مهام الأدب في المجتمع المعاصرالباب: مقالات الكتاب
أ. د. تحسين رزاق عزيز أستاذ في جامعة بغداد |
مهام الأدب في المجتمع المعاصر1
بقلم: نتاليا مارتيشينا2
ترجمة: أ. د. تحسين رزاق عزيز
ما مهام الأدب في العالم الحديث؟
هل يمكن للأعمال الأدبية أن تغيّر العالم والمجتمع للأفضل؟
هل يمكن للأدب نفسه أن يؤدي دور «كتاب الحياة التعليمي»؟
هل من مصلحتنا أنْ نطرح هذه الأسئلة على أنفسنا؟
مما لا شك فيه أنَّ خبرة الكُتّاب تساعد الإنسان ليس على أنْ يفهم مكانته في المجتمع فحسب، وليس على أنْ يمهّد ويشقَّ مسار حياته شقًا صحيحًا فحسب، بل وتساعده أيضًا في أمور الحياة اليومية، وفي حل العديد من المشاكل والصراعات الاجتماعية. فعمليًا، جميع المشاكل والصراعات تقريبًا وصِفَت وحُلِّلَت بطريقة أو بأخرى في الأدب الكلاسيكي، ومهمتنا - إدراك تجربة الكُتّاب وفهمها والقدرة على تطبيقها في الممارسة العملية من خلال الاستنتاجات اليومية. وفعلاً، عندما نلجأ إلى الأدب، سنوفر الكثير من الوقت الشخصي، بعد أنْ نتعلم من تجارب أبطال الأدب كيفية التصرف في مواقف الحياة، وفهم الشخصيات والمصائر البشرية.
إننا، من خلال دراسة الأدب، نتعرف على الحياة.
بيد أنَّ الأدب يمثل أيضًا ظاهرة التعبير عن الذات. إذ يعبِّر الكاتب بشكل خلاق عن نفسه، وعن عالمه الداخلي، ويعكس في شخصيات أعماله الأدبية مشاكله الشخصية والاجتماعية. فالجميع يعرفون القول المأثور الذي ورد عن فلوبير، مؤلف رواية «مدام بوفاري»: «مدام بوفاري هي أنا». وليف نيكولايفيتش تولستوي كذلك قال، إنَّ الأدب يساعدك على «أن تجد نفسك». وحقًا، الأدب يُعلِّم كل قارئ أن يفهم طبيعة شخصيته: فالإنسان، من خلال الموافقة على أفعال الأبطال أو رفضها، يعرف نفسه، ويكشف شخصيته ويُسَوِّيها على أثر خطى الكاتب، وبهذا يبني أساساته الشخصية من الناحية السيكولوجية.
بالإضافة إلى ذلك، الأدبُ انعكاسٌ للعصر، ويكشف عن المشاكل الاجتماعية، ليس الشخصية فقط، وليس الوطنية فحسب، بل العالمية أيضًا. الأدب من بين أوائل الظواهر التي تستجيب لتحديات الزمن، فهو يتَفَطَّن لكل ما يحدث في قلب الإنسان، وكل ما يحدث في البلد وفي العالم، ويدركه. إنَّ تجربة الكُتّاب لا تقدر بثمن: فبمساعدة الأدب، يمكننا أن نشعر وكأننا معاصرين لكل دهر، ويمكننا أن نرى العالم الحديث بطريقة موضوعية ومُجَسَّمَة.
ولكنَّ الأدب – هو كذلك العمل مع الكلمة، وفهم جوهر الكيفية التي تؤثر من خلالها الكلمة على حياة الإنسان والمجتمع.
يعتقد العديد من الكُتّاب الروس بحقّ أنَّ الكلمة يمكن أن تنظِّم حياة المجتمع، وأنْ تغيِّر تطور المجتمع، وأنْ تخدم أغراضًا صالحة. فقد دعا نيكولاي غوغول الجميع «للتجوال في روسيا»، بالطبع، ليس بصفة سائحين، بل من أجل معرفة الصورة الاجتماعية للمجتمع، ومن خلال كتاباته السياسية والاجتماعية ونتاجاته الأدبية كشفَ عن نموذج العلاقة المفعمة بالنشاط تجاه القضايا الاجتماعية. وشرعَ أنطون تشيخوف برحلة صعبة وخطيرة إلى جزيرة سخالين، وبعد ذلك، بمساعدة الكتابات السياسية والاجتماعية، ساهم في تحسين حياة سكان هذه المنطقة. والطبيب والكاتب ألكسندر ألكسندروفيتش بوغدانوف (1873 - 1928) أشار إشارةً مباشرة إلى إمكانية تغيير المجتمع من خلال الكلمة.
ومع ذلك، فإنَّ الكلمة تساعد على تنظيم وتغيير ليس حياة المجتمع فقط، بل وحياة الفرد الشخصية أيضًا. فجوهر الكلمة، بعد كل شيء، عبارة عن طاقة. ففي الكلمات الشريرة والنابية، توجد طاقة عدائية، وفي الكلمات الرقيقة، الإيجابية، المخلصة - توجد طاقة مشرقة وخلّاقة. وحتى معنى مفردة «كلمة» (слово) مُشتَقّ من الفعل «Славить» (يُسَبِّح، يُمَجِّد). نحن أنفسنا مسؤولون عن ظهور الكلمات السيئة التي تجلب الدمار للعقول والأرواح. ربما، في فجر البشرية، لم تكن ثمة كلمات نابية، سيئة، غبية على الإطلاق. فالغرض من الكلمة غير هذا. وقد تحدَّثَ المفكر بافيل فلورنسكي (1882 - 1937) عن جوهر طاقة الكلمة في العديد من أعماله. الكلمة أساسًا هي الفعل. الكلمة حقاً فعلٌ، وهي واضحة ومؤثّرَة مثل الفعل الجسدي. تخبرنا الأمثال الروسية عن الكلمات الشيءَ نفسه: جروح الكلمات لا تلتئم بوقت قصير؛ بالكلمة تستطيع أن تقتل، وبالكلمة تستطيع أنْ تنعِش؛ بالكلمات، تُبنى حتى البلاد. وكتب الشاعر نيكولاي غوميلوف (1886 - 1921) مقاطعَ شعر جميلة عن الكلمة:
... أُوقِفَت حركةُ الشمس بالكلمة،
ودُمِّرَت المدنُ بالكلمة.
لكننا نسينا أنّ الكلمةَ فقط
هي التي تشع وسطَ القلقِ الدنيوي.
وحتى في إنجيل يوحنا قيل
وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ.
فوضَعنا لها حداً،
حدودَ الطبيعةِ الضئيلة.
الكلماتُ الميتة، مثل النحل في خلية فارغة،
تفوح منها رائحة كريهة.
كان ينبغي، على ما يبدو، أنْ يُضاف إلى جميع أنواع الطاقة، المدرجة في كتب الفيزياء المدرسية، نوعًا آخر – هو الطاقة اللفظية.
الإبداع الأدبي يخلق «مجالَ قوةٍ» حول نفسه، وفي الكلمة تكمن احتياطيات لا تنضب من الطاقة.
يجب أن نتصور بشكل واضح الدورَ الاجتماعي للأدب.
قال الكاتب يوري ناغيبين (1920 – 1994): «الأدب – هو حديث مع الناس. وإلا فلن يكون فيه أيّ معنى».
وقال كذلك: «الأدب - ليس ترفيهًا، ولا تسلية وتمضية للوقت، ولا مصدرًا للمعلومات ولا إرشادات وعظٍ، ولا مجموعة مختارة من النعوت الجميلة. إنه حديث ودّي من القلب إلى القلب».
يتزايد دور الأدب في العالم الحديث عدة مرات.
لا ينبغي لأحد أن يضِل الطريق إلى قاعات المكتبات الفارغة: أجل، قبل ثلاثة عقود من الزمن، في أيّ لحظة، عندما كنّا نذهب إلى المكتبة، نجد طابورًا نحو أمناء المكتبات الذين يعيرون الكتب؛ لم نكن نجد مكانًا فارغًا في قاعات القراءة. لقد تطورت صناعة الكتاب الآن إلى درجة يمكن معها لأي شخص أنْ يشتري الكتاب اللازم للعمل أو المهم للقراءة؛ وأضف إلى ذلك توفر الكتب على الأقراص، وسهولة الوصول إلى موارد المكتبات عبر الإنترنت، وإمكانية قراءة الكتب على الأجهزة اللوحية - الوسائط الإلكترونية للمعلومات التي يمكنك منها تنزيل وتحميل عدد هائل من الكتب في شكل إلكتروني من الإنترنت...
المكتبات العامة نفسها في وضعيتها الحالية بدأت تؤدي ليس دورَ «مورِّد» المعلومات فقط، بل وتتولى أكثر فأكثر دور المؤسسة الاجتماعية التي تدعو لتوحيد الناس وتثقيفهم. وأخذت تظهر في المكتبات العامة المقاهي الأدبية، والصالونات الثقافية، والحلقات الأدبية والمسرحية، وغرف الأطفال ذات الكتب والألعاب، وحتى الاستوديوهات التي يقوم الأطفال والأحداث فيها، تحت إشراف المعلمين، بتحضير الدروس بشكل مشترك هناك. وتنشط المكتبات الحديثة في تنظيم المهرجانات والمنتديات والمؤتمرات الأدبية وجلسات القراءة الأدبية – ويومًا بعد يوم يزداد أداؤها لدور المواقع الاجتماعية والثقافية في المدن والبلدات. وبإمكان المكتبات العامة الحديثة اليوم أن تمارس نشاط هيئات النشر الكاملة الأهلية، ونعتقد أنَّ ترادف «دار النشر - المكتبة» سيكون له ما يبرر وجوده تمامًا.
سيظل الأدب مطلوبًا دائمًا من طرف المجتمع، طالما أنه يساعد المرء على رؤية الكثير من الشخصيات والمواقف البشرية، وعلى فهمها - سيحتاج الجميع إلى هذا في الحياة اليومية، وسيكون هذا مفيدًا أيضًا في نشاط الفرد العامل في المجال الاجتماعي والثقافي.
أهمية الأدب بوصفه مادةً للفرد العامل في المجال الاجتماعي والثقافي عاليةٌ جدًا. فبمساعدة الأدب بوصفه فناً، نكتسب في وقت قصير خبرةً حياتية ثمينة، ونجتاز بدون ألم لأنفسنا العديد من مواقف الحياة، ونتعلم منها كيف نتصرف في الحياة الواقعية.
وبمساعدة الأدب، يمكن للأخصائي الاجتماعي والمتخصص في مجال الأنشطة الثقافية والترفيهية أنْ يتعلم الكثير من الحبكات ومن شخصيات الأبطال. ويمكن للمرء أن يكتسب من الأعمال الأدبية «متاعًا» كاملاً من أنماط السلوك في مواقف الحياة المختلفة من دون أنْ يضيع الوقت في تحليل مثل هذه المواقف في الحياة الواقعية. إنَّ الأدب يثري الخبرة الحياتية للإنسان. وليس من قبيل المصادفة أن تشكل الحبكات الأدبية أساس العروض المسرحية والأفلام: فالعديد من الحبكات تحتوي على دروس مهمة في الحياة، ويوجد فيها مغزى علاجي. والأدب لديه سلطة على المجتمع ويؤثر إلى حد كبير على تصرفات الإنسان ويشكل شخصيته.
هل يمكن للأدب أن يؤثر على المجتمع؟
نعم، وهذا يبدو واضحًا لنا.
من دون شك، ينبغي علينا، أثناء دراسة الأدب كمادة دراسية منهجية، أنْ نولي أهمية كبيرة للأدب الحديث، وأنْ نهتم بالإبداع الأدبي للكُتّاب المعاصرين، وبالعملية الأدبية الراهنة. فالأدب بالذات، هو الذي يجيب على التحديات الأكثر إلحاحًا في زمانه.
يجب دراسة الأدب الحديث، على الرغم من ظهور العديد من الأعمال «ذات الطابع الآني» التي تصدر ثم تختفي من الأفق الأدبي. ولكن تبقى من بينها الأعمال الأكثر جدارة - كقاعدة عامة، تلك النتاجات الأدبية التي يقدم فيها الكُتّاب إجابات على المواقف اليومية المعقدة والشائكة. ومن بينها، على سبيل المثال، أعمال يوري بولياكوف (المولود في عام 1954): «مائة يوم قبل صدور الأمر»، «طوارئ النطاق الإقليمي»، «جَدِيٌّ في حليب». إنّ إشكالية هذه الأعمال تثير اهتمام الجميع: إنها المعضلات الأبدية للحب أو اللامبالاة، الصداقة أو الخيانة، الانتهازية أو الاختيار الصادق. وقد تناول شكسبير هذه الموضوعات من قَبْل... ولكن في كل قرن، وفي كل عقد من الزمان، تتطلب هذه الموضوعات الاهتمام مرارًا وتكرارًا، ولكنها في الوقت الحالي مرسومة بألوان حديثة، وبأدوات آنيّة راهنة، وتحمل إجاباتها الخاصة على تحديات الزمن والمجتمع.
إنَّ تجربة الكُتّاب لا تقدر بثمن: فبمساعدة الأدب، يمكننا أن نشعر وكأننا معاصرين لكل دهرٍ، ويمكننا أن نرى العالم الحديث بطريقة موضوعية ومُجَسَّمَة3.
يبدو لنا أنَّ من المهم النظر في مسألة مهام الأدب ليس في الجوانب الفنية وليس في الجوانب الأدبية (مثل هذه المحاولات قام بها فيساريون بيلينسكي "1811 – 1848"، وأليكسي نيكولايفيتش تولستوي "1883 – 1945"، وإيفان ألكسندروفيتش إيليين "1883 – 1954")؛ إننا نرى من الضروري أن ننظر هنا في مسألة مهام الأدب من وجهة نظر علم الدراسات الثقافية... وبما أنَّ الأدب في حد ذاته ليس سوى جزء من الثقافة، إذاً، يتضّح أنّ معرفتنا بوظائف ومهام الثقافة في المجتمع قابلة للتطبيق تمامًا على الأدب؛ وإنَّ الاستنتاجات حول مهام الثقافة ستتحدث عن مهام الأدب على وجه الخصوص.
لذلك دعونا نلقي الضوء على مهام الأدب في المجتمع الرئيسة الآتية:
1. الوظيفة المعرفية (الإبستمولوجية) للأدب.
2. الوظيفة الإعلامية (وظيفة النقل).
3. وظيفة التواصل.
4. الوظيفة التنظيمية (المعيارية).
5. الوظيفة التقييمية (الاكسيولوجية).
6. الوظيفة الإشارية (السيميائية، التي تعبّر عن المعنى).
7. وظيفة النشاط (الفعل).
8. وظيفة إعادة الإبداع (الوظيفة العلاجية).
9. الوظيفة التعويضية والترفيهية.
10. وظيفة التكيف.
11. وظيفة الإبداع البشري (الوظيفة الإنسانية).
سنحاول استعراض بعض الوظائف بإيجاز.
****
تكمن الوظيفة المعرفية (الإبستمولوجية) للأدب في حقيقة أنَّ الأدب يعطي فكرة عن الناس، وعن المنطقة، وعن البلد، وكذلك عن الوقت - عن الحقبة الزمنية، وعن سنوات الحوادث، وعن العصر. يدرك الأدب المكانَ والزمان المأخوذَين على وجه التحديد ككل واحد مع ذهنية الناس أو عقلية مجتمع معيّن؛ ومن خلال هذا، يساهم الأدب في جعل الناس يدركون احتياجاتهم الخاصة، ويضبطون معيار مصالحهم.
وهكذا، على سبيل المثال، تكشف لنا رواية ميخائيل بولغاكوف «الحرس الأبيض» ورواية نيكولاي أوستروفسكي «كيف سقينا الفولاذ» عن واقع روسيا ما بعد الثورة من وجهَتَي نظر مختلفتَين؛ لن نفهم أبدًا فهمًا قلبيًا كلّ تناقضات العصر الفخم في تاريخ الوطن من خلال دراسة التاريخ في سطور الكتب المدرسية فقط واستبعاد مساهمة الأدب.
فعلى العكس من ذلك: عندما يصادفنا عمل أدبي لا تُؤدّى فيه الوظيفة المعرفية، يجب أن نتحقق: هل وضعَ المؤلفُ أيَّ مهام أخرى؟ ربما، هذا عمل متميز ببلاغته الأسلوبية، تطغى فيه المهام الرمزية على المحتوى (حاول أن تقيِّم، من وجهة نظر معرفية بعض قصائد فيليمير خليبنيكوف "1885 – 1922"، هذا الرياضي القوي الذي غالبًا ما تناول التجارب الأدبية بوصفها تجارب فنّ ورياضيات!) أو إنه عمل ذو توجه إنساني، مثل، رواية ميخائيل فيلير «مغامرات الرائد زفاغين»، وهو كتاب رائع للشباب يمكن أن يلهمهم ويثقفهم - ولكن سيتطلب الأمر غاية الجرأة كي نوصي به ككتاب معرفي!
****
تتجلى الوظيفة الإعلامية (وظيفة النقل) في حقيقة أنَّ الأدب ينقل خبرةَ ومعرفةَ الأجيال السابقة. هنا سنقتبس الكلمات التي قالتها أستاذة الفلسفة الدكتورة لودميلا نيزميروفسكايا فيما يتعلق بوظيفة نقل الثقافة. نعتقد أنَّ الاقتباس المقتطف من كتاب لودميلا نيزميروفسكايا المنهجي «علم الثقافة» يوضح كذلك بشكل موفق الوظيفة الإعلامية للأدب: «تتيح الوظيفة الإعلامية للناس أنْ يتبادلوا المعرفة والمهارات. وحسنٌ ما قاله برنارد شو عن هذا الأمر: لو كان لديك تفاحة ولديَّ تفاحة وتبادلناهما سيبقى لكل منا تفاحة واحدة، لكن لو كانت لديك فكرة ولديَّ فكرة وتبادلناهما فسيتغيّر الموقف. كل واحد منّا يصبح على الفور أكثر ثراءً، أيّ يصبح صاحب فكرتين"».
وهكذا، يتضح أنَّ الوظيفة الإعلامية للأدب «تعمل» مع «الإرث الجيني الاجتماعي» للبشرية؛ الذي تشبَّعَت به كثيرًا التقاليد المأثورة القديمة والأساطير والملاحم والحكايات... في الواقع، لا يوجد شيء «معرفي» بالنسبة لنا في الحكايات الشعبية عن التنين غورنيتش (الثعبان الذي يخطف النساء في الفولكلوري الروسي) وعن بابا ياغا (الكائن في الفُلكلور السُلافي الذي يطير على هاون ويخطف الأطفال)، لانعدام احتمال أن يصادفهم إنسان عاقل. ولكن في الوقت نفسه، تنقل هذه الحكايات حملاً «جينيًا اجتماعيًا» هائلاً، وتعمل على آلية تحديد الميزة الاجتماعية.
دعونا مرة أخرى نعطي مثاليَن اثنين: سوف نذكر عملاً أدبيًا تظهر فيه وظيفة المعلومات بقوة، ونذكر عملاً تكون فيه وظيفة المعلومات ضعيفةً للغاية. كمثال على الصنف الأول، يمكن للمرء أن يستشهد بالعديد من الأعمال الدرامية لـلكاتب المسرحي ألكساندر أوستروفسكي (1823 - 1886). فمثلاً، في مسرحياته الشهيرة جدًا «العاصفة الرعدية»، و«عروس بلا بائنة»، وكذلك في المسرحية - الحكاية «فتاة الثلج» جرى تقديم نماذج بنائية للسلوك؛ تؤدي هذه الأعمال دورَ «كتب الحياة التعليمية» - تمامًا مثل معظم أعمال الأدب الروسي القديم - من خلال حقيقة أنها توفر لنا بشكل ضمني، من خلال تطور الحبكة، معلومات مهمة عن المجتمع وعن التجسيد المحتمل للقدر فيه. وليس من قبيل المصادفة أن يستخلص قراء دراما «العاصفة الرعدية» عند قراءتهم للمسرحية في لحظات مختلفة من تطورهم الاجتماعي استنتاجات «متناقضة تمامًا».
ونذكر من الأمثلة التي فيها وظيفة المعلومات ضعيفة للغاية، ويولي فيها الكاتب مسألة المعلومات أقل أهمية، قصة أنطون تشيخوف «السيدة صاحبة الكلب». يُلَخَّص في هذه القصة عنصرُ المعلومات في الحبكة إلى مجرد رسالة عادية حول قصة حب عابرة في منتجع. من الواضح أنّ الحمل الرئيس هنا يقع على عاتق وظيفتين أخريين - وهما الوظيفة التقييمية ووظيفة الإبداع البشري، وإلا لما كانت الأجيال تعيد قراءة هذه القصة العادية البسيطة وتستوعبها مثل قصيدة ملحمية عن الحب – ولكن الواقع يخبرنا أنَّ قراءتها تُعاد مرارًا وتكرارًا.
****
لا تتمثل الوظيفة التواصلية للأدب فقط في حقيقة أننا من خلال الأعمال الأدبية يمكننا «أنْ نتحاوَر» مع الناس من البلدان الأخرى، ومع الأشخاص من ذوي المهن الأخرى، ومع الأفراد من حلقة مختلفة من حلقات الحياة، وحتى مع أشخاص من عصور أخرى – عندما نقرأ دفاتر يومياتهم ومذكراتهم وقصصهم ومقالاتهم ... ليس فحسب بمعنى أننا، أثناء القراءة، نرى و«نناقش» المشاكل المشتركة مع الكاتب، استنادًا إلى تجربتنا الشخصية. إنَّ وظيفة الأدب التواصلية تساهم في الترقّي الروحي للشخصية، وتكامل الذات للفرد، وتكييف الإنسان في المجتمع.
يُلاحَظ كثيرًا أنَّ الوظيفة التواصلية للأدب تُؤَدَّى في الأعمال الموجهة مباشرة إلى رد الفعل الحيوي والساطع للقارئ: أعمال النوع الصحفي السياسية والاجتماعية، والأعمال الساخرة. أتذكر على الفور رواية «الكراسي الاثنا عشر» (نُشرت في عام 1928) التي كتبها إيليا إيلف ويفغيني بتروف، وقصص ميخائيل زوشينكو القصيرة (1894 - 1958). وغالباً ما تؤدي أعمال السيرة الذاتية دورًا حيويًا في التواصل، على سبيل المثال، كتاب ألكسندر هيرتسين (غيرتسين) (1812 - 1870) «الماضي والأفكار».
ولكن يحدث أيضًا أن يكون العمل ليس موجهًا بشكل واضح لردود فعل القارئ التواصلية ويسري بمثابة «شيء في حد ذاته»، ومع ذلك لهذا العمل مكانه الخاص في الأدب ولديه حلقة القرّاء الخاصة به. ربما، يمكن الاستشهاد بـ «قصيدة بلا بطل» لآنّا أخماتوفا (1889 - 1966) كمثال، حيث لا تسعى الشاعرة نفسها لضمان فِهْم القارئ للعمل بشكل صحيح واستيعابه له سهولة. ومرة أخرى نقول إنَّ عدم الامتثال لوظيفة واحدة أو حتى عدة وظائف لا يفقد الأعمال الأدبية الحقيقية قيمتها المتأصلة: على سبيل المثال، حثّنا الكاتب المعاصر ميخائيل فيلير في هذه الحالة على عدم البحث عن لمعان اللؤلؤ في الذهب، بل عن شوائب الذهب في اللؤلؤ؛ لكلٍّ من هذه الأعمال مزاياه الخاصة وطبيعة علاقاته الخاصة.
****
ترتبط وظيفة إعادة الإبداع للأدب باستعادة الإنسان لقواه الروحية (المُفردة مُشتَقَّة من الكلمة اللاتينية recreatio - الاستعادة؛ وهنا تصدح الكلمة بمعنى إعادة الإبداع، الإبداع من جديد، العودة إلى الإبداع). ونظرًا لأن الإبداع مرتبط بالطاقة، وبوجود فائض من القوة العقلية والروحية للإنسان، فمن المهم أنْ نقول إنَّ الأدب، بوصفه واحدًا من أنواع الفن، يمتلك وظيفة إعادة الإبداع، إعادة التأهيل، بشكل ساطع. ونظراً لأنَّ الصحة الجسدية والعقلية مرتبطة أيضًا بطاقة الجسم، يمكننا تسمية وظيفة الأدب هذه بوظيفة الشفاء. إذ تساعد وظيفة الأدب المتمثلة بإعادة الإبداع القارئَ على استعادة وتجديد وتطبيع إمكاناته الروحية؛ فوظيفة الأدب العلاجية تؤدي في حياة القارئ والمجتمع ككل نوعاً من الوقاية للحالة الروحية. الأدب يؤدي مهمة التطهير، إي «تنقية الروح»، إذا تحدثنا عن القارئ، ويودي مهمة تقوية صحة المجتمع، إذا تحدثنا عن المجتمع.
كلّ واحد منّا لاحظ كم يشعر بالراحة بعد أنْ يقرأ كتابًا رائعًا فيه قصائد، أو قصة ذكية ولطيفة... كان الأمر كما لو كنّا في زيارة صديق، أو كنّا نجلس في صمت الطبيعة - أرحنا أرواحنا. قال ألكساندر بوشكين وهو يمزح ويتكلم يجد في الوقت نفسه إنَّ في لحظة اليأس من الأفضل إعادة قراءة «زواج فيغارو» (مسرحية الكاتب الفرنسي بيير أوغستن كارون دي بومارشيه)، فهي تؤثر على الروح مثل تأثير الشمبانيا. بطبيعة الحال، إنّ كتاب بومارشيه لن يحل مشكلة القارئ، التي تسببت له في حالة اليأس، ولكن مع مبدأ «العقل السليم في الجسم السليم» سوف تُحَل المشكلة بشكل أسرع.
وقد تحدّثَ الشاعر المترجم صموئيل مارشاك (1887 - 1964) بجدية في ملاحظاته عن الكم الهائل من الردود على ترجماته لسونيتات شكسبير التي أرسلها القراء بعبارات تؤكّد إنَّ قراءة السونيتات خففت بشكل كبير من مسار الأمراض المزمنة لديهم...
الدراسات التي أجرتها الأستاذة يوليا مالشيفا، الاختصاصية في جامعة موسكو الحكومية للثقافة والفنون، التي تطرقت إلى الأدب الروسي القديم، وبالتحديد «قصة حملة إيغور» و«إقليم ما وراء نهر الدون»، كشفت أنَّ القراءة الفنية لهذين النتاجَين الأدبيَّين في عدد من المؤسسات الطبية خفَّفت بشكل كبير من حالة المرضى، وألهمتهم التعافي، واستنهضت فيهم قوى الشفاء الروحية.
وتحدث الشاعر فلاديمير نيكولايفيتش سوسين (1950 - 2005) بشكل طريف عن الخصائص العلاجية للشعر الجيد، عندما كرَّسَ إحدى قصائده لزميل شاعر:
«لو صرتُ بقدرةِ الله
كبيرَ أطباء روسيا،
لوزَّعتُ قصائدَ يفغيني مارتيشين
على جميع الصيدليات»
وقد أقَرَّ يفغيني مارتيشين نفسه، وهو كاتب ومعلم، بأنّ الناس غالباً ما يَلْجَأُونَ إليه، قائلين إنهم في مواقف الحياة الصعبة يواسون أنفسهم من خلال قراءة شعره، فبعد قراءة قصائده وجدوا قوة جديدة ودافعًا جديدًا للحياة والعمل.
وأشار الكاتب ميخائيل فيلير في كتابه «الخط العمودي»: إلى الدور العلاجي للأدب: «العلاج بالمكتبة، كلمة جميلة. وجديرة بالوجود في القاموس... فللأدب، من بين أشياء أخرى، تأثير علاجي على القارئ...»
وبقي علينا فقط أن نقدّم هنا مثالاً لعمل لا يُنَفّذ فيه أداء الدور العلاجي على الإطلاق. وخير مثال على ذلك قصيدة إيليا سيلفينسكي (1899 - 1968) «صورة ليزا لوتس»:
مثلُ هذه يجب أنْ تُحبَس في حديقة الحيوانات.
(حتى لو صاح الناس بأنَّ هذه ترقية لها!)
ودَعْها ترفرف لمدة ست أو ثماني ساعات.
في قفص حيوانات مكتوب عليه «امرأة».
هذه المقاطع الشعرية بعيدة كل البعد عن المُثُل الإنسانية... ولكن كل نتاج فني حقيقي يجد له مُشاهدًا وقارئًا – يتفاعل معه في حالة ذهنية معيَّنة ويغيّره بشكل ديناميكي وإيجابي. ونعترف بأننا لا نجد مثالاً لعمل فني ليس له قوة شفائية. ولهذا نفضِّل أن نقدّم مثالاً لعمل أدبي لا يتناول فيه المؤلِّف مهمة العلاج على الإطلاق. ولكن حتى هذا سيكون صعبًا: فحتى الكتاب المنهجي في الرياضيات يعمل على تنظيم الذاكرة، ويحفّز العقل، ويزيد من طاقات الإنسان. لذلك، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يمكننا أنْ نورِد مثالاً لعمل من الأدب الحقيقي الذي لا يؤدي مهامَ علاجية على الإطلاق.
إنَّ المعرفة بوظائف (مهام) الأدب في المجتمع مطلوبة للمتخصصين في مجال الثقافة عند اختيار الشخصيات والأعمال لإجراء الأنشطة الترفيهية.
إذًا، كيف يمكن الاسترشاد في مثل هذه القضية المعقدة والحساسة؟
إنَّ معيار «يعجبني – لا يعجبني»، بالطبع، جيد، ولكن الأفضل من ذلك بكثير أنْ يستطيع الأخصائي الشاب تبرير تفضيلاته بشكل معقول.
إذا ما نظرنا إلى عملِ مؤلِّف معيَّن أو أعمالٍ محددة من خلال منظور مثل هذا المعيار: إلى أيِّ مدى يلبي هذا العمل الإبداعي أو النتاج الأدبي مهامَ الأدب من وجهة نظر علم دراسات الثقافة، وإلى أيّ مدى نُفِّذَت فيه مهام الأدب، - عندئذ سوف نحصل على إجابات معقولة تمامًا.
نأمل أن يساعد هذا النهج الاختصاصيين الشباب على اكتساب نظرة نقدية أكثر استقلالية وثقة.
نختتم هذا العرض الموجز بكلمات من أديبين من أدباءنا الكلاسيكيين – أحدهما ناقد والآخر كاتب.
كتب فيساريون غريغوريفيتش بِيلينسكي (1811 - 1848): «الأدب – هو وعي الناس، وثمرة حياتهم الروحية. ويجب أن يكون الأدب بكل تأكيد تعبيرًا ورمزًا للحياة الداخلية للناس». وهنا نرى أنّ الناقد الكبير مرةً يشير بإلحاح إلى المطلوب، ومرةً يعبّر عن حلمه بتواضع.
وقال الكاتب، الشاعر، والشخصية العامة البارزة مكسيم غوركي: «أحِبّ الكتاب، إنه سيجعل حياتك أسهل، وسيساعدك بودٍّ على ترتيب أولويات الأفكار والمشاعر والأحداث مهما كانت متشوشة وعاصفة، ويعلمك احترام الناس واحترام نفسك، وسوف يكلل العالم والقلب بشعور الحب للعالم وللإنسان».
إنَّ هذه الكلمات تحتوي على الكثير مما أردنا قوله عن دور الأدب في العالم الحديث وعن مهام الأدب في المجتمع الحديث.
الهوامش:
1 - من موقع النثر الروسي
https://proza.ru/2012/07/26/15582
2 - شاعرة وكاتبة وأكاديمية روسية (تولد عام 1967) نشرت العديد من الكتب في مجال النقد والشعر والقصة.
3 - هذا المقطع مُكرَّر في النص الأصلي. (المترجم).
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- العلم الخَفي: ما اللسانيات الإدراكية؟
- خطاب لوباتشيفسكي «حول أهم مواضيع التربية»
- اللسانيات الإدراكية ودلالة مصطلح «إدراكي»
- ألكسندر نيستروغين وسلاسة الشعر الروسي المعاصر
- فيرا بولوزكوفا صوت مُمَيَّز في الشعر الروسي
- مهام الأدب في المجتمع المعاصر
- السياسة اللغوية في روسيا والعالم
- السوسير وباختين
- روح النثر الشعرية
اكتب تعليقك