السياسة اللغوية في روسيا والعالمالباب: مقالات الكتاب
أ. د. تحسين رزاق عزيز أستاذ في جامعة بغداد |
السياسة اللغوية في روسيا والعالم1
ترجمة: أ. د. تحسين رزاق عزيز
بقلم: فلاديمير ميخائيلوفيتش ألباتوف2
يمكن أنْ تُحَدَّد السياسة اللغوية في دولة معيَّنة من خلال عوامل مختلفة، قد تكون مقصودة أو عفوية. لكنها دائمًا مرتبطة ارتباطًا موضوعيًّا بحاجتين اثنتين، إنسانيتَين طبيعيتَين وفي الوقت نفسه متعاكستَين، اللتين أسميهما الحاجة إلى الهوية والحاجة إلى التفاهم المتبادل.
الحاجة إلى الهوية تكمن في أنَّ «الأكثر راحة لكلٍّ مِن المجتمع والفرد، على حد سواء، أنْ تُستَعمل لغة واحدة، أصلية في الغالب، ومُستَوعَبَة في مرحلة الطفولة، حتى لا تكون ثمة حاجة لبذل الجهود اللازمة لاستيعاب لغة ثانية وثالثة» [ميخالتشينكو، Михальченко 1994: 223]. سأستعمل مصطلح «اللغة الأم»، لأنَّ مصطلح «اللغة الأصلية» مصطلح متعدد المعاني. والحالة القصوى لتلبية الحاجة إلى الهوية – أحادية اللغة.
قد يمتلك مفهوم اللغة الأم، وإنْ لم يكن دائمًا، معنى اجتماعيًا كذلك. وهي في معظم الأحيان - اللغة الخاصة بالعِرق المعيَّن، وبالثقافة المعيَّنة. ويرتبط استخدام اللغات الأخرى بالشعور بالدونية العرقية والثقافية وفي كثير من الأحيان بالدونية الاجتماعية أيضًا. وبالطبع، يُحتَمَلُ كذلك العامل التعويضي - المتمثل المكانة غير الاعتيادي للغة الغريبة.
وتكمن الحاجة إلى التفاهم المتبادل في أنه في حالة الحوار اللغوي، يرغب كلّ واحد من المشاركين فيه من أجل النجاح في التواصل مع المحاورين من دون عوائق. إنَّ فِهمَ اللغة شرطٌ ضروري لمثل هذا النجاح. في حالة وجود لُغَتَين أُمَّين مختلفتَين لدى المتحاورَين، يجب أن يكون أحدهما على الأقل ثنائيي اللغة (أو في حالة المترجم، يُضاف المشارك الثالث، الثنائي اللغة).
كلتا الحاجتَين لا تتناقضان مع بعضهما البعض، وتُرتَضيان تلقائيًا في المجتمع الأحادي اللغة تمامًا فقط. انتشرت مثل هذه المجتمعات في الماضي، عندما كانت هناك مجتمعات مغلقة، لا تتواصل مع بعضها البعض. ولكن الآن هذه تُعَدّ هذه الحالة استثناءً نادراً. فحتى أكثر البلدان تجانسًا من الناحية العرقية (اليابان، أيسلندا) فيها بعض الأفراد يمتلكون لغة أُمًّا أخرى (وإن كانوا من المهاجرين)، وفي كل مكان ثمة حاجة ملحة للحوار بين الشعوب. وتتعقد الحالة أكثر إذا أخذنا في الاعتبار عدم تجانس اللغات: اللغة القياسية (الأدبية)، واللهجات، والعامّيات الدارجة وما إلى ذلك. ففي اليابان نفسها، قد يكون تنوّع أشكال اللغة اليابانية له اختلافات كبيرة، ربما، تؤدي إلى سوء فهم متبادل.
وعدم وجود لغة مهيمنة (حالة سويسرا). وفي معظم الأحيان هناك لغة واحدة، مهيمنة من وجهة نظر وظائفها على جميع اللغات الأخرى، والعديد من لغات الأقليات. ففي أوروبا وأمريكا وفي بعض دول آسيا وشمال إفريقيا، تكون اللغة السائدة - لغة الأكثرية من سكان البلاد؛ ومع ذلك، قد تكون هذه ليست لغة أكبر المجموعات العرقية (إندونيسيا)، وفي العموم ليست اللغة الأم لأحد الأعراق (اللغة الإنكليزية أو اللغة الفرنسية في عدد من بلدان أفريقيا). وإذا ما حُدِّدَت حالة هذه اللغة بموجب القانون، فسوف تكون لغة الدولة. وقد لا تكون هيمنة لغة معينة معزَّزة من الناحية القانونية، ومع ذلك لا تؤثر على وظيفتها الحقيقية (الإنكليزية في المملكة المتحدة وفي معظم الولايات المتحدة الأمريكية). وقد تكون حالة لغات الأقليات هي أكثر اختلافاً، وتُحَدَّد من خلال السياسة اللغوية القومية المعتمدة في الدولة.
اللغة المسيطرة بحكم الأمر الواقع. حدثت هذه السياسة القاسية بشكل خاص خلال حقبة التصنيع وتطوير السوق، التي جرت في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين. «إن احتياجات التحوّل الاقتصادي تحدد من تلقاء نفسها لغة البلد المعيَّن، التي تعود معرفتها بالنفع على الأغلبية في صالح العلاقات التجارية» [لينين ب، Ленин б 1965: 424]؛ وقدمت الدولة الدعم لمثل هذه اللغة. وقُدِّرَ للقسوة السياسية أنْ تتحقق بطرق مختلفة، مع أنَّ درجتها لم تتطابق مع مستوى التطور، ولا مع درجة الطابع الديموقراطي. ففي فرنسا في ذلك الوقت، كان يُسمح، في المجال الرسمي، باللغة الفرنسية القياسية فقط، وفي بريطانيا العظمى، تعرض تلاميذ المدارس الأيرلندية والويلزية للضرب بسبب تحدثهم بلغتهم الأصلية. وقد أدت السياسة البريطانية المتشددة إلى جعل اللغة الإيرلندية حتى في إيرلندا المستقلة لا تستطيع في التواصل الحقيقي أنْ تنافس اللغة الإنكليزية. أما في النمسا والمجر الأقل تطورًا وديمقراطية، فكانت لغات الأقليات تتمتع بحقوق أكثر. وفي الولايات المتحدة، في ظل غياب الإجراءات الإدارية المباشرة، حلَّ محلها بنجاحٍ مفهومُ «بوتقة الانصهار»، وأجبرت «متطلبات الدورة الاقتصادية» المهاجرين (على الأقل الذكور من بينهم) على إتقان اللغة الإنكليزية. وربما، تجلت السياسة الأكثر صرامة تجاه العديد من لغات الأقليات في روسيا، خاصة خلال مدة حكم ألكسندر الثاني الليبرالية، على ما بدا الحال: في سبيل المثال، في 1876-1905 حُظِر نشر أي مؤلفات باللغة الأوكرانية، ونُحِّيَت اللغة البولندية من المؤسسات التعليمية ومن أيِّ مجال رسمي. وفي الوقت نفسه، في روسيا (على عكس بريطانيا العظمى وفرنسا)، اجتمعت السياسة الصارمة مع العدد الكبير من المتحدثين بلغات الأقليات، وبالنسبة للكثيرين، اجتمعت مع الوعي الذاتي القومي المتطور.
في حالتين قطبيتين. كان ظهورها ممكنًا في ظل التوازن المعيَّن بين المجموعات العرقية، كما كان الحال في سويسرا. فقد نشأت هذه الدولة «من الأسفل»، في الأساس في شكل اتحادٍ من كانتونات أحادية اللغة. هنا، مثلاً، كان للمواطن من الكانتون الذي يتحدث باللغة الفرنسية الحق في عدم التحدث باللغة الألمانية (ذات العدد الكبير من المتحدثين بها)، ويجب على كل مسؤول حكومي أنْ يجيب باللغة الألمانية أو الفرنسية أو الإيطالية، اعتمادًا على اللغة التي يُخاطَب بها. وقد أثَّرت التجربة السويسرية بشكل كبير على السياسة اللغوية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.
الحالة الأخرى من الدعم الحكومي للغات الأقليات كانت مرتبطة بمبدأ «فرق تسد». دعم الفرنسيون في مستعمرات شمال إفريقيا اللغات الأمازيغية لمنع تعريب البربر [روس، Ross 1979: 7]، وفي جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، أُدخِلَ التعليم الأحادي اللغة باللغات الأم خصيصًا للأفارقة حتى لا يكتسبوا لغات البِيض ولا يتحدوا مع بعضهم البعض [Trudgill, 1983: 156; Skutnabb- Kangas, 1983: 66–67].
وفي المجال نفسه تحددت سياسة أخرى أكثر ليبرالية تمثلت في الموقف من اللغة الأوكرانية في النمسا والمجر مقارنة بالموقف منها في روسيا: إذ رأت الحكومة القيصرية فيها «لهجة» من لهجات اللغة الروسية، وسعت إلى الإسراع في دمجها باللغة الروسية، بينما دعمت الحكومة النمساوية اللغة الأوكرانية، خشية من ازدياد قوة اللغة البولندية.
على الولايات المتحدة، وكذلك على اليابان، اللتين كان لا يزال التركيز فيهما على هيمنة اللغتين الإنكليزية واليابانية، على التوالي. فالفكرة السائدة في الولايات المتحدة، حتى الآن، هي أنَّ أحادية اللغة يجب أن تكون القاعدة، وبطبيعة الحال، هي اللغة الإنكليزية. ترتبط ثنائية اللغة (وحتى أكثر من ذلك، أحادية اللغة في اللغة الأخرى) بالفقر وبعدم القدرة على النجاح في المجتمع الأمريكي. ووفقاً لذلك تُوجَّه سياسة الدولة نحو الاندماج اللغوي والثقافي. مما لا شك فيه أنَّ المفهوم التقليدي لـ«بوتقة الانصهار» والدور العام للغة الإنكليزية، التي تنتشر في كل مكان من خلال وضع العالم الحديث بأكمله، لهما تأثيرهما القوي. يحاول ممثلو أكبر أقلية لغوية (الأمريكيون الناطقون باللغة الإسبانية) تقوية مكانة لغتهم، وردًا على ذلك أُعلِنَت اللغة الإنكليزية في عدد من الولايات، وخاصة تلك التي تنتشر فيها اللغة الإسبانية على نطاق واسع، لغة حكومية [Donahue، 1995]. وتُتَّيَع سياسة مماثلة في كندا (التي، مع ذلك، يتعين عليها أن تحسب حساباً للأقلية اللغوية الكبيرة - للكنديين الفرنسيين في كيبيك) وفي بريطانيا العظمى كذلك. في جميع هذه البلدان (باستثناء الأجزاء الناطقة بالفرنسية من كندا)، لا تهدف سياسة اللغة إلى دعم لغات الأقليات التقليدية أو لغات المهاجرين. وفي بريطانيا العظمى، حتى اللغات الأجنبية، التي كانت معرفتها أعلى من المعتاد في الولايات المتحدة، مستبعدة من قائمة المواد الدراسية الإجبارية. لم يعد الجيل الثالث، وأحيانًا حتى الجيل الثاني، من المهاجرين هناك يعرفون أيَّ لغة أخرى غير الإنكليزية، والأسوأ من ذلك كله، تستمر لغات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية في الانقراض. وقد انقرضت بالفعل، في النصف الثاني من القرن العشرين، لغة الأقلية الأصلية الوحيدة في اليابان - لغة الأينو.
تسود الآن سياسة مختلفة في دول أوروبا القارية، حيث تُتَّخَذ تدابير مختلفة لحماية لغات الأقليات الصغيرة، بما في ذلك الدعاية لهذه اللغات بين المجموعات العرقية المعنية. وتُعَدّ معرفة هذه اللغات من الرِّفعة (وما يستحق التباهي به). لا تزال لغات مثل الفريزية3 والرومانشية4 ولغة السامي5 قابلة للاستعمال.
تتبع بعض البلدان ذات اللغة الإنكليزية السائدة المسار نفسه: أستراليا ونيوزيلندا. في هذين البلدَين، تُعَدّ ثنائية اللغة وتعدد اللغات هي القاعدة. في سبيل المثال، في أستراليا في عام 1973، تبنت حكومة حزب العمال برنامج ثنائية اللغة الشاملة، وبموجبه يجب أن يتحدث كل مواطن لغتين: اللغة الإنكليزية واللغة الأم، إذا كان مهاجراً أو من السكان الأصليين، واللغة الإنكليزية ولغة أجنبية إذا ما كانت اللغة الإنكليزية هي لغته الأصلية [Bullevant, 1995]. ولكن، بالطبع، ليس بمقدور أيّ إجراءات أن تجبر الناس على التحدث بلغة صغيرة خارج دائرة عرقية ضيقة، فهذه اللغات تلعب دورًا رمزيًا بشكل أساس.
وبالنسبة للغات الكبيرة، يصبح الانتشار الدولي عاملاً سياسيًا، مما يعزز التأثير الاقتصادي والأيديولوجي والثقافي للدولة المعنية؛ ويُنسَب هذا العامل إلى وسائل ما تسمى بالقوة الناعمة. ومن الأمثلة البارزة والمعروفة على نجاح مثل هذا المشروع - رابطة الدول الفرنكوفونية. ولكن، بطبيعة الحال، فإن الأكثر نجاحًا انتشار اللغة الإنكليزية، الذي يحدث بالتوازي مع نمو النفوذ الأمريكي.
يجب إيلاء اهتمام خاص لتاريخ السياسة اللغوية في روسيا. لقد ذكرنا في أعلاه الصرامة الشديدة للسياسة اللغوية القومية القيصرية. فعلى الرغم من أنها خُفِّفَت إلى حد ما بعد عام 1905، إلا أنها تسببت في استياء كبير بين المثقفين ذوي التوجهات القومية وبين معارضي النظام القيصري المستبد. فقد عبَّرَ عن أفكار متقاربة الليبراليون اليساريون، من أمثال بودوان دي كورتيني6، والثوريون، من أمثال فلاديمير لينين على حد سواء. في ظل بنية الدولة المرغوب فيها «لا تُعَدّ أيّ لغة لغةً حكومية وإلزامية لجميع المواطنين المتعلمين... ولكل مواطن الحق في التواصل مع المؤسسات المركزية للدولة بلغته. مهمة هذه المؤسسات المركزية إيجاد مترجمين من جميع اللغات وإلى جميع اللغات التي تشكل الدولة» [بودوان Бодуэн، 1906: 12-13]. «يقول الماركسيون الروس، أنَّ الضروري: انتفاء اللغة الحكومية الإجبارية وتوفير المدارس للسكان التي تدرس بجميع اللغات المحلية» [لينين Ленин، 1965 أ: 295]. بعد الثورة، بدأت هذه الأفكار تُطَبَّق على أرض الواقع. ولو غضَّينا الطرف عن سويسرا، فإنَّ المحاولة الأولى لبناء السياسة اللغوية على الحاجة إلى الهوية قد جرت في روسيا السوفيتية بعد ثورة أكتوبر. كانت السياسة الجديدة، التي سُعِيَ لبنائها على أساس المبادئ العلمية، تهدف إلى أن يتمكن الجميع، بغض النظر عن التبعية القومية، من استخدام اللغة الأم في جميع مجالات الحياة وارتقاء ناصية الثقافة العالمية من خلالها. وهذه السياسة ليس لها سابقة في العالم.
في الحكومة السوفيتية الأولى، أُنشئت مفوضية شعبية خاصة (وزارة) لشؤون القوميات (كانت موجودة حتى عام 1923)، وكان يرأسها يوسف ستالين. في وقت مبكر من فبراير (شباط) 1918 تعيَّنَ استخدام جميع اللغات المحلية في المحاكم. وفي حقبة الحرب الأهلية الأصعب، في أكتوبر (تشرين الأول) 1918، أصدرت المفوضية الشعبية (الوزارة) مرسوماً بشأن «مدارس الأقليات القومية». وبدأ، في الوقت نفسه، النشر المركزي للأدبيات في عدد كبير من اللغات. وفي عام 1921، اعتمد المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي قرارًا خاصًا بشأن السياسة القومية، والتي حددت مهمة ترجمة المحاكم، والإدارة، والهيئات الاقتصادية، والمسرح، وما إلى ذلك إلى لغات الأقليات. [الحزب الشيوعي السوفيتي КПСС، 1954: 559]. وهكذا، بعد ثورة أكتوبر، أصبحت روسيا أول دولة في العالم تضمن حقوق لغات الأقليات.
بالإضافة إلى التجربة السويسرية، تأثرت آراء القادة السوفييت بالوضع في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. ففي نفس المؤتمر عام 1921، قال مفوض الشعب: «لا ينبغي أن نتعارض مع التاريخ. من الواضح أنه إذا ما كانت العناصر الروسية لا تزال مهيمنة في مدن أوكرانيا، فبمرور الوقت لا مناص من بث الروح الأوكرانية في هذه المدن. فقبل أربعين عامًا، كانت ريغا مدينة ألمانية، ولكن نظرًا لأن المدن تنمو على حساب القرى، والقرية هي الحامي للأقوام، أصبحت ريغا الآن مدينة لاتفية بحتة. قبل خمسين عامًا، كانت جميع مدن المجر تحمل طابعًا ألمانيًا، والآن أصبحت مجرية. وسيحدث الشيء نفسه مع بيلاروسيا، التي لا يزال غير البيلاروسيين يسودون في مدنها» [ستالين Сталин، 1947: 49].
لم تكن ثمة مقاومة مباشرة تقريباً للسياسة الجديدة بعد نهاية الحرب الأهلية. ومع ذلك، واجه تنفيذها في روسيا السوفيتية، وبعد عام 1922 في الاتحاد السوفيتي، العديد من العقبات الموضوعية، التي أُدرِكَت واحدة منها فقط بجدية: التطور غير الكافي للعديد من اللغات، التي لم يكن لبعض منها لا كتابة (خط أبجدية) ولا قواعد معيارية. وللتغلب على هذا الموقف، نُفِّذَ نشاط هادف، أُطلِقَ عليه اسم البناء اللغوي. شارك فيه كبار اللغويين: يفغيني بوليفانوف، ونيكلاي ياكوفليف وآخرون. لقد ابتكروا أبجديات على أساس لاتيني للغات غير المكتوبة وللغات التي تحتوي على أبجديات لا تتوافق مع الوضع السياسي (كالأبجدية العربية، والمنغولية القديمة، وما شابهها)، فُضِّلَت الأبجدية اللاتينية لأنها الأكثر انتشارًا في العالم والأكثر حيادية (إذ ارتبطت السيريلية بسياسة العهد القيصري). وفي الأعوام 1929 - 1930 اقترحت مجموعة من العلماء برئاسة نيكولاي ياكوفليف مشروعاً لجعل كتابة اللغة الروسية بالحروف اللاتينية، ولكنه لم يُنَفَّذ لأنه لم ينَل موافقة قيادة الحزب. وبحلول منتصف الثلاثينيات ابتُكِرَت أبجديات مكتوبة لأكثر من سبعين لغة.
ومع ذلك، فإنَّ هذه الإجراءات التي تهدف إلى تلبية الحاجة إلى الهوية لم تأخذ دائمًا في الحسبان الحاجة الأخرى - التفاهم المتبادل. فإذا ما أصبحت ريغا في العشرينيات من القرن الماضي عاصمة لاتفيا، والمجر انفصلت عن النمسا، فإنَّ أوكرانيا وبيلاروسيا انضمَّتا مع روسيا في دولة واحدة، تزداد فيها المركزية كل عام. وداخل كل دولة، وخاصة دولة مركزية للغاية مثل الاتحاد السوفيتي، لابد من حتمية تلبية الحاجة إلى التفاهم المتبادل، فكانت اللغةُ الروسية اللغةَ الوحيدة القادرة، داخل الدولة السوفيتية، على تلبية هذه الحاجة في جميع أنحاء البلاد.
كثيرة. وفي كثير من الأحيان، حتى الأشخاص الذين لديهم رؤية شيوعية للعالم كانوا يتصرفون من دون وعي بشكل مخالف لسياسة الدولة. وقد واجه الشيوعيون الناطقون باللغة الروسية العاملون في الجمهوريات القومية (ذات القوميات غير الروسية) مهمة إتقان اللغات المحلية والتخلي عن اللغة الروسية. لكن في الواقع، لم يتحقق هذا أبدًا. وقد كتبَ يفغيني بوليفانوف، في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، أنَّ طلاب الجامعة الشيوعية للشغيلة في الشرق، التي دُرِّبَت فيها الكوادر القيادية للجمهوريات القومية، حاولوا إتقان اللغة الروسية، لكنهم لم يبدوا أيَّ اهتمام لدراسة الشكل القياسي (الأدبي) للغتهم الأم. ولم يتمكنوا من التعبير بلغتهم الأم عن «موضوعات تعلو على مستوى المحادثة المحدودة الأفق... لم يشارك التفكير اللغوي باللغة الأم في عملية الدراسة» [بوليفانوف Поливанов، 1927: 113 - 114]. يمكن مقارنة ملاحظات العلّامة مع ملاحظات المبشرين الذين حاولوا نشر المسيحية بين السكان الأصليين الأستراليين بلغاتهم الأم. فالطلاب الذين أتقنوا التعاليم المسيحية حاولوا إتقان اللغة الإنكليزية أيضًا، أما الذين لم يهتموا بأحد الأمرين فلم يهتموا بالقدر نفسه بالأمر الآخر. وفي اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، على عكس تنبؤات يوسف ستالين والتصريحات اللاحقة مثل: «كان على البروليتاريا الأوكرانية أن تتغلب على التحدث باللغة الروسية وتغلبت بالفعل إلى حد كبير» [دانيلوف Данилов، 1931: 9] في المناطق الصناعية في أوكرانيا، استمرت اللغة الروسية في الهيمنة.
في كثير من الأحيان تتناقض السياسة والحياة مع بعضهما البعض. ففي الاحتفال في الذكرى المئوية لوفاة بوشكين عام 1937، تُرجمت القصيدة المطولة «الغجر»، ورواية «ابنة النقيب»، وقصة «دوبروفسكي» إلى اللغة الغجرية [الثورة والقوميات Революция и национальности، 1937: 72]؛ فأثارت الدهشة من أنَّ غجر بوشكين تحدثوا أخيرًا بلغتهم الأم. وفي نفس الوقت تقريباً، اقتحمت مجموعة كبيرة من الغجر مبنى مفوضية الشعب للتعليم، وطالبوا بتحويل تعليمهم من اللغة الغجرية إلى اللغة الروسية [سوفيتكين Советкин، 1980: 41].
كان التحول في السياسة اللغوية في الاتحاد السوفيتي أمرًا لا مفر منه، على الرغم من أنه نُفِّذَ بالطرق القاسية المعتادة في البلاد في ذلك الوقت. كانت أولى علاماته – أنْ منَعَ يوسف ستالين في عام 1930 إدخال الكتابة بالحروف اللاتينية للغة الروسية. فقد أدرك مفوض الشعب السابق للقوميات الآن أنِّ الدولة الواحدة يجب أن تكون لها لغة توحد جميع مواطنيها. وفي كثير من النواحي، كان الأمر يتعلق بالعودة إلى سياسة العصر القيصري، على الرغم من أنَّ العودة الكاملة لم تعد ممكنة، وبقيت الشعارات الرسمية للمساواة بين اللغات.
منذ منتصف الثلاثينيات بدأ استبدال الأبجديات اللاتينية الجديدة بأبجدية سيريلية، واكتمل الانتقال بشكل أساس بحلول عام 1941. وبعد الحرب، أُحتُفِظَ بالكتابة بالأبجدية اللاتينية للغات دول البلطيق واللغة الفنلندية فقط. وفي الوقت نفسه، اتُّخِذَت تدابير من أجل إتقان عموم الشعب للغة الروسية. وقد أدّى مرسوم اللجنة المركزية للحزب ومجلس مفوضي الشعب (الحكومة) دورًا مهمًا «بشأن التدريس الإجبارية للغة الروسية في مدارس الجمهوريات والمناطق القومية» المعتمد في عام 1938. وفي العام التالي، صدر مرسوم خاص بشأن التدريب الإجباري للجنود من القوميات غير الروسية في الجيش بهذه اللغة. وكانت الحاجة إلى هذا الإجراء عشية الحرب واضحة. مما لا شك فيه أنَّ اللغة الروسية كانت ضرورية لكل من سعى على الأقل من أجل الحد الأدنى من التحرك الاجتماعي. ومع ذلك، بعد اعتماد المرسوم في عام 1938، أُغلِقَ عدد كبير من المدارس التي تدرس بلغات الأقوام الصغيرة، وعندما تحولت اللغات إلى الكتابة بالأبجدية السيريلية، فقدَ ما لا يقل عن 12 شعبًا الأدبيات التي كُتِبَت قبل ذلك في لغتهم.
منذ ذلك الحين، لم تتغير أسس السياسة اللغوية القومية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية حتى الثمانينيات. وأُبقِيَ على الشعارات القديمة، وفي بعض المجالات (كالأدب، ونشر الكتب والصحف) دعمت الدولة تطوير لغات الأقليات. غير أنَّ العملية الرائدة كانت نشر اللغة الروسية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي القومية وغيرها من الكيانات القومية. وقد ازداد عدد المدارس الروسية على حساب التدريس باللغات الأخرى. استمرت هذه العملية بسرعة كبيرة خلال السنوات التي كان فيها اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية بقيادة نيكيتا خروشيف، الذي اعتقد أنَّ مع التحول إلى الشيوعية، يجب محو الاختلافات بين الناس، بما في ذلك الاختلافات اللغوية. وفي الوقت نفسه، من الناحية الرسمية، لم تكن اللغة الروسية داخل البلد بأكمله تسمى لغة الدولة: إذ لم تُنسَ وجهة النظر التي عبر عنها فلاديمير لينين في ظروف تاريخية مختلفة.
ومع ذلك، لا يمكن الافتراض، كما يحدث أحيانًا الآن، أنَّ جميع السكان غير الروس في البلاد لم يقبلوا مثل هذه السياسة وقاوموها. فقد كانت معرفة اللغة الروسية، بالطبع، ضرورية ومفيدة في الحياة. فمن المُلاحَظ، أنه عندما حصل الآباء، في عام 1958، في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، على الحق في اختيار المدرسة لأطفالهم، زاد عدد الطلاب في المدارس الروسية على الفور على حساب المدارس القومية. ومع ذلك، قد يكون المثقفون ذوو التوجهات القومية غير راضين عن الانتشار القسري للغة الروسية؛ وفي بعض الأماكن، لا سيما في دول البلطيق وأوكرانيا الغربية، كان لهذا السخط قاعدة واسعة. كانت التناقضات بين الحاجتين متوغلة في الأعماق، وقد احتوت على خطر محتمل، خاصة وأنَّ السياسة اللغوية السوفيتية أصبحت تدريجيًا أقل اتساقًا وجرت إلى حد كبير من خلال قوة الاستمرار. وفي الثمانينيات تكشَّفت التناقضات وخرجت إلى العلن.
خلال سنوات «البيريسترويكا»7، كان أحد أهداف الحركات القومية إزاحة اللغة الروسية من الحياة اليومية واستبدالها بلغات أخرى في وظائف معينة. كانت هذه الحركات موجودة في كل من روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي الأخرى. وكانت الإجراءات التي اتخذتها السلطات ذات طبيعة دفاعية. أحد هذه الإجراءات إعلان اللغة الروسية في عام 1990 لغةً رسمية؛ ولم يستطع هذا الإجراء المتأخر أنْ يعطي نتائج ملموسة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وظهور 15 دولة جديدة معترف بها دولياً على أراضي الاتحاد السابق، اتخذت المواقف اللغوية والسياسة اللغوية فيها مسارات مختلفة. ففي 13 جمهورية منها، ما عدا بيلاروسيا وروسيا نفسها، هناك عملية عامة لإزاحة اللغة الروسية من خلال ما يسمى باللغات الرئيسة، وتَمثّل أساس السياسة اللغوية للدولة بتنظيم الإزاحة. والعملية مستمرة، ولكن بسرعات مختلفة، وسياسة الدولة لديها درجات مختلفة من الشدة، التي تتحدد في المقام الأول من خلال موقف النخبة القومية التي وصلت إلى السلطة تجاه اللغة الروسية. ففي تركمانستان، التي كان فيها مستوى إتقان هذه اللغة منخفضاً في العهد السوفييتي، يبدو أن عملية إزالة اللغة الروسية قد اكتملت، وغادرت البلادُ الفضاءَ الثقافي الروسي. وفي جمهوريات البلطيق، التي احتفظت فيها النخبة بثبات باللغات العرقية وتميزت «بالحساسة تجاه اللغة الروسية»، في ظل إزاحة كاملة لها عن المجالات الرسمية، بقيت اللغة الروسية تُستخدم في الأعمال التجارية والتواصل غير الرسمي. لقد تضاءلت «الحساسية»، ولكن الجيل الذي نشأ في ظل الاستقلال لا يُتقن اللغة الروسية بشكل جيد. وفي آسيا الوسطى (باستثناء تركمانستان)، حيث كانت النخبة في العقود السوفيتية الأخيرة تتحدث باللغة الروسية إلى حد كبير، كانت عملية إزاحة اللغة الروسية تسير بشكل أبطأ وبعيدة عن أنْ تكتمل.
الوضع في أوكرانيا معقَّد للغاية. وحتى قبل الاستقلال كان متباينًا في مناطق مختلفة: هيمنة اللغة الأوكرانية في الغرب واللغة الروسية في الشرق والجنوب. قبل عام 2004 كانت الأوكرنة8 تمس بشكل أساس قطاعي الأعمال والتعليم في معظم أنحاء البلاد. وفي ظل «الحكومة البرتقالية»9، كانت هناك محاولة لتوسيع المعايير المعتمدة في المناطق الغربية لتشمل الدولة بأكملها. ومع ذلك، في المجال المحلي، اتضح أنها غير واقعية خارج المناطق الغربية، ولكن في المجالين الرسمي والثقافي، بدأت عملية أوكرنة شديدة، ثم بدأت تضعف: بدأت اللغة الروسية تُمنح مكانة لغة إقليمية (في بعض المناطق). لكن انتصار الميدان10 في فبراير (شباط) 2014 أدى إلى اندلاع موجة كبيرة من الأوكرنة، مما أثار احتجاجات في شرق وجنوب البلاد. وكانت الرغبةُ في التحدث باللغة الروسية فقط أحدَ أسباب الموافقة الجماهيرية الكبيرة لسكان القرم على ضمّهم إلى روسيا.
يتناقض الوضع في الدول الأخرى مع الوضع في بيلاروسيا، التي تدعم فيها الحكومة منذ عام 1994 الدور المهيمن للغة الروسية، وهي اللغة الأم لغالبية السكان؛ واللغة البيلاروسية لها معنى رمزي بشكل أساس.
كانت السياسة اللغوية في روسيا منذ البداية تختلف عنها في الدول الجديدة الأخرى (من الاتحاد السوفيتي السابق) من ناحيتين. أولاً، إذا كانت السلطات خارج روسيا تنتهج سياسة واضحة وهادفة تهدف إلى زيادة توظيف لغتها على حساب اللغة الروسية، ففي روسيا لم توجَد في السابق ولا توجد الآن سياسة واحدة مدروسة دراسة جيدة يمكن مقارنتها بما حدث في العهد السوفيتي. إذ لم تُحَدَّد أيّ أهداف واضحة للسياسة اللغوية، وقد نُقِلت صياغة وتطوير السياسة اللغوية بالكامل من المركز إلى الأقاليم، حيث تجري ممارستها بطرق مختلفة: في بعض الأماكن تتجلى الروح القومية المحلية، وفي أماكن أخرى، الترويس المفرط.
ثانيًا، لم يُتَح للتطور اللغوي القومي في روسيا، لأسباب موضوعية، أن يسير في اتجاه إقصاء اللغة الروسية. فقد ساهمت «متطلبات الدورة الاقتصادية»، التي كتبَ عنها فلاديمير لينين، في انتشارها بِعَدِّها اللغة الوحيدة للتواصل بين الأعراق في جميع أنحاء البلاد، وزادت من نسبة المتحدثين بها في البلاد أكثر مقارنة بالعصر السوفيتي. في التسعينيات كان هناك عدم استقرار لغوي كبير في البلاد، فآنذاك، في سبيل المثال، في كالميكيا11، كان الناس يحلمون بأنهم سيتواصلون بلغتهم الخاصة فيما بينهم وباللغة الإنكليزية في العلاقات مع العالم الخارجي، بما في ذلك مع موسكو، من دون اللجوء إلى اللغة الروسية. لكن هذا كان مستحيلاً من دون الاستقلال السياسي.
احتلت مكانَ السياسةِ الغائبة عملياتٌ عفويةٌ تحددها، في المقام الأول، قوانين السوق. إذ تتطلب هذه القوانين أولاً وقبل كل شيء التفاهم المتبادل، وهذا بدوره يتطلب انتشار اللغات الكبيرة وتقليص التنوع اللغوي.
كان الحد من وظائف اللغة الروسية ملحوظًا في التسعينيات (خاصة في التعليم) في الأقاليم المنزوية التي فيها نسبة صغيرة من السكان الروس: ياقوتيا12، توفا13. هنا، لوحظ الضعف الشديد في معرفة جيل الشباب، وخاصة الأطفال، للغة الروسية. الآن الوضع بدأ يتحسن على الأرجح. ومن بين التدابير الجادة القليلة التي اتخذتها السلطات والتي تهدف إلى رفع مستوى المعرفة باللغة الروسية، لابد من الإشارة إلى شرط النجاح الإلزامي في الامتحان الموحد (في المؤسسات التعليمية الثانوية الذي يؤهل للانتساب إلى الجامعات) باللغة الروسية. ساهم هذا الأمر في معرفتها، على الرغم من أنَّ منظومة هذه الاختبارات مثيرة للجدل. ومع ذلك، يمكن للمرء في الوقت الحالي أنْ يلاحظ في موسكو والمدن الكبيرة الأخرى أشخاصاً لا يعرفون اللغة الروسية أو يكادون لا يعرفونها. هؤلاء في الأساس من المهاجرين، بالطبع. وفي القوقاز الشمالي، لا يحاول الأطفال في كثير من الأحيان تعلم اللغة الروسية في المدرسة بسبب الافتقار إلى الحافز، ويُلاحَظ هذا بين الفتيات بشكل كبير.
على العموم، اللغات الأخرى، وخاصة اللغات الصغرى في روسيا، معرضة لخطر أكبر بكثير. وقد اتُّخِذَت القليل من الإجراءات لحماية معظم اللغات الأخرى. أثبتت الإجراءات التي اعتُمِدَت بعد عام 1991 أنها أكثر نجاحًا في الأماكن التي نُفِّذَت فيها بطريقة إدارية بحتة: كتابة اليافطات في المؤسسات باللغة الروسية وباللغة المحلية، وزيادة وقت البث باللغات القومية في التلفزيون والإذاعة، وتوسيع التعليم المدرسي بهذه اللغات. ولكن حيثما تكون قوانين السوق سارية، في سبيل المثال، في مجالات إصدار الكتب ونشر الصحف والمجلات، حلت اللغة الروسية محل اللغات الثانوية بشكل ملحوظ. وقد تبين أنَّ إجراءات من قبيل كتابة اليافطات بلغتين مجرد استعراض للتباهي، لا غير، وتتسم في أحسن الأحوال بمعنى رمزي. يعيق غياب الحافز تطوير التعليم باللغات القومية (المحلية): يمكن للمرء أن يعرف اللغة جيدًا، ولكن لا يكون قادراً على تطبيق هذه المعرفة، في حين أنَّ الإلمام الضعيف باللغة الروسية يحد من فرص الحياة بما لا يقل عنه في الحقبة السوفيتية. ففي رياض الأطفال والصفوف الابتدائية بالمدارس، يتعلم الأطفال، بمن فيهم الأطفال الروس، عن طيب خاطر لغات العرقيات الصغيرة لمجرد أنها مثيرة للاهتمام، لكن في الفصول العليا غالبًا ما يختفي هذا الاهتمام بسبب عدم الحاجة إلى معرفتها. بالإضافة إلى إزاحة اللغة الروسية، هناك أيضًا إزاحة للغات الأقوام الصغيرة جدًا لصالح لغات العرقيات الأكبر في الإقليم نفسه: في سخا - ياقوتيا، تفسح اللغة اليوكاجيرية ولغة إيفينك المجال ليس للغة الروسية فقط، بل وكذلك للغة الياقوتية.
لكن حتى ما يُفعَل غالبًا ما يكون غير مؤثر لأسباب اجتماعية. وإليكَ هذا المثال: في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اشتكى أحد اللغويين المردوفيين، متحدثًا في موسكو، من إزاحة اللغة الروسية للغة المردوفية. وسُئل عن الموقف من إعداد معلمي اللغة المردوفية وآدابها، فأجاب بأنَّ هذه ليست المشكلة: فقد أُعِدَّ المعلمون بأعداد كافية لكنَّ معظمهم لم يعمل في تخصصهم، بل في مواقع البناء في موسكو. وهناك عامل آخر كان ساريًا خلال الحقبة السوفيتية كذلك. في مدارسنا، كقاعدة عامة، لا يمكن تعلُّم بشكل جيد لغتين من لغات شعوب روسيا (بما في ذلك الروسية)؛ إذ يتعثر، كما كان من قبل، إتقان اللغة القومية في كثير من الأحيان.
تنطبق على روسيا المعاصرة الحالة المسجلة، مثلاً، في أدمورتيا14 : «العلامات الجغرافية على الطرق السريعة الفيدرالية مكتوبة باللغة الأودمورتية واللغة الروسية. وفي وسائل النقل العام، يصدح الترحيب بالركاب باللغة الأدمورتية. وفي المدن، يتحدث السكان بالأساس باللغة الروسية، وفي الريف - باللغة الأودمورتية، على الرغم من أنَّ العملية نفسها تجري هناك. وبشكل عام، يجري اندماج شعب الأودمورت على قدم وساق بخطوات واسعة جدًا. إنَّ الأودمورتيّين الذين انتقلوا إلى المدينة، كقاعدة عامة، في الجيل القادم لا يتصورون أنفسهم ممثلين للقومية الأصلية ويشعرون بأنهم روسيين» [الجريدة المستقلة: Независимая газета 28. 01. 2008].
توضح الأمثلة الواردة أنَّ مشاكلَ معرفة أو عدم معرفة لغة أو أخرى مشاكلٌ اجتماعية في المقام الأول. فالعمال الوافدون الذين لا يتحدثون لغة مَن يحيطون بهم هم الأكثر حرمانًا من الحقوق ويتعرضون للاستغلال بلا رحمة، ومن المفيد لأرباب العمل ألا يندمجوا مع الوسط الذي يعيشون فيه، بما في ذلك بسبب مشاكل اللغة. والنساء في شمال القوقاز يعشن إلى حد كبير في عالمهن المغلق، حيث لا توجد حاجة للغة الروسية. ففي العهد السوفيتي، اتُّخِذَت تدابير خاصة لإشراك النساء في الحياة العامة، ولكن الآن لم يعد ذلك الحال موجودًا. واشتغال المدرسين في مواقع البناء مشكلةٌ اجتماعية بحتة.
إنَّ حالات الحروب اللغوية والصراعات اللغوية الحادة في روسيا قليلة جدًا مقارنة بالدول الأخرى التي تكونت منذ أكثر من 20 عامًا على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق. ومع ذلك، لا تزال العديد من المشاكل اللغوية من دون حل. لقد نشأ وضع صعب جداً مع لغات الأقوام القليلة العدد في سيبيريا والشرق الأقصى وشمال أوروبا. فتلك اللغات لا تتلاءم جيدًا مع علاقات السوق ولن تدوم بدون دعم خاص. ويجب عدم السماح باختفاء اللغات النادرة: فكل لغة هي ثروة، وثقافة من نوع خاص، ونظرة خاصة نحو العالم، وقد ازداد خطر ضياع العديد من هذه اللغات مقارنة بالعهد السوفيتي الذي اختفت فيه، على ما يبدو، لغتان فقط. فالقوانين تُعتَمَد لصالح هذه اللغات، لكن فعاليتها منخفضة. في السابق احتل الاتحاد السوفيتي المواقع الرائدة في العالم من وجهة نظر تلبية الحاجة إلى الهوية، ولكن الحال الآن، هنا أيضاً، يتخلف عن أوروبا الغربية أو أستراليا.
وهذا جانب آخر من السياسة اللغوية الروسية: انتشار وترويج اللغة الروسية خارج الأراضي الروسية أساسًا. اعتاد الناس في روسيا على الدور الدولي المهم للغة الروسية. وقد تأثر هذا الدور ليس بالأيديولوجيا فقط، بل وبإنجازات العلم والثقافة أيضًا؛ ففي الستينيات في اليابان، حاول جميع طلاب العلوم تقريبًا تعلم اللغة الروسية. ولكن في مؤتمر الرابطة الدولية لمدرسي اللغة الروسية وآدابها في فيرونا (إيطاليا) عام 2005، قيل: «بعد كل شيء، لم تعد روسيا تجسد المدينة الفاضلة الكبرى. الآن أصبحت بلدًا مثل سائر البلدان الأخرى» (مقتبس من [Глобус غلوبوس، 2006: 66]).
يمكن أنْ يكون للغة خارج أراضيها الرئيسة أربع وظائف: وظيفة اللغة العالمية، وظيفة اللغة الثقافية الإقليمية، وظيفة لغة الاتصال ووظيفة لغة الأقليات. في كل من الحقبة السوفيتية والحقبة الحالية، كان للغة الروسية هذه الوظائف كلها، ولكن العلاقة بينها قد تغيرت. فقد انخفضت وظيفة اللغة الروسية بوصفها لغة عالمية بشكل حاد بعد عام 1991. كما تضاءلت وظيفة اللغة الإقليمية للثقافة، على الرغم من استمرارها في بلدان رابطة الدول المستقلة ودول البلطيق بدرجة أو بأخرى. وفي الوقت نفسه، نظرًا لتطوّر التجارة بين المناطق الحدودية وتجارة الشنطة والاستجمام في الخارج والسياحة وما إلى ذلك، تتزايد وظيفة الاتصال للغة الروسية في مجال الحوار اليومي. وكذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما وجد جزء من سكانه الناطقين باللغة الروسية خارج روسيا نفسه في موقع الأقلية القومية، زادت الوظيفة المعنية للغة الروسية في عدد من البلدان.
وبالطبع، روسيا «بلد مثل سائر البلدان الأخرى» يمكن أنْ تهتم بنشر لغتها وأنْ تحاول أنْ تقدِّم للعالم ما لا يستطيع أي بلد آخر تقديمه؛ لا تزال روسيا كبيرة من حيث المساحة والسكان، والدور الدولي للغة الروسية له تقاليد قديمة. في روسيا، أصبحت محاولات الترويج للغة الروسية بنشاط أكبر في الخارج في السنوات الأخيرة أكثر وضوحًا، بما في ذلك في بلدان رابطة الدول المستقلة، ولكن حتى الآن تُحافِظ على موقعها بشكل خاص بفضل تقاليد الماضي وقوة استمرار حركتها.
للمؤلف عدد كبير من المنشورات حول القضايا التي نوقشت في المقال، بما في ذلك كتاب [ألباتوف Алпатов, 1997: 2000].
الهوامش:
1 - المؤتمر الدولي «السياسة اللغوية والصراعات اللغوية في العالم المعاصر»، موسكو، 2014. الصفحة 11 – 24.
2 - فلاديمير ميخائيلوفيتش ألباتوف: (من مواليد 17 أبريل 1945) عالم لغوي سوفيتي وروسي، ودكتوراه في علم اللغة والأدب (1983)، وعضو مراسل في الأكاديمية الروسية للعلوم (2008). ألَّف أكثر من 200 عمل في مجال اللسانيات، بروفسور متخصص في الدراسات اليابانية وتاريخ اللسانيات. (المترجم).
3 - اللغة الفريزية: لغة تستخدم في شمال هولندا في فريزلاند، أي في الشمال الشرقي لألمانيا (مناطق فريزيا الشمالية وبينبورغ وكلوبنبورغ). (المترجم).
4 - اللغة الرومانشية: أحد اللغات الرسمية الأربع في سويسرا إلى جانب الألمانية، والفرنسية، والإيطالية وهي لغة لاتينية قديمة. (المترجم).
5 - لغة السامي: لغة يَتحدث بها شعب السامي في بعض الأجزاء الشمالية من دُول السويد والنرويج وفنلندا، بالإضافة إلى أقصى شمال غربي روسيا. كثيرًا ما يُعتقد - خطأً - أن السامي هي لغة واحدة، لكنها مجموعة واسعة من اللغات، ويُشار إليها أحيانًا أيضًا بـ"اللابية" (نسبة إلى منطقي لابي). (المترجم).
6 - يان بودوان دي كورتني (1845- 1929): عالم لسانيات وسلافيات بولندي، اشتهر بنظريته عن الفونيم و الألوفون. عمل بودوان معظم حياته في جامعات الإمبراطورية الروسية: جامعة قازان (1874–1883)، جامعة تارتو (1883–1893)، جامعة ياغيلونيا (1893–1899) في النمسا-المجر، وجامعة سانت بطرسبرغ الحكومية (1900–1918). وفي المدة 1919-1929 عمل أستاذاً في جامعة وارسو في بولندا. (المترجم).
7 - البيريسترويكا «إعادة الهيكلة»: برنامج للإصلاحات الاقتصادية أطلقه رئيس الاتحاد السوفييتى، ميخائيل غورباتشوف وتشير إلى إعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفيتى. صاحبت البيريسترويكا سياسة غلاسنوست والتي تعني الشفافية. يطرح البعض أن تلك السياستين أدتا إلى تفكك الاتحاد السوفيتي وانهياره في عام 1990. (المترجم).
8 - الأوكرنة: سياسة تهدف لزيادة استخدام، وتسهيل، وتطوير اللغة الأوكرانية، وتعزيز عناصر الثقافة الأوكرانية الأخرى في مختلف مجالات الحياة العامة كالتعليم، والنشر، والدين، والحكومة. ويُستخدم المصطلح أيضًا لوصف عملية قبول الثقافة واللغة الأوكرانيتان من طرف غير الأوكرانيين أو الأوكرانيون المتروسون بوصفهما لغة وثقافة لهم. (المترجم).
9 - الحكومة التي تكونت بعد الثورة البرتقالية (2004-2005) التي هي واحدة من ما أطلق عليه اسم الثورات الملونة. وقد اندلعت عبر سلسلة من الاحتجاجات والأحداث السياسية وقعت في أوكرانيا من أواخر نوفمبر 2004 حتى يناير 2005، في أعقاب جولة إعادة التصويت على الانتخابات الرئاسية الأوكرانية 2004 والتي أدعي أنها شابها الفساد بشكل واسع، ترهيب الناخبين، والفساد الانتخابي المباشر.
10 - الميدان الأوروبي: اسم يشير إلى الاحتجاجات والاضطرابات الأهلية التي بدأ في ليلة 21 نوفمبر 2013 في أوكرنيا، عندما بدأ مواطنون احتجاجات عفوية في العاصمة كييف بعد أن علقت الحكومة التحضيرات لتوقيع اتفاقية الشراكة واتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي. نتيجة لذلك، طالب المتظاهرون باستقالة الحكومة الحالية، وعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، كما طالبوا بانتخابات مبكرة. ويرى الروس إنَّ تلك الحوادث كانت موجَّهو ضد الروس ومدعومة من الخارج. (المترجم).
11 - كالميكا: جمهورية ذات حكم ذاتي، أحد مكونات الاتحاد الروسي، وتعد كالميكا المنطقة الوحيدة في أوروبا التي تعتنق البوذية ديناً على مذهب البوذية التبتية. (المترجم).
12 - جمهورية ساخا (ياقوتيا): إحدى الكيانات الفدرالية في روسيا، تدخل في منطقة الشرق الأقصى الفيدرالية. مركزها الإداري مدينة ياكوتسك. تُعَد جمهورية ساخا أكبر منطقة حكم ذاتي في العالم. تقع جمهورية ساخا في الجزء الشمالي الشرقي من سيبيريا. أكثر من %40 من أراضي ياقوتيا تقع وراء الدائرة القطبية الشمالية. (المترجم).
13 - توفا: إحدى الكيانات الفدرالية في روسيا. تتمتع جمهورية توفا بالحكم الذاتي. تقع في آسيا الوسطى بين سيبيريا ومنغوليا، عاصمتها مدينة كيزيل ويبلغ مساحتها 168,000 كم² وعدد سكانها نحو 310,000 نسمة، 80% منهم توفاويون من أسلاف كانوا يتكلمون اللغة التوركية المنحدرة من عائلة اللغات الطورانية. ويعمل معظم السكان في تربية الماشية والحيوانات الأخرى. (المترجم).
14 - أودمورتيا: جمهورية ذات حكم ذاتي، من الكيانات الفيدرالية الروسية، تقع على السفوح الغربية من جبال أورال وتشترك بحدودها الجنوبية مع جمهورية تتاريا. وهي أكثر المناطق الإسلامية امتدادًا نحو الشمال في روسيا الأوروبية. (المترجم).
المراجع:
- Алпатов В.М. 150 языков и политика. 1917–1997. М., 1997.
- Алпатов В.М. 150 языков и политика. 1917–2000. М., 2000.
- Глобус. Бюллетень международной информации. М., 2006. № 5.
- Данилов Г.К. Мои ошибки // Революция и язык. М., 1931.
- КПСС в резолюциях и решениях съездов, конференций и пленумов. М., 1954.
- Ленин В.И. Сочинения. Изд. 5-е. Т. 24. М., 1965а.
- Ленин В.И. Сочинения. Изд. 5-е. Т. 25. М., 1965б.
- Михальченко В.Ю. Национально-языковые конфликты на языковом пространстве бывшего СССР // Язык в контексте общественного развития. М., 1994.
- Независимая газета. М. 28.01.2008.
- Поливанов Е.Д. Родной язык в национальной партшколе // Вопросы национального партпросвещения. М., 1927.
- Революция и национальности. М., 1937. № 2.
- Советкин Ф.Ф. Избранные труды. Т. 2. Саранск, 1980.
- Сталин И.В. Сочинения. Т. 5. М., 1947.
- Bullevant B.M. Ideological Influences on Linguistic and Cultural Emprovement: an Australian Example // Power and Inequality in - Language Education. Cambridge, 1995.
- Donahue T.S. American Language Policy and Compensatory Opinion // Power and Inequality in Language Education. Cambridge, 1995.
- Ross J.A. Language and the Mobilization of Ethnic Identity // Language and Ethnic Relations. London, 1979.
- Skutnabb-Kangas T. Bilingualism or Not. The Education of Minorities. Clevedon, 1983.
- Trudgill P. Sociolinguistics. An Introduction to Language and Society. London, 1983.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- العلم الخَفي: ما اللسانيات الإدراكية؟
- خطاب لوباتشيفسكي «حول أهم مواضيع التربية»
- اللسانيات الإدراكية ودلالة مصطلح «إدراكي»
- ألكسندر نيستروغين وسلاسة الشعر الروسي المعاصر
- فيرا بولوزكوفا صوت مُمَيَّز في الشعر الروسي
- مهام الأدب في المجتمع المعاصر
- السياسة اللغوية في روسيا والعالم
- السوسير وباختين
- روح النثر الشعرية
اكتب تعليقك