ثورة الذكاء الاصطناعي ونظرية المؤامرةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-02-01 10:40:01

د. عمر عثمان جبق

سلطنة عمان

مما لا شك فيه أن البشرية قد شهدت ثورة تكنولوجية هائلة، لاسيما في العقدين الأخيرين، وذلك بفضل التطوّر الكبير الذي حدث في الصناعات المرتبطة بالتكنولوجيا الدقيقة، أو ما يعرف بتكنولوجيا النانو وتطبيقاتها التي لا نعلم منها - حتى الآن - إلا النزر اليسير. ومع تطورِ الإنترنت تطورًا كبيرًا، ودخوله مرحلة الجيل الخامس والأجهزة المرتبطة به، حلّ علينا زائرٌ يبدو أنه ليس كباقي الزوّار؛ ألا وهو الذكاء الاصطناعي بتطبيقاته المُخيفة التي جعلت من العالم الافتراضي عالمًا آخر لا يقلّ أهمية عن عالمنا الحقيقي إن لم يكن بديلاً عنه. إن العالم الافتراضي اليوم غدا واقعًا ملموسًا يتم من خلاله التفاعل لإجراء اجتماعات ومؤتمرات افتراضية وعمليات مالية كثيرة، كدفع الفواتير وتحويل الأموال والتسوق وحجز تذاكر السفر وتذاكر حضور مختلف الفعاليات من خلال الهاتف النقال أو الموبايل، دون الحاجة للذهاب إلى أي مكان يقدم تلك الخدمات؛ يكفي أن يكون لديك حساب بنكي وشبكة إنترنت لتقوم بإجراء كافّة عملياتك السابقة "بكبسة زر" كما يُقال!

لقد بات العالم الافتراضي، أو الواقع الافتراضي، أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله أو العيش بدونه لأنّ جلّ الخدمات الحكومية وغير الحكومية باتت تتم من خلاله، ولا سيما في البلدان المتقدمة والنامية وحتى ما يعرف بالبلدان المتخلّفة. لا شكّ أن لهذا الأمر فوائد ثمينة، من مثل توفير الوقت والجهد والمال والموارد، وزيادة إنتاجية العمل وكفاءته بالمقارنة مع الطريقة القديمة أو التقليدية في إجراء عمليات دفع الفواتير والشراء وحجز التذاكر وغيرها من الأنشطة المالية ذات الصلّة. وبالفعل تم حلّ مشكلات كثيرة كانت منتشرة نتيجة التعامل المباشر مع موظفي الخدمات السابقة، من حيث الازدحام وطول وقت الانتظار وغيرها من مشكلات كانت تواجه المستهدفين من تلك الخدمات. ولا شك أيضًا أن إجراء هذه الخدمات من خلال الجوال أمر إيجابي جدًا، ولكنه يأتي بثمن أيضًا: تقليص عدد الموظفين الذين كانوا يقومون بتلك الوظائف – الخدمات – بنسبة كبيرة، وهذا يعني خسارة كبيرة لوظائف كانت تشكّل مصدر رزقٍ لعدد كبير من العوائل. قد تبدو هذه الخسارة أمرًا حتميًا، إلا أنها مؤلمة كثيرًا لأنها تتسبب في مشكلات اجتماعية واقتصادية ونفسية أيضًا بدأت ملامحها تطفو على السطح رويدًا رويدًا، منذرةً بكوارث كبيرة قد تصيب البشرية في مقتل مالم يتم إيجاد حلول تخفف من وطأة تلك المشكلات.

وبعد ظهور الذكاء الاصطناعي الذي تعرّفه الموسوعة البريطانية "بقدرة الحاسب الآلي الرقمي أو الروبوت الذي يتحكم به الحاسب الآلي على إنجاز مهام مرتبطة بشكل عام بالكائنات الذكية (البشر)"، بدأ تسخير الجهود في اختراع آلات ذكية تقوم بمهام كانت حكرًا على البشر في مجال الصناعات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، والمجالات العسكرية والطبية والتعليمية أيضًا. وهناك الآن آلات ذكية في مصانع للطائرات والعربات الثقيلة والخفيفة تقوم بعمل كل شيء ذاتيًا بدقة متناهية لا تضاهي إتقان البشر وحسب، بل وتتفوّق عليه أيضًا. وهناك أيضًا عمليات جراحية معقدة جدًا تقوم بها روبوتات أو آلات ذكية جدًا من دون الحاجة إلى طاقم جراحي "بشري"! ويبدو أنّ تطبيقات الذكاء الاصطناعي لن تتوقف عند أي مجال أو حد، وهي ماضية حيث يريدها أصحاب القرار. وفي خضم هذه الثورة التكنولوجية السريعة جداً تخطر على بالنا بعض الأسئلة الملحّة: (أ) ما مصيرنا نحن البشر العوام الذين كنا، وما نزال حتى هذه اللحظة، نعوّل على شهاداتنا وخبراتنا ومهاراتنا في العمل في مجالات كثيرة؟ (ب) ما مصير أولادنا الذين تخرجوا للتو، والذين يدرسون في تخصصات تبدو لهم أنها مطلوبة جدًا من خلال عالمهم الحقيقي؟ (ت) هل سيبقى نمط التعليم الحضوري هو النمط السائد، أم هل سيتحول التعليم إلى تعليم عن بعد؟ ما حدث ويحدث تدريجيًا في عالمنا الواقعي يميط اللثام عن بعض الإجابات المحتملة لمثل هذه الأسئلة، خاصّة وأنّ القطاعات الحكومية وغير الحكومية تفكّر بالعوائد المادية التي ستجنيها من خلال تقليص عدد موظفيها والاستغناء عن أماكن العمل أو البنية التحتية التقليدية، أو الاقتصاد بها قدر المستطاع وحسب الحاجة، ولهم في المتاجر الافتراضية من مثل أمازون، وشي إن، وعلي بابا، وإي باي وغيرها القدوة الحسنة!

ومنذ فترة قصيرة جداً ظهر نموذج متطور جداً من نماذج الذكاء الاصطناعي ألا وهو ChatGPT  "تشات جي بي تي"؛ إذ يمكن لروبوت المحادثة هذا أن ينخرط في محادثة ذكية جدًا مع المستخدمين، ويمكنه أيضًا الرد على كافة استفساراتهم باللغة الإنجليزية وتلخيص البحوث العلمية وفصول طويلة من الكتب بطريقة سريعة جدًا جدًا لا يمكن لأي إنسان مجاراته فيها. كل من استخدم هذا الروبوت الذكي يُدرك إمكانياته الهائلة في الإجابة على أي سؤال يخطر على البال، ويشعر المرء أنه يجالس عددًا لامتناه من العباقرة المختصين في مختلف ميادين المعرفة ومجالات الحياة. حتى إنّ هذا الروبوت يمكنه تأليف قصائد شعرية حسب الطلب وبدقة متناهية؛ أي أنه يقوم بإنتاج نصوص أدبية إبداعية كنا نعتقد أنها إعجاز بلاغيّ وموهبة لغوية فريدة يمتاز بها قلّة قليلة جدًا من البشر! ومنذ إطلاق هذا النموذج من الذكاء الاصطناعي وحتى هذه اللحظة، هناك عاصفة كبيرة من الانتقادات لهذا الروبوت؛ ولاسيما في الأوساط التربوية والتعليمية والبحثية، لأنه ببساطة يقوم بعمل كل شيء للطلاب في ثوانٍ، من واجبات مدرسية ومشاريع بحثية وغيرها من المهام الدراسية التي يُفتَرَض أن يقوم بها الطالب بنفسه دون الاعتماد الكلّي على هذا الروبوت أو غيره. وقد لا يتمكن المدرسون وأساتذة الجامعات من اكتشاف استخدام الطالب لهذا الروبوت عندما يقوم الطالب الفطن بإجراء بعض التعديلات على أعمال هذا الروبوت.

هذا يعني أن وجود مثل هذا البرنامج، أو الروبوت الذكي، يثير حفيظة التربويين والباحثين والمؤلفين حول قضايا مهمّة جدًا تتعلّق بالسرقة الأدبية والحقوق الفكرية وأخلاقيات التعليم والبحث العلمي وغيرها من مسائل محورية، خاصة في مجالات النشر والتعليم والبحث العلمي. هذا جانب من الجوانب السلبية لهذا الروبوت. وهناك جانب آخر لا يقلّ أهمية وخطورة عن هذا الجانب؛ ألا وهو دقة المعلومات التي يقدمها هذا الروبوت وصحّتها. صحيح أن هذا النموذج المتطور من الذكاء الاصطناعي قادر على الإجابة على كافة الاستفسارات والأسئلة بلمح البصر، إلّا أنه لابدّ لنا من التحقق والتثبّت من صحّة الإجابات والمعلومات التي يقدّمها؛ لأنّه يعتمد على مراجعة كميات كبيرة جدًا من المعلومات المحفوظة على النت أو في مستودعات سحابية افتراضية في أجزاء من الثانية كي يتمكن من صياغة جوابه على أي استفسار، ومن البديهي أن يكون هناك معلومات مغلوطة وغير صحيحة موجودة على النت لأنّ الجميع يمكنه نشر ما يشاء على النت. وقد تكون بعض المعلومات موضوعة على النت بغرض التضليل والتدليس على الناس عن قصد لأغراض معينة، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية.

أذكر وخلال الحرب الدائرة الآن في فلسطين منذ أكثر من شهر (بدأت منذ 7 أكتوبر 2023) وجّهت سؤالاً للتشات جي بي تي، وكان السؤال حرفيًا: Do Palestinians have the right to be free?، أي: هل يتمتع الفلسطينيون بحقّ الحريّة/أن يكونوا أحرارًا؟  مع أنّنا نطلق على هذا النوع من الأسئلة "أسئلة الإجابة عليها بنعم أو لا"، إلا أنّ الروبوت الذكي اصطناعيًا أعطاني جوابًا غريبًا وتجنّب الإجابة الصريحة عن هذا السؤال، واعتبر أن القضية الفلسطينية قضية جدلية وأن هناك رأيين حولها. فعُدت وطرحت السؤال السابق عن جنسية أخرى، وعوضًا عن السؤال عن الفلسطينيين، وضعت الإسرائيليين؛ فكان جواب الروبوت: "نعم، فالإسرائيليون كباقي شعوب العالم، لهم الحق في الحرية وتقرير المصير وهذا ما يقرّه القانون الدولي". أي أنّ الروبوت أجاب على السؤال بنعم، ومن ثم أقرّ بهذا الحق الذي لم يُقرّ به للفلسطينيين! عُدت وطرحت السؤال نفسه وغيّرت الجنسية إلى الألمانية، والأردنية والإسبانية وغيرها، وكان جواب التشات جي بي تي نفس الجواب الذي قدّمه عن الإسرائيليين في الأعلى!  يبدو أن هذا الروبوت متحامل على الفلسطينيين، ويمارس أقصى درجات التمييز العنصري والانحياز. وهذا دفعني لاستنتاج أن السياسة والإيديولوجية والأجندات الغربية للأسف تظهر جليًا في هذا الروبوت الذكي وطريقة برمجته وتوجيهه. وهذا يدفعنا أيضًا للشك في نوايا وأهداف مقدمي مثل هذه البرامج والتطبيقات التي تعتمد على ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي تجاه المستخدمين، لاسيما المستخدمين العرب والمسلمين، على ما يبدو. لم أكن يومًا من أنصار نظرية المؤامرة، ولكن ما حدث بيني وبين هذا الروبوت "ChatGPT" وتحامله (تحامل مبرمجيه ومصمميه) على فلسطين وأهل فلسطين جعلني أعيد النظر في موقفي من نظرية المؤامرة ونوايا الغرب تجاهنا.

لا يمكن لعاقل أن يُنكر الفوائد العملية للثورة التكنولوجية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي الهائلة والمفيدة في مختلف المجالات والميادين، إلا أننا يجب نكون حذرين من المحتوى الذي تقدمه بعض هذه التطبيقات والبرامج لأننا أصبحنا نستمد جلّ معلوماتنا من العالم الافتراضي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، فهناك كمٌّ كبيرٌ من المحتوى الرقمي والمعلومات المتداولة يحتاج إلى الرقابة والتمحيص الدقيق لاحتوائه على مغالطات كثيرة لا تشوّه الحقائق فحسب، بل تحوّرها وتقلبها في بعض الأحيان رأسًا على عقب. ولا ندري ماذا يخبئ لنا مبرمجو الذكاء الاصطناعي من اختراعات وتطبيقات تهدد وجودنا على هذا الكوكب بعد أن أخذ بعضها بطرح برامج وتطبيقات تنتحل أي شخصية بالصوت والصورة يصعب تمييزها عن الشخصية الحقيقية تستخدم لأغراض الابتزاز المالي والأخلاقي، وقد اشتكى بعض المشاهير منها بعدما ظهرت فيديوهات مقلّدة لهم باستخدام الذكاء الاصطناعي! من خلال التجربة الشخصية مع نماذج مختلفة عن المحتوى المقدّم في العالم الافتراضي وتطبيقات التواصل الاجتماعي المختلفة بالإضافة إلى روبوت "تشات جي بي تي" وبرامج انتحال الشخصية يمكنني القول إنّنا مقبلون على حقبة جديدة تنذر بكوارث لم تعهد البشرية مثيلاً لها!


عدد القراء: 3242

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-