبة له «لوصف لغة معينة (أو جزء منها) ينبغي أن تبني لها (أو لجزئها) نموذجًا من نمط «المعنى ↔ النص» [16: 5]. «ينبغي طرح نموذج "المعنى↔  النص" بصورة شكلية تمامًا - بواسطة صياغات واضحة ومترابطة من الناحية المنطقية ولا تتطلَّب معلومات إضافية. وبصفة معيار للتحقق تُطرح إمكانية التنفيذ المبدئي للنموذج أو أي جزء من أجزاءه على آلة حاسبة» [16: 20]. ومع هذا توضَع باستمرار أطر معينة. و«بما أن اللغوي لا يعمل بهذه الطريقة - على الأقل في الوقت الحاضر - لا ينبغي أن يشغل نفسه بالأبحاث الفيزيولوجية العصبية (العصبية والكيميائية العصبية وما شابهها) لما يحدث بالضبط في الدماغ عند التحدث أو الفهم، طالما أنَّ محوّل اللغة (المترجم الآلي) يأخذ بالنسبة للسانيات دور "الصندوق الأسود" المعروف» [16: 13]. «يُصَمَّم نموذج اللغة بصورة وظيفية بحتة، من دون محاولات لربط نموذجنا مع الواقع النفسي (العصبي، إلخ) للسلوك الكلامي» [16: 27]. و«يُصَمَّم نموذج اللغة فقط في مخطط تحويل "النص ↔ المعنى" من دون حساب الوظائف الأخرى للغة وصلاتها التاريخية والاجتماعية وما شابهها» (المرجع نفسه). وبالطبع، لا يجري الحديث هنا عن شيء مشابه لأنواع الكلام. كل هذا متطابق تماماً مع ـموقف فردينان دي سوسير.

ومن الصعب القول كيف كان سيؤثر كتاب «مشكلة أنواع الكلام» على تطور علم اللغة في بلادنا لو أنَّه قد نُشر سابقًا في وقت تأليفه. ومع ذلك، في الوقت الذي صدرت فيه الطبعة الأولى من كتاب «مشكلة أنواع الكلام» في عام 1978، بدأ الوضع في اللسانيات في التغير. ففي السبعينيات من القرن الماضي تطورت بشكل فعّال المواد الجديدة التي «برزت في مقدمتها مسائل دراسة التواصل» [17: 19]، بما في ذلك لسانيات النص ونظرية أفعال الكلام والتداولية وتحليل الخطاب...

وصِفَت المرحلة الجديدة في تطوّر علم اللغة بشكل واضح في عمل ألكساندر كيبريك «مسلَّمات اللسانيات»، الذي تقدم به أول مرة بصورة بحث في عام 1982 وصدر في كتاب بعد عام من ذلك. فقد اعتبر أنَّ من الضروري «توسيع حدود علم اللغة وجعلها أقرب إلى العلوم الإنسانية الأخرى... فكل ما يتعلق بوجود اللغة وأدائها يقع ضمن اختصاص اللسانيات... وإنَّ ما يُعَدُّ "غير لسانيٍّ" في مرحلة ما يدخل ضمن اللسانيات في مرحلة لاحقة» [18: 20]. لا يوجد شيء يمكن تأجيله بشكل متعمد «لوقت لاحق»، وليس ثمة حدود تُقام مسبقًا. أما بالنسبة إلى فردينان دي سوسير فكان الشيء الأساسي هو وضع حدود بين اللسانيات و«اللالسانيات»، ورفض «فتح الأبواب للعلوم الأخرى».

الآن، في بلادنا ثمة محاولات لدراسة طريقة أداء اللغة في إطار عدة اتجاهات مختلفة إلى حد ما. ويستخدم أحيانًا مصطلح عام للإشارة إلى هذه الاتجاهات هو «مذهب الوظيفية». وتطور بشكل فعّال علم التصنيف وعلم الدلالة. وأصبح مهمًا بشكل خاص دور دراسة ما يسمى لوحة العالم اللغوية: وبرزت مسألة دراسة لوحات العالم الوطنية الخاصة بالناطقين بهذه أو تلك من اللغات، وتحديد ارتباط اللغة بالثقافة والأخلاق. وهذا يعني، مرة أخرى أنَّ البحث في اللغة يجري عن «البيانات المتعلقة بأخلاق ومؤسسات الأشخاص الذين يستخدمون هذه اللغة»، وهو الأمر الذي حذَّر منه فردينان دي سوسير. وأخيرًا، إلى حد أكبر من ذي قبل، تحول العلم إلى كل ما يحدث «في الواقع»، إلى العمليات الحقيقية لتوليد الكلام واستيعابه، وتطورت اللسانيات النفسية واللسانيات العصبية، التي أغفلها من قبل إيغور ميلتشوك. والآن، على عكس ما كان في الستينيات والسبعينيات يعتبر هذا كله جزءًا أساسيًا من اللسانيات. وبلا شك، فإن نظرية أنواع الكلام المبنية على أفكار ميخائيل باختين هي أيضًا من بين مجالات اتجاه الوظيفية الذي يتطور بشكل فعال.

ولكن في الوقت نفسه، هناك اتجاهان متعاكسان لكنهما متعايشان في كثير من الأحيان. فمن ناحية، نرى سعيًا من أجل الصرامة العلمية، وخاصة في البحوث التجريبية والتطبيقية، أما في الدراسة اللسانية البحتة لأداء اللغة فيسعى الباحثون أيضًا إلى الاعتماد على بعض الخصائص الثابتة، التي تشمل بالطبع أنواع الكلام، والتي أشار إليها ميخائيل باختين من قبل. ومن ناحية أخرى، انخفض لدى العديد من اللغويين، مقارنة بالمدة السابقة، مستوى الدقة العلمية. ولا يقتصر الأمر على عدم تطبيق الرياضيات في اللسانيات الذي بدا قريبًا جدًا في الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بل في كثير من الأحيان لا تُطرح مسألةٌ لتطوير أيِّ طريقةٍ صارمة ودقيقة. وبطبيعة الحال، فإن إضفاء الطابع الشكلي على التداولية أو العمليات الإدراكية مهمةٌ صعبةٌ للغاية بسبب تعقيد الموضوع نفسه، ولكن الكلام لم يعد يجري حتى عن الحد الأدنى من الدقة. وإذا ما كان هدف إيغور ميلتشوك وآخرين هو تحقيق الدمج الكامل والثابت للسانيات في العلوم الطبيعية، فقد أصبحت الآن الجوانب الإنسانية هي المهيمنة بشكل حاسم.

تختلف المبادئ العلمية التي يهتدي بنورها بعض العلماء الإدراكيين والباحثين الروس في مجال لوحة العالم عن المبادئ التي انطلق منها دي سوسير وغيره من الباحثين. إنهم يبحثون عن صله لغة أو أخرى بالمبادئ الأخلاقية، وتحديد الموقف تجاه حياة الناطقين باللغة الروسية أو الإنجليزية أو غيرها من اللغات من خلال البيانات اللغوية، ويرغبون في معرفة روح شعب بأكمله على أساس اللغة. هل مثل هذه المسائل قابلية للحل أم أن هذا مثال آخر على «الاندفاع إلى الأمام»؟ كان علم اللغة في القرنين الأخيرين يطرح باستمرار مسائل عالمية كونية لم تتوفر حلول لها من خلال القدرات الموجودة في ذلك الوقت. ففي فترات مختلفة كانت الأهداف هي إعادة بناء «اللغة البشرية الأولى» أو على الأقل اللغة التي كان يتحدث بها الهندو - أوروبيون، وتحديد «مراحل التفكير الإنساني» من خلال علم الصرف أو النحو، وإضفاء الطابع الشكلي الكامل على اللغة التي يمكن من خلالها نقل دراستها إلى الآلة الحاسبة، وغير ذلك من الأمور الكثيرة. وبعد ذلك، مع تطور العلم، أُقِرَّ بأن هذه المسائل كلها لا يمكن حلها، ولكن أثناء السعي خلف السراب، اكتشف العلم شيئاً آخر، أقل شمولية. ألا يُتَوَقّع أن يهبنا القدر يومًا أنْ نعرف حتى روح الشعب اعتمادًا على المعطيات اللغوية؟

ولكن على أي حال، اللسانيات الوظيفية في روسيا الحديثة بعيدة كل البعد عن المبادئ التي انطلق منها فردينان دي سوسير. وثمة مكانة مهمة بين أتباع مذهب الوظيفية يشغلها اليوم بلا شك ميخائيل باختين.

 

الهوامش:

نبذة عن المؤلف: ألباتوف فلاديمير ميخائيلوفيتش، دكتور في اللغة والأدب، أستاذ، عضو مراسل في الأكاديمية الروسية للعلوم. مكان العمل: معهد اللسانيات في أكاديمية العلوم الروسية، مدير. E-mail: v-alpatov@ivran.ru

2 - لا أريد العودة إلى قضية تأليف الكتاب التي كتبتُ عنها كثيرًا. ولكنني أعتقد أنه من ناحية، لا توجد أسس مقنعة لإنكار تأليف فالنتين نيكولايفيتش فولوشينوف للكتاب. ومن ناحية أخرى، من المرجح أن يحتوي الكتاب على أفكار اقترحها ميخائيل باختين. ولكن من المهم، كما كتب ميخائيل باختين نفسه في رسالة إلى فاديم كوجينوف في 10 كانون الأول (يناير) من عام 1961 [8: 128]، أنه كان وفالنتين فولوشينوف لديهما «تصور مشترك عن اللغة والنتاج الكلامي». وفي الوقت نفسه، لا ينبغي للمرء أن يطابِق بالكامل أفكار كتاب عام 1929 وكتاب «مشكلة أنواع الكلام»، وهو أمر يخص، على سبيل المثال، التعليقات في الكتابين [1؛ 9]. إذ توجد تباينات بينهما، والتي يمكن تفسيرها إما من خلال الاختلافات في وجهات نظر ميخائيل باختين وفالنتين فولوشينوف، أو (على الأرجح) من خلال تطور آراء ميخائيل باختين. وأحد نقاط الاختلاف الواضحة بينهما هي الموقف المختلف من آراء فردينان دي سوسير. (الهامش للمؤلف).

3 - قدَّمنا اقتباسات من كتاب «مشكلة أنواع الكلام» مع الإشارة إلى رقم الصفحة فقط من طبعة:

Бахтин М. М. Автор и герой. К философским основам гуманитарных наук. СПб. : Азбука, 2000. 337 с. [9].

 (الملاحظة من المؤلف)

4 - قارن أفكار سيشهاي عن كون كل التغييرات تجري في "الكلام المنظَّم"، والتي يدخل جزء منها فقط فيما بعد إلى اللغة [10]. (المؤلف).

قائمة المراجع:

1 - Бахтин М. М. Проблема речевых жанров. Из архивных записей к работе «Проблема речевых жанров». Проблема текста // Бахтин М. М. Собр. соч. : В 5 т. М. : Языки русской культуры, 1996. Т. 5. Работы 1940-х начала 1960-х годов. С. 159–206.

2 -  Смирницкий А. И. Объективность существования языка. М. : Изд-во Московского ун-та, 1954. 33 с.

3- Соссюр Ф. де. Курс общей лингвистики //      Соссюр Ф. де. Труды по языкознанию. М. : Прогресс, 1977. 695 с.

4 - Якубинский Л. П. Ф. де Соссюр о невозможности языковой политики // Языковедение и материализм. Вып. 2. М., 1931. С. 23–67.

5- Холодович А. А. Ф. де Соссюр // Соссюр Ф. де. Труды по языкознанию. М. : Прогресс, 1977. С. 9–30.

6- Балли Ш. Язык и жизнь. М. : URSS, 2003 [1913]. 232 с.

7- Волошинов В. Философия и социология гуманитарных наук. СПб. : Аста-Пресс Ltd., 1995 [1929]. 382 с.

8 -Из переписки М. М. Бахтина и В. В. Кожинова (1960–1966) // Диалог. Карнавал. Хронотоп. 2000. № 3–4. С. 180–200.

9- Бахтин М. Автор и герой. К философским основам гуманитарных наук. СПб. : Азбука, 2000. 337 с.

10 - Сеше А. Три соссюровских лингвистики // Звегинцев В. А. История языкознания XIX и XX веков в очерках и извлечениях. Ч. II. М.: Просвещение, 1965 [1940]. С. 60–84.

11 -Алпатов В. М. Из истории лингвистики. Гардинер и Волошинов // Языки мира. Типология. Уралистика. Памяти Т. Ждановой. М. : Индрик, 2002. С. 15–22.

12 -  Алпатов В. М. Волошинов, Бахтин и лингвистика. М.: Языки славянских культур, 2005. 432 с.

13 - Gardiner A. The Theory of Speech and Language. Oxford: Oxford Univ. Press, 1932. 332 p.

14 - Brandist C. On the Philosophical Sources of the Bakhtinian Theory of Dialogue and the Utterance // Bakhtin and his Intellectual Ambience. Gdańsk: University of Gdańsk, 2002. P. 43–61.

15 - Сталин И. В. Марксизм и вопросы языкознания. М.: Политиздат, 1950. 114 с.

16 - Мельчук И. А. Опыт теории лингвистических моделей «Смысл ↔Текст». Семантика, синтаксис. М.: Наука, 1974. 256 с.

17 - Николаева Т. М. Лингвистика текста. Современное состояние и перспективы // Новое в лингвистике. Вып. VIII. Лингвистика текста. М. : Прогресс, 1978. С. 5–42.

18 - Кибрик А. Е. Лингвистические постулаты // Кибрик А. Е. Очерки по общим и прикладным вопросам языкознания. М. : Изд-во МГУ, 1992 [1983]. 336 с.

               

REFERENCES

1 -  Bakhtin M. M. Problema rechevykh zhanrov [The Problem of speech genres]. Bachtin M. M. Sobranie sochinenij: v 5 t. [Collected works: in 5 vol.]. Vol. 5. Мoscow, 1996, pp. 159–206.

2 -  Smirnitskiy A. I. Ob'yektivnost' sushchestvovaniya yazyka [Objectiveness of existence of the language]. Moscow, 1954. 33 p.

3 - Saussure F. de. Kurs obshchey lingvistiki [Course of General Linguistics]. Saussure F. de. Trudy po yazykoznaniyu [Works on linguistics]. Moscow, 1977. 695 p.        

4 -  Yakubinskiy L. P. F. de Sossyur o nevozmozhnosti yazykovoy politiki [F. de Saussure about the impossibility of language policy]. Yazykovedeniye i materializm [Linguistics and materialism]. Iss. 2. Moscow, 1931, pp. 23–67.

5 - Kholodovich A. A. F. de Sossyur [Ferdinand de Saussure]. Saussure F. de. Trudy po yazykoznaniyu [Works on linguistics]. Moscow, 1977, pp. 9–30.

6 -  Balli Sh. Yazyk i zhizn' [Language and life]. Moscow, 2003 [1913]. 232 p.

7 -  Voloshinov V. Filosofiya i sotsiologiya gumanitarnykh nauk [Philosophy and Sociology Humanities]. St.-Petersburg, 1995. 382 p.

8 -  Iz perepiski M. M. Bakhtina i V. V. Kozhinova (1960-1966) [From the correspondence of Mikhail Bakhtin and V. V. Kozhinov (1960-1966)]. Dialog. Karnaval. Khronotop [Dialogue. Carnival. Chronotope]. 2000, no. 3–4, pp. 180–200.

9 -  Bakhtin Mikhail. Avtor i geroy. K filosofskim osnovam gumanitarnykh nauk [Author and hero. By the philosophical foundations of the humanities]. St.- Petersburg, 2000. 337 p.

10 - Seshe A. Tri sossyurovskikh lingvistiki [Three Saussurian linguistics]. Zvegintsev V.A. Istoriya yazykoznaniya XIX i XX vekov v ocherkakh i izvlecheniyakh [History of linguistics XIX and XX centuries in the essays and extracts]. Part II. Moscow, 1965, pp. 60–84.

11 - Alpatov V. M. Iz istorii lingvistiki. Gardiner I Voloshinov [From the history of linguistics. Gardiner and Voloshinov]. Yazyki mira. Tipologiya. Uralistika. Pamyati T. Zhdanovoy [Languages of the World. Typology. Uralic. Memory T. Zhdanova]. Moscow, 2002, pp. 15–22.

12 -  Alpatov V. M. Voloshinov, Bakhtin i lingvistika [Voloshinov, Bakhtin and Linguistics]. Moscow, 2005. 402 p.

13 - Gardiner A. The Theory of Speech and Language. Oxford, 1932. 332 p.

14 - Brandist C. On the Philosophical Sources of the Bakhtinian Theory of Dialogue and the Utterance. Bakhtin and his Intellectual Ambience. Gdańsk, 2002, pp. 43–61.

15 -  Stalin I. V. Marksizm i voprosy yazykoznaniya [Marxism and Problems of Linguistics]. Moscow, 1950. 114 p.

16 - Mel'chuk I. A. Opyt teorii lingvisticheskikh modeley «Smysl ↔ Tekst». Semantika, sintaksis [Experience of linguistic models of the theory of «Meaning ↔ Text». The semantics, syntax]. Moscow, 1974. 256 p.

17 -  Nikolayeva T. M. Lingvistika teksta. Sovremennoye  sostoyaniye i perspektivy [Text Linguistics. Current state and prospects]. Novoye v lingvistike [New in linguistics]. Iss. VIII. Lingvistika teksta. Moscow, 1978, pp. 5–42.

18 - Kibrik A. Ye. Lingvisticheskiye postulaty [Linguistic postulates]. Kibrik A. Ye. Ocherki po obshchim i prikladnym voprosam yazykoznaniya [Essays on general and applied linguistics issues]. Moscow, 1992 [1983]. 336 p.   

وصف ببليوغرافي للمادة

                               

ف. م. ألباتوف، سوسير وباختين // أنواع الكلام. عام 2016.

1.С. 9–17. DOI: 10.18500/2311-0740-2016-1-13-9-17

FOR CITING

Alpatov V. M. Saussure and Bakhtin. Speech genres, 2016,

no. 1, pp. 9–17. DOI: 10.18500/2311-0740-2016-1-13-9-17.

)in Russian(.


عدد القراء: 4083

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-