جمهورية الآداب العربية: الإسلام والتنوير الأوروبيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-09-26 22:07:03

د. عمر عثمان جبق

سلطنة عمان- جامعة التقنية والعلوم التطبيقية، كلية التربية بالرستاق (قسم اللغة الإنجليزية وآدابها)

الكتاب: "جمهورية الآداب العربية: الإسلام والتنوير الأوروبي"

المؤلف: الكسندر بيفلاكوا

الناشر: جامعة هارفارد

سنة النشر: 23 فبراير 2018

عدد الصفحات: 360 صفحة

كنت أقرأ كتابًا عن العلاقة الوثيقة بين العقل والجسد، حين أخذتني بعض صفحاته إلى مؤلف كتاب "جمهورية الآداب العربية: الإسلام والتنوير الأوروبي" ألكسندر بيفلاكوا. ثم دفعني فضولي للبحث عن هذا المؤلف على الشبكة العنكبوتية، فوقع نظري على كتابه هذا الذي شدّني إليه العنوان، ومن حسن حظي حصلت على نسخة إلكترونية منه باللغة الإنجليزية، وبدأت بقراءته مباشرة. أول ما يلفت نظر القارئ هو مستوى اللغة الأكاديمية المختصّة التي يصعب على القارئ العادي قراءتها وفهم كل ما فيها. لكن ذلك لم يثنني عن مواصلة القراءة والاستمتاع بهذا الكتاب الموضوعي والنزيه جدًا من حيث الموقف العام لمؤلفه الذي يحاول جاهدًا إبراز فكرة الكتاب العامة وهي أن المعرفة جهد جماعي تراكمي تساهم فيه مختلف الثقافات والشعوب، ولا يمكن إسناد الفضل فيه لبلد واحد أو ثقافة واحدة فقط دون الإقرار بفضل الثقافات الأخرى التي ساهمت فيه. يستعرض المؤلف تاريخ الآداب والعلوم العربية الغني وتأثيرها الكبير على الحياة الفكرية في أوروبا ابتداءً من عصر النهضة وصولاً إلى عصر التنوير. ويركّز الكتاب بشكل خاص على كيفية نقل العلوم والآداب العربية إلى الغرب من خلال ترجمتها إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوروبية، ويبرز دور المستشرقين الأوروبيين الذين عكفوا على جمع المخطوطات العربية ودراستها؛ مما ساعد على سد الفجوة بين الشرق والغرب، وساهم أيضًا في تنويع النماذج الفكرية الأوروبية وتطويرها. ويذكر المؤلف تطور الاهتمام في دراسة اللغة العربية في أوروبا مما أدى إلى إنشاء مراكز وكراسي للغة العربية في الجامعات الكبرى، وتأليف معاجم للغة العربية وكتب في قواعد اللغة العربية أيضًا.

يبدأ بيفلاكوا بوضع السياق الثقافي والفكري لتلك الفترة حيث امتاز القرنان السابع عشر والثامن عشر بزيادة الاهتمام الأوروبي بالعالم خارج حدود أوروبا الجغرافية، سيما بعد الاكتشافات الثورية والتجارة وتوسع الإمبراطوريات آنذاك. كما شهدت هذه الفترة بروز التنوير، وهي حركة فكرية تميّزت بالتركيز على العقل والعلم والتشكيك في السلطات التقليدية. وفي هذا السياق، توجه العلماء الأوروبيون نحو دراسة التراث الفكري الغني للعالم الإسلامي. يعتقد المؤلف أن الانخراط الأوروبي في دراسة العلوم العربية والإسلامية لم يكن مجرد حدث هامشي في تاريخ حركة التنوير، بل كان عنصرًا مركزيًا تطوّر تطورًا كبيرًا حيث سعى العلماء الأوروبيون إلى الحصول على النصوص والمخطوطات العربية في موضوعات مختلفة، بما في ذلك الفلسفة والعلوم والطب وعلم اللاهوت. كما أدركوا أن العالم الإسلامي حافظ على المعرفة القديمة اليونانية والرومانية وأغناها أيضًا، وكانوا متحمّسين للاستفادة من هذا المخزون الفكري والعلمي الكبير.

يعدّ تأثير العلوم العربية والإسلامية في الفكر التنويري الأوروبي من أبرز الموضوعات المركزية في كتاب بيفلاكوا؛ إذ يقدم العديد من الأمثلة على كيفية استلهام المفكرين الأوروبيين من الأعمال العربية. على سبيل المثال، قام بعض الفلاسفة الأوروبيون بدراسة أعمال ابن سينا وابن رشد دراسة مستفيضة، وقد كانت مساهمات ابن سينا في الطب والفلسفة، وخاصة تفسيراته لأرسطو، محل تقدير كبير لدى الأوروبيين. وبالمثل، كان لتعليقات ابن رشد على أرسطو تأثيرٌ كبير أيضًا على الفلسفة الأوروبية، خاصة في تطوير الفكر العقلاني. يسلط بيفلاكوا الضوء أيضًا على دور العلوم والرياضيات الإسلامية في تشكيل المشهد الفكري الأوروبي. فقد تمت ترجمة أعمال علماء الرياضيات والفلك مثل الخوارزمي، والبتاني، وابن الهيثم ودراستها من قبل العلماء الأوروبيين. كما شكّلت رسائل الخوارزمي في الجبر والخوارزميات أساس الرياضيات الحديثة، بينما أثّرت أعمال ابن الهيثم في البصريات في تطوير المنهج العلمي.

ويسلّط هذا العمل البحثي الدقيق الضوء على التبادل الفكري بين أوروبا والعالم الإسلامي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويركّز على كيفية تفاعل المفكرين الأوروبيين مع النصوص العربية خاصة القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدّس ومنهج حياتهم، الذي تمّت ترجمته لأول مرة إلى اللغة اللاتينية من قبل روبرت كيتن Robert of Ketton عام 1143م لإثراء عقولهم وثقافتهم. تعدّ عملية ترجمة الأعمال العربية إلى اللغات الأوروبية موضوعًا محوريًا في دراسة بيفلاكوا؛ إذ يقوم بعرض مفصّل لجهود المترجمين والعلماء الذين عملوا بجد لنقل المعرفة العربية إلى أوروبا. ولم تكن هذه الترجمات مجرد ممارسات ميكانيكية، بل تضمنت فهماً عميقاً للنصوص الأصلية وتفسيرًا دقيقًا لها، وغالباً ما كان على المترجمين سد الفجوات الثقافية واللغوية، مما جعل المعرفة متاحة للجمهور الأوروبي.

وكان من بين الشخصيات الرئيسة في هذه العملية إدوارد بوكوك Edward Pococke، وهو مستشرق إنجليزي وعالم بالكتاب المقدس، حيث لعب دورًا حيويًا في ترجمة النصوص العربية. وكانت ترجماته للأعمال العربية في مجال التاريخ والجغرافيا والفلسفة مؤثرة للغاية. فقد ترجم قصة "حي بن يقظان" لابن الطفيل الأندلسي إلى اللاتينية، وقد أثرت تأثيرًا كبيرًا في الفكر الأوروبي آنذاك. كما وفّرت "المكتبة الشرقية" لبيرتيليمي ديربيلوBarthélemy d'Herbelot ، وهي موسوعة شاملة عن العالم الإسلامي، وفّرت للعلماء الأوروبيين ثروة من المعلومات الغزيرة عن الأدب العربي والتاريخ العربي والثقافة العربية. ويناقش بيفلاكوا أيضًا دور المؤسسات الرسمية الحكومية مثل المكتبة الملكية الفرنسية ومكتبة بودليان Bodleian Library  في أكسفورد، التي جمعت المخطوطات العربية وحافظت عليها من الضياع. وقد أصبحت هذه المكتبات مراكز لدراسات اللغة العربية وعلومها، واجتذبت العلماء من جميع أنحاء أوروبا الذين سعوا لدراسة التراث الفكري الغني للعالم الإسلامي.

ثمّ يسلّط الكتاب الضوء على الشبكات الواسعة من العلماء، سواء الأوروبيون أم العرب، الذين تواصلوا وتبادلوا الأفكار خلال هذه الفترة، وشكلت هذه الشبكات "جمهورية الآداب" التي تجاوزت الحدود الثقافية والجغرافية. ويؤكد بيفلاكوا هنا أن هذا التبادل الفكري لم يكن طريقًا باتجاه واحد، بل شمل الاحترام المتبادل والتعاون؛ فقد كان العلماء الأوروبيون يتراسلون مع نظرائهم في العالم الإسلامي، ويستعينون بآرائهم وخبراتهم. على سبيل المثال، حافظ العالم الهولندي جاكوبوس جولياس Jacobus Golius  على مراسلات حية مع العلماء العرب وتبادل معهم النصوص والأفكار، كما وأثرت هذه الحوارات عبر الثقافات في كلا الجانبين، مما عزز فهمًا أعمق للتقاليد الفكرية السائدة هنا وهناك. ويستكشف بيفلاكوا أيضًا دور السفر في تسهيل هذا التبادل الفكري والثقافي؛ فقد سافر العلماء الأوروبيون إلى العالم الإسلامي، كما وزار العلماء العرب أوروبا في المقابل، مما خلق فرصًا كبيرة للتفاعل المباشر والتعاون الوثيق. وبالفعل، كانت هذه اللقاءات حاسمة في كسر الحواجز الثقافية وتعزيز روح الفضول الفكري والانفتاح على الآخر المختلف.

وينتقل بيفلاكوا لتقديم عدة دراسات خاصّة عن علماء ساهموا في التبادل الثقافي للمعرفة بهدف توضيح وجهة نظره. أحد هؤلاء المساهمين هو اليسوعي الإيطالي فيليبو غوادانغولي Filippo Guadagnoli الذي قضى عدة سنوات من عمره في بلاد الشام يدرس النصوص العربية والإسلامية، وكانت ترجماته للأعمال العربية في علم اللاهوت والفلسفة مقروءة على نطاق واسع في أوروبا، مما أثر في تطوير الفكر المسيحي. وهناك شخصية أخرى مهمة يذكرها بيفلاكوا ألا وهي العالم الفرنسي أنطوان غالان Antoine Galland، المعروف بترجمته لكتاب ألف ليلة وليلة. ومن الجدير بالذكر أن أعمال غالان عرّفت القراء الأوروبيين بالتقاليد الأدبية الغنية للعالم الإسلامي، وأثارت لديهم شغفًا شديدًا بالحكايات الشرقية والثقافة العربية، ولم تكن ترجمته مجرد إنجاز أدبي فحسب، بل كانت أيضًا جسرًا ثقافيًا عبرت من خلاله قصص العالم الإسلامي وحكمته إلى الجمهور الأوروبي.

ويحاول بيفلاكوا في الجزء الأخير من الكتاب إقناع القارئ بأن الاطلاع على العلوم العربية والإسلامية كان له تأثير متواصل على الفكر الأوروبي؛ حيث تحدى ضخ الأفكار والمنظورات الجديدة الآراء الأوروبية التقليدية وساهم في الفوران الفكري التنويري. كما وشجعت دراسة النصوص العربية على اتباع منهج أكثر نقدية للمعرفة وأكثر تشكيكًا بها، مما عزز قيمة العقل والتجريب اللذين كانا ركيزتين أساسيتين في حركة التنوير الأوروبية. علاوة على ذلك، ساهم الانخراط في الفلسفة والعلوم الإسلامية في كسر الحواجز بين مختلف مجالات المعرفة؛ حيث بدأ العلماء الأوروبيون في رؤية الترابط بين التخصصات المختلفة، مما أدى إلى تبني منهج أكثر شمولية في التعلّم. وكان هذا المنظور متعدد التخصصات سمةً مميزة للتنوير حيث مهد الطريق لتبنّي تقاليد علمية وفكرية حديثة.

وفي الختام، يقدم كتاب جمهورية الآداب العربية: الإسلام والتنوير الأوروبي لألكسندر بيفلاكوا سردًا دقيقًا ومقنعًا للتبادل الفكري بين أوروبا والعالم الإسلامي خلال فترة التنوير. ويتحدى بيفلاكوا الاعتقاد بأن التنوير كان ظاهرة أوروبية بحتة من خلال تسليط الضوء على الإسهامات المهمة للعلوم العربية والإسلامية. كما يقدّم موضوع التنوير كحركة عالمية تم إثراؤها بتبادل الأفكار والمعرفة عبر مختلف الثقافات. ويؤكد عمل بيفلاكوا أهمية التعرف على الترابط بين التقاليد الفكرية المختلفة وقيمة الحوار عبر الثقافات. ومن هذا المنطلق، يمكن عدّ كتابه هذا بمثابة تذكير بأن السعي وراء المعرفة يتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية وأن تراثنا الفكري الإنساني المشترك هو نتاج قرون من التعاون والتبادل بين مختلف الثقافات. وفي عالم يزداد تواصلاً وترابطًا، يقدم كتاب بيفلاكوا رؤى قيمة حول الطرق التي يمكن من خلالها أن تتعلم الثقافات المختلفة من بعضها البعض وتثري بعضها البعض. يمثّل كتاب جمهورية الآداب العربية: الإسلام والتنوير الأوروبي شهادةً على قوة الفضول الفكري الدائمة وروح التقصي التي تدفع البشرية باتجاه التقدّم والرقيّ. ومن خلال تسليط الضوء على إسهامات العلوم العربية والإسلامية في التنوير الأوروبي، لا يعمّق بيفلاكوا فهمنا لهذه الفترة الحاسمة في التاريخ فحسب، بل ويشيد أيضًا بالطبيعة المتنوعة والمترابطة للمعرفة البشرية. ويقوم، من خلال عمله هذا، بتكريم العلماء والمترجمين والمفكرين الذين رأبوا الفجوات الثقافية، وساهموا بتشييد جمهورية عالمية حقيقية للآداب والعلوم.


عدد القراء: 885

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-