فضاء المنزل.. شاعرية الحلم اللانهائي الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-05-31 21:53:41

د. سعيد بوخليط

مراكش - المغرب

"يجسد البيت إحدى القوى الكبرى التي تمزج بين الأفكار والذكريات وكذا الأحلام الإنسانية. يمثل حلم اليقظة، مبدأها الرابط'' (غاستون باشلار).

"صار البيت وجودًا حقيقيًا لإنسانية صادقة، كائن يقاوم دون أن يتحمل أي مسؤولية هجومية" (غاستون باشلار).

بالتأكيد يمثل راهنًا فيروس كورونا، إلى جانب المنزل، أكثر المفهومين استهلاكًا لدى البشرية قاطبة؛ على امتداد بقاع الكون. لقد انسحب جل المتصارعين واقعيًا وافتراضيًا، تاركين الساحة جملةً وتفصيلاً، لمتحاربين اليوم بلا هوادة، اثنين فقط، حسب عولمة الإعلام.

واحد يزحف كليًا نحو اجتثاث النوع البشري، تجسده الهجمة الشرسة للوباء، بينما يتوخى الثاني؛ أقصد فضاء البيت، التشبث باستمرارية الحياة والتصدي بكل قواه للعدو الجامح، بتوفيره الحماية لأهل الجنس البشري.

إذن لا حديث راهنًا، سوى للخطابات المنتصرة للصحة، والرهبة من انهزام الجسد أو تخاذله، وبأن الملاذ الوحيد؛ الممكن الوثوق فيه للاحتماء من الطوفان الجارف، يكمن في الانزواء داخل جدران المنزل، وعدم مغادرته غاية إشعار معولم آخر.

بغض النظر عن التوظيف الإجرائي حاليًا بقوة لفضاء البيت، والرهان عليه ماديًا للتقليل من الخسائر التي ستتكبدها مؤسسات المنتظم الدولة برمتها، اقتصاديًا وسياسيًا، في حالة استمرار مغادرة البيت مع تسيّد الوحش للمكان، وعجز العقل الطبي غاية الآن.

أود القول، مقابل ذلك، ظل البيت منذ زمان؛ يشغل هاجسًا عند الفلاسفة والأدباء وكبار الكتاب والشعراء، نظرًا لانطوائه على المعاني الجوهرية للوجود الإنساني: العزلة، التأمل الحميمي، التمركز الآنوي المطلق، الولادة (بطن الأم)، الموت (القبر). بحيث قطعوا مع المفهوم الاجتماعي المعهود، ومنحوه تأويلات ذاتية، تنتعش ضمنها تلك المعاني الأنطولوجية للبيت باعتباره الفضاء الأمثل للفرد؛ كي يتسامى بوعيه غاية، كنه مدارج الأسئلة الحقيقية. 

اتفق هؤلاء،على أن البيت ورش دائم؛ للتفكير في مصير الحياة/الموت، أو الموت/الحياة، مادام يستحيل تحديد بدايات ونهايات، سواء للأولى أو الثانية، وبالتالي انتشلوه من سياقاته المجتمعية النمطية محلقين به صوب آفاق حُلُمية خصبة، مغايرة تمامًا للتصور المكرس بين طيات اللاوعي الجمعي. فانعدمت داخل هذا البيت مختلف المظاهر التي يمكنها الاحتفال بمرتكزات الثقافة المجتمعية في صيغتها النمطية، التي تشكل معطيات سعادة لمعظم الحشد.

تحضرني هنا سريعًا تلميحات تمثيلية؛ لبعض هذه النماذج :

  •  البيت/سكينة الغابة :كوخ مارتن هيدغر في الغابة السوداء.
  •  البيت/مرتفعات الجبال: استقرار نيتشه في أعالي جبال الألب.
  •  البيت/الفنادق: شارل بودلير، عبد الرحمن بدوي… 
  •  البيت/اللقاءات الفكرية: ولادة بنت المستكفي، مدام دوستايل، مي زيادة، عباس محمود العقاد، أحمد تيمور…

حاول كل نموذج، تبرير هذا التصور المختلف لفضاء البيت ومعنى النجاة والسكينة. لكن يظل غاستون باشلار، شاعر الفيزياء وفيزيائي المشاعر الإنسانية؛ أهم فيلسوف اهتم بالتنظير لهذا الجانب، بحيث خصص حيزًا مستفيضًا للاستدلال عن شاعرية البيت، وأضفى على الفضاء المحدود هندسيًا وفيزيائيًا، ممكنات شعرية لانهائية، تجعل الفرد حالمًا باستمرار؛ من ثمة هرمون السعادة المتأتي من التوازن السيكولوجي بين الأحلام الليلية ثم شرود اليقظة.

التصور الذي جاء بها باشلار، عبر الارتقاء بالبيت من البعد الهندسي إلى الشاعري، يدرَّس اليوم لطلبة الهندسة في أرقى المعاهد الفرنسية، ويلزم حقيقة  تعميم رؤية جمالية من هذا القبيل، فتأخذ سبيلها نحو كل المنظومات التربوية التي تتوخى صدقًا، أن تخرج من باطنها إنسانًا بالمعنى المتكامل للمفهوم، يدرك كيفية التوظيف الذكي لمشاعره، والشعري لذكائه؟. 

لقد شكل التصور الباشلاري قطيعة مفصلية، مع التصور الموضوعي الملتزم بحدود الأبعاد الهندسية، مستلهمًا المنهج الفينومينولوجي، القادر وحده على ملاحقة ارتدادات ولادات الصورة، بهدف تملك حيثيات سيكولوجية الدمج والاحتضان. هكذا درس باشلار البيت، من زاوية ظاهراتية وجمالية باعتباره فضاء للألفة وتفتقًا للخيال.

نحيا مع البيت مختلف ذكريات ماضينا، يحفظها من الضياع؛ مثلما أنه يهذب خيالنا، هكذا يجسد في نهاية المطاف كونا حقيقيًا. يبعث على الحلم، يدمج الماضي والحاضر ثم المستقبل، ويعطي أزمنتها ديناميكية بناءة. بالتالي، يخلق البيت عوامل الاستمرارية المبدعة في حياة الإنسان: "هدفنا الآن واضح :يلزم توضيح، بأن البيت يجسد إحدى القوى الكبرى التي تمزج بين الأفكار والذكريات وكذا الأحلام البشرية. يمثل حلم اليقظة، المبدأ الجامع بينهما"(1).

يطوي البيت ذكرياتنا وأحلامنا وهواجسنا الحميمة ورغباتنا الدفينة، بحيث تحلق بنا أحلام اليقظة صوب أماكن لحظات عزلتنا الماضية، فنعيد خياليا بناء الزوايا التي احتضنت وحدتنا وخبرت همومنا: "كل ما يجب قوله عن بيت الطفولة، يجعلني حالمًا، ويضعني عند عتبة حلم اليقظة، فأستريح في الماضي. حينئذ آمل، أن تمتلك صفحتي بعض الرنين الصادق. أريد التحدث بصوت بعيد جدًا، يسكنني داخليًا، يسمعه كل واحد منا حين إصغائه إلى عمق الذاكرة، عند حد الذاكرة"(2).

كانت تأويلات باشلار للبيت، رسمًا بيانيًا سيكولوجيًا يزاوج بين الظاهراتية والجمال، أمدت الأدباء والشعراء بفهم عميق ولطيف جدًا في ذات الوقت؛ للحميمة الإنسانية. مسألة تتجلى بامتياز في الامتداد الوجودي من البيت إلى الكون، فاستعاد باشلار بهذا الخصوص أمثلة من الأدب العالمي، نسجت تأملات محض ذاتية لفضاء البيت، لاسيما لحظات مواجهة تقلبات الكون: ''أضحى البيت…وجودًا حقيقيًا لإنسانية صادقة، وكائنًا مقاومًا دون تحمله مسؤولية الهجوم''(3). يوفر البيت حماية للكائن البشري، يقيه شر تقلبات الطبيعة، ويمنح المبدعين مجالاً حميمًا بهدف إصغائهم جيدًا لميلوديا الكون.

 أحس بودلير مثلاً، بألفة متزايدة، حين تواجده داخل بيت تحيطه الأمطار، ذلك أن سعادة الدفء الداخلي تمنحه إحساسًا آخر بالبيت، وهو بصدد مواجهة قسوة العالم الخارجي.

أما ماريا ريلكه، فقد وصف تصدي البيت لعدوانية الأعاصير: "يستثمر البيت انتصاراته ضد الإعصار. وبما أنه ينبغي تجاوز سطوة الوقائع، أثناء مقاربتنا للخيال، سندرك جيدًا أنه في حضن بيت قديم، نتمتع أكثر بالراحة والطمأنينة، ثم داخل البيت الأصلي مقارنة مع بيت الشوارع التي نقطنها بشكل عابر"(4).

كذلك، يتميز منزل هنري بوسكو، وقد شيده الأخير في منطقة كامارج بالقرب من نهر الرون، بصلابة المقاومة، فاكتسب جراء ذلك فضيلة إنسانية، توفر الحماية وتضفي الطمأنينة على قاطنه. يقف بنبل وشجاعة أمام جبروت الطبيعة ومساوئها؛ متجاوزًا بذلك إطاره الهندسي نحو حالة نفسية زاخرة وغنية.

عاجلاً أم آجلاً، سيتقلص جبروت الوباء، وسيشرع الناس في مغادرة بيوتهم؛ كي يتحسسوا رويدًا رويدًا؛ بخطوات بطيئة سبيلهم نحو صخب الفضاء العام. عمومًا، لن يحتفظ  الكثير منهم بحس شعرية البيت ومن خلاله ممكنات سكينة العالم. عالم ستنخره ثانية، صباحًا ومساءً، فيروسات أخرى أقل عولمة إعلاميًا؛ لكنها لا تقل فتكًا عن شراسة كورونا.

الهوامش:

1-1 Gaston Bachelard :la poétique de l espace ;(PUF) ;Paris1957 ;10éme édition 1981.page :26.

2 – نفسه  ص: 31

3 - نفسه ص:  56

4 - نفسه ص:  55


عدد القراء: 4264

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-