الترجمة ودورها في تقارب الحضاراتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-01-31 20:40:57

د. عمر عثمان جبق

سلطنة عمان- جامعة التقنية والعلوم التطبيقية، كلية التربية بالرستاق (قسم اللغة الإنجليزية وآدابها)

لا تخفى على أحد أهمية الترجمة بين اللغات المختلفة؛ فكثير من العلوم والمعارف والعادات والتقاليد والمناسبات الاجتماعية وغير ذلك من الأنشطة والمفاهيم والأفكار الإنسانية يتم نقلها بين مختلف الثقافات والبلدان والشعوب من خلال الترجمة؛ ليتم التعارف والتقارب بينها تصديقًا لقوله تعالى في سورة الحجرات الآية (13) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

ففي هذه الآية دلالة واضحة على أنّ الناس مختلفون، وأنهم شعوب وقبائل متباعدة جغرافيًا وفكرياً وأنّ الله، جلّ في علاه، قد جعل هذا الاختلاف في اللون واللسان والتفكير ليشجّع الناس على التعارف فيما بينهم؛ فلولا اختلافهم في اللغة والعرق والعادات والتقاليد، وغيرها من الفوارق، لما كان هناك حاجة للتعارف في المقام الأوّل!

ومنذ فجر التاريخ وبداية التواصل البشري بين مختلف الشعوب والقبائل في أرجاء المعمورة القريبة والبعيدة كانت هناك حاجة ماسّة لوجود مترجمين يتقنون أكثر من لغة لإيصال الرسائل الشفهية والمكتوبة بين مختلف الشعوب والقبائل؛ فيتم التواصل وتتحقق غايات هذا التواصل المختلفة بدءًا من حالات الحرب والصلح والسلم والمعاهدات وتبادل الأسرى وغيرها من قضايا تتعلق بالحروب والهيمنة، وانتهاءً بجهودهم في نقل العلوم والمعارف والخبرات في مختلف ميادين العلوم والمعرفة لتحقيق الازدهار والتقدم والرفاهية للإنسانية جمعاء؛ فكان دور ُالمترجم، بالإضافة لكونه رسولاً مبتعثًا من زعيم قبيلته أو حاكم منطقته أو بلده، دورَ الوسيط الثقافي الذي يسهّل التواصل والتقارب بين مختلف الثقافات والبلدان. وكان الرحّالة والتجّار يقومون بالترجمة أنفسهم كونهم كانوا كثيري السفر والاحتكاك بشعوب وثقافات عديدة مما مكّنهم من إتقان أكثر من لغة، إلى جانب لغاتهم الأمّ. فنقلوا جوانب كثيرة من ثقافاتهم الأمّ إلى بلدان أجنبية سافروا إليها، ونقلوا جوانب كثيرة من ثقافات أجنبية إلى شعوبهم وبلدانهم وثقافاتهم.

ومع تقدم العلوم والمعارف وانتشار تكنولوجيا المعلومات في عصرنا الرقمي سريع التحوّل والتطور مما سهّل حفظ العلوم والمعارف وسرعة نقلها، ازداد الطلب على المترجمين المحترفين للمساهمة في نقل هذه العلوم والمعارف إلى اللغات الحيّة في مختلف البلدان بحيث تنهل الإنسانية جمعاء من تلك العلوم والمعارف، وتحقق التطوّر والازدهار المنشود. وعلى الرغم من تطوير برامج حاسوبية للترجمة الآلية، إلا أنّ الاستغناء عن المترجمين المحترفين، حتى يومنا هذا، مستحيل وغير ممكن وذلك لأنّ الترجمة تحتاج لفهم الكلام المراد نقله إلى لغة أخرى في السياق المحدد وحسب خصائص اللغة المنقول منها والمنقول إليها؛ بالإضافة إلى الأبعاد الثقافية لكلّ لغة. وهذه الاعتبارات لا يمكن للترجمة الآلية التي تنتجها برامج الحاسوب الآلي وتطبيقات الأجهزة الذكية الإحاطة بها وتمييزها كما يفعل المترجم المحترف.

ومن المعروف أنّ المترجم المتمكّن والمتمرّس يسعى دائمًا لتطوير مهاراته وأدواته المختلفة، ورفع وعيه بالثقافات الأخرى حتى يتمكّن من التغلب على التحديات والصعوبات الثقافية التي تعترضه أثناء الترجمة من لغته الأمّ إلى لغة أجنبية أو العكس. ومع تنوّع نظريات الترجمة الأكاديمية التي يستند معظمها إلى ترجمات منشورة هنا وهناك بلغات مختلفة يبقى السؤال الأزلي: هل ينبغي للمترجم أن يترجم حرفيًا أم احترافيًا؟ بمعنى، هل يستبدل كلمات النص الأصل بكلمات من اللغة المنقول إليها كلمة بكلمة؟ أم أنه يركّز على نقل المعنى المقصود من النص الأصل، وينقله بطريقة احترافية بعيدة عن استبدال كل كلمة في النص الأصل بكلمة ترادفها في المعنى من اللغة المنقول إليها؟ من خلال التجربة الشخصية يمكنني القول _ وعلى مبدأ خير الأمور أواسطها: إنّ المترجم المحترف هو الذي يحاول جاهدًا تحقيق توازن نسبيّ قدر المستطاع بين هاتين الطريقتين من الترجمة بحيث يُبْقي على بعض خصائص النصّ الأصل وجمالياته، ويراعي قواعد وخصائص اللغة المنقول إليها؛ فيبقى النصّ المترجم غريبًا نوعًا عن اللغة المنقول إليها، مع مراعاة قواعدها وجمالها في الوقت ذاته. مع التأكيد على أنّ الثابت في الترجمة هو المعنى، والمتغيرات هي المفردات والأسلوب الشخصي للمترجم.

يستطيع المترجم أن ينوّع مفرداته وأسلوبه في الكتابة كيفما يشاء، ولكنه لا يستطيع تنويع أو تبديل المعنى لأنّ المعنى ثابت لا يتغيّر، وأي محاولة من المترجم تُفضي إلى تغيير هذا الثابت هي محاولة محكوم عليها بالفشل والخطأ الذي قد يودي في بعض الأحيان بحياة مرتكبه – المترجم في هذه الحالة! وهناك حالات ذكرها التاريخ عن مترجمين قضوا بسبب تغيير مقصود أو غير مقصود في المعنى، من أمثال مترجم الإنجيل البريطاني وليام تندال  William Tyndale) 1490 - 1536) وايتن دولية Etienne Dolet باحث ومترجم فرنسي (1509م – 1546م) اللذين حُكم عليهما بالموت بسبب ما رأت الكنيسة أنه خطأ فادح في الترجمة يرقى لمستوى الكفر والتجديف 39 - Munday, 2016:38. على المترجم أن يتحرى الدقة في الترجمة، وألا يفرّط في نقل المعنى المقصود إلا في حالات استثنائية ذات حساسية دينية أو سياسية قد تتسبب في نشوب نزاع أو إشكال أو أزمة ما تضرّ به أو بالمجتمع المستهدف أو بالبلد المترجم عنه أو إليه.

وتقع على المترجم مسؤولية المساهمة في التقارب الثقافي بين مختلف الثقافات من خلال اختياره ترجمة أعمال أدبية واجتماعية وفلسفية وعلمية تعكس تجارب وموضوعات ومفاهيم إنسانية عامّة تشترك فيها كل الثقافات والشعوب. ومن خلال التجربة الشخصية في ترجمة أعمال أدبية قديمة أمثال مسرحيات من طيبة اليونانية: مأساة الملك أوديب للكاتب المسرحي اليوناني سوفوكليز Sophocles Jabak,) 2018) ويهودي مالطا للكاتب المسرحي البريطاني كرستوفر مارلوChristopher Marlowe Jabak), 2016)، وغيرها من الأعمال الأدبية التي قمت بنقلها إلى اللغة العربية، وجدت أن هذه المسرحيات تعالج قضايا إنسانية عامة قد لا يختلف حولها شخصان من بلدين وثقافتين مختلفتين. من منا لا يمقت الرذيلة والشرّ؟ ومن منا لا يحضّ على الفضيلة والخير؟ وهناك أعمال أدبية كثيرة لأدباء عرب كبار من مختلف الحقب التاريخية تمّت ترجمتها إلى لغات حية كثيرة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها تعالج قضايا وموضوعات إنسانية عامة؛ كالحبّ والانتقام والحرب والسلم والأمانة والصدق والخيانة والغش وغيرها من الموضوعات الإنسانية التي لا يمكن فصلها عن أي مجتمع إنساني في أرجاء المعمورة.وهنا يكمن دور المترجم الفطن الذي يسعى لنقل هذه التجارب والموضوعات الإنسانية العامّة بين مختلف البلدان والثقافات فيحقق بذلك التقارب الحضاري أو الثقافي بين شعوب البسيطة على اختلاف ألوانهم وألسنتهم ومشاربهم الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية وغيرها.

يمكننا القول مما سبق ذكره إنّ الترجمة عامل مساعد على التقريب بين مختلف البلدان والثقافات لأنها تساهم في جعل الغريب وغير المألوف في ثقافة ما أو بلد ما مستساغًا ومألوفًا فيه من خلال ترجمة أعمال أدبية وكتب علمية متنوعة أجنبية إلى اللغة المحلية؛ وهذا بدوره يحدّ من انتشار ظاهرة فوبيا أو رُهاب الأجانب ومعاداتهم، وينبغي للمؤسسات الحكومية، على وجه الخصوص، رعاية المترجمين وتقديم الدعم المالي والمادي والمعنوي لهم حتى يتمكنوا من المساهمة أكثر في نقل العلوم والمعارف بين مختلف البلدان والثقافات؛ مما يدفع عجلة التقدّم والازدهار على المضي بوتيرة أسرع على كافة الأصعدة، وهذا سينعكس إيجابًا على تعزيز التقارب الثقافي بين مختلف البلدان.

 

المراجع:

 - 1 Jabak, O. 2016. Arabic Translation of the Jew of Malta. Lulu Publishing: United States.

2 - Jabak, O. 2018. Arabic Translation of Sophocles Theban Plays. Lulu Publishing: United States.

3 - Munday, J. 2016. Introducing Translation Studies: Theories and applications. Routledge: London and New York.


عدد القراء: 10110

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-