المهم أن تكون إنسانًاالباب: مقالات الكتاب
د. سعيد بوخليط مراكش - المغرب |
جاء مضمون الخبر على المنوال التالي: «هذه الصورة التقطت خلال المجاعة في السودان سنة 1994، وحصلت على جائزة بولتزر، حيث يزحف هذا الطفل الذي ضربته المجاعة وأنهكت جسده النحيل، باتجاه مخيم للأغذية يبعد عنه بكيلومتر. والنسر، الذي لا يأكل إلا الجيف يقف على مقربة منه ينتظر موته حتى يأكله. هذه الصورة هزت العالم، ولا يعرف أحد ما حدث للطفل بعد ذلك ….بعد ثلاثة أشهر، وُجد المصور ''كيفن كارتر''، منتحرًا ربما متأثرًا بهذا المنظر، وما يحمله من كآبة وإحباط».
في عالمنا العربي، يظل أشهر مثال، يعكس هذا النوع النادر من رهافة الحس الإنساني، إقدام الشاعر اللبناني خليل حاوي على الانتحار، بحيث خرج إلى شرفة نافذة وأطلق النار على نفسه، احتجاجًا على اجتياح الجيش الإسرائيلي سنة 1982، لعاصمة عربية تسمى بيروت.
شهر نوفمبر 1965، انتحر الأمريكي نورمان موريسون، بالنار أمام مكتب وزير الدفاع، معلنًا رفضه للحرب التي تخوضها جيوش بلده، ضد الشعب الفيتنامي.
شهر يناير 1969، أقدم طالب فلسفة تشيكوسلوفاكي، يسمى جان بالاك على إضرام النار في جسده علانية، وسط ساحة ''وينسيسلاس'' تحولت فيما بعد إلى مزار، معلنًا بطريقته أيضًا رفضه القاطع، أن تقتحم دبابات الاتحاد السوفياتي بلده، وتقمع ثورة ألكسندر دوبشيك السلمية. هكذا،لا يمكن التأريخ لربيع براغ دون الوقوف عند تضحية بالاك الأسطورية.
يوم 16 مارس 2003، ستسحق عمدًا وبطريقة في غاية الوحشية، جرافة إسرائيلية، جسدًا نحيفًا تسكنه إنسانية هائلة، لشابة أمريكية تدعى راشيل كوري، عضوة حركة التضامن العالمي، سخرت وتهكمت من موت الضمير البشري، فشدت الرحيل كي تتضامن مع الفلسطينيين، على أرض الواقع، خلال انتفاضتهم الثانية ضد الاحتلال.
يوم الجمعة 17ديسمبر2010، أحرق التونسي محمد البوعزيزي نفسه، أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، محتجًّا على اغتيال كرامته بعد أن صفعته الشرطية فادية حمدي أمام الملأ، وشتمته بالكلمة البذيئة: . dégage حريق، سيشعل حرائق مستمرة حتى الآن، في جسد التاريخ والجغرافية العربيتين المعاصرتين.
يقال أيضًا: إن امرأة مجهولة الهوية، أكثر من تنظيرات فولتير وروسو، من أشعل فتيل شرارة الثورة الفرنسية، حينما أسرعت بالخروج إلى الشارع محتجة، تطالب بالخبز….
يكفي أن تكون إنسانًا حقًّا، كي يبدأ العالم انسيابه اللين، وإنسانية الفرد تتجلى هكذا، دونما ضرورة إلى هضم قبلي لنظريات أخلاقية أو دعاية لأكليشيهات جاهزة، بل يجدر تحققها عفويًّا على السليقة. تتسامى، المسألة على كل الشروط الذاتية والموضوعية والتصنيفات المعيارية والمواضعات. هي، حالة تجري مجرى الماء، لقيم الحق والخير والشجاعة والتسامح والنبل والإباء….
حينما يستيقظ المرء صباحًا، ويتملى بأناة شاعرية وجهه في المرآة، سيلاحظ بتفرس، فعل تعرية الزمان المر وما صنعته بفروة سحنته. سنوات انقضت من عمره وذابت ربما بين تلابيب ذاكرة النسيان، وربما كذلك، على غفلة ودون إدراك، لحظتها قد يتساءل: أين إنسانيتي، من كل هذا؟ لا سيما، ونحن في حقبة دقيقة. ما هي درجات، تبلورها؟ كيف لي أن ألمس معانيها ودلالاتها، على الرغم من كل ما يحول بين المرء ونفسه، المرء وحقيقته، المرء وممكناته؟ سلوكات، على مقتضيات ومواضعات استيلابية، تسطو على حرية الفرد، فتضيع آدميته.
إن تربية الشعوب وارتقاءها، يبدءان جوهريًّا، من النزوع الأنطولوجي لأفرادها صوب جعل ذواتهم، سؤالاً لا نهائيًّا. لكن، كي لا يصاب المرء بالقرف والضجر، حين اختبار ذاته، باستفهام اعتراضي: لماذا أتيت إلى هذا العالم؟ ماذا أصنع هنا؟ ما المبررات؟ بوسعه، التخلص من هذا التيه، بإشكال مغاير: إن الحياة والموت، بمثابة صراع أبدي بين الزمانين الذاتي والوجودي. أين يبدأ الموت، ومتى تنتهي الحياة؟ من ثم، يستحيل وضع الثنائي موت- حياة، ضمن إطار تعريفي قائم كليًّا، تحترم داخله المعايير.
لا شك، أن النماذج البشرية الاستثنائية، التي أشرت إليها على سبيل التمثيل فقط، لا الحصر، احتفظت وتحتفظ وستحتفظ بها ذاكرة التاريخ دائمًا، دونما ملايين البشر الآخرين، لأنهم جسدوا السلوك الذاتي النوعي، المؤشر على الانسجام المطلق بين الفرد وماهيته الوجودية. ذوات، مثل النيازك، تقطر الطبيعة بأحدهم كل مئة سنة ربما كأدنى تقدير، كي يردوا للإنسانية بريقها ووهجها، بعد أن أضاعتهما، وقد تربصت بها أوثان الزيف والمكر والخديعة. في هذا السياق، يقفز إلى الأذهان بقوة، الجدل اللانهائي بين التاريخ الفردي والكوني، بمعنى ثان، هل الفرد مجردًا، قادرًا على صنع التاريخ؟ أم الجماعة، وحدها مؤهلة بامتياز لفعل ذلك؟ إن المسألة، في اعتقادي لا تُطرح وفق هذا الفصل المفهومي الصارم، لكن الأمر أساسًا يروم نحو استبدال قراءة التاريخ، من التدوين الرسمي المؤسساتي النمطي، نحو ثان فردي، يلقي به قصدًا إلى كَفَن النسيان والإقصاء. تفرض المؤسسة بصرامة، منظورها ولغتها وأسلوبها وتحديداتها، يصعب حقيقة التخلص من تأثيرها، دون توفر المتلقي على جرأة السلوك وقوة الشخصية وثقابة الذهن، ثم الأهم، جعل زمانه الذاتي سندًا مرجعيًّا، يستحضر من خلاله اللحظات الوجودية النوعية، التي أرسى بها هؤلاء المقصيون، عمدًا، من أرشيفات التاريخ المؤسساتي، تاريخهم الفردي وقد أضحى تاريخًا كونيًّا.
رفض الصحافي كيفن كارتر، الاحتفاء بالتتويج، مفضلاً في المقابل أن يتقاسم مع الطفل السوداني آلام احتضاره جوعًا، ويشنق نفسه إراديًّا على مقصلة الجشع والشر، اللذين يسكنان ويحركان، نزوعات المتحكمين في مصير العالم. طبعًا، هناك خلل، لذلك يمثل موته، دحضًا وتقويضًا على طريقته البليغة، لقوانين جائرة، يشهرها الإنسان في وجه أخيه الإنسان.
أيضًا، وحتى لا يكون المبدع الإنساني فرانز كافكا، جحيمًا بأي شكل من الأشكال، فقد قيل الكثير عن وصيته لصديقه ماكس برود، بأن تُحرق جميع كتبه، كي لا يؤرق، ويلزم شخصًا ما، بفكرة من أفكاره.
فماذا لو ساجل الواحد منا نفسه، باستمرار؟ يحاكم إنسانيته، عند كل إحساس بالرغبة في غض الطرف؟ يأبى، استساغة البشاعة والقذارة، منتشلاً أنانيته السوية، عن الأخرى الخرقاء المريضة، وقد أخذت معها ضمائرنا مذاق قطعة لحم تتقاذفها كلاب جائعة مسعورة. أظن، حين التماهي بصدق مع شعور كهذا، عندئذ ستصير حتمًا للعالم بداية.
وأنت، تلقي بيسر، لقمة طرية في فمك، تذكر بشرًا كثيرين، يتلاشون جوعًا خلال الآن ذاته، ثم لا يتذوقون أملاً. حينما، تدير بسرعة، قفل باب منزل جميل ونظيف، يقيك أهوال ما يحدث على امتداد العراء، صيفًا وشتاء، فلا تنسى أبدًا أن غيرك قد تنكرت لهم بلا شفقة جميع الشرائع الأرضية، ولم تقبل بهم غير حفر الجرذان، كي تتقاسم معهم مجاري المياه. تذكر جيدًا، وأنت تنام حالمًا بملء جفونك، أن بشرًا لا يعرفون لحقهم في النوم سبيلاً، مربوطين بسلاسل كالدواب إلى جدران زنازين ومستشفيات للأمراض العقلية، يئنون باستمرار وجعًا واحتقارًا، لم ترتق إنسانيتهم إلى حركة دعك أعقاب السجائر. علّم ذاكرتك، الوفاء لمن قست عليهم الديار وأهل الديار، باسم جنونهم، هكذا لن يجدوا ما يسدون به رمقهم، في أفضل أحوالهم، سيقبعون، في جوف ظلمات حفر موحشة، فقط الخفافيش ترق لحالهم. وأنت تلتهم كالدود حقوق الآخرين، بغير وجه حق يذكر، جرّب كل مساء ولو لبرهة، تصفح حكاية من حكايات السابقين، كي تتيقن أن العظماء هم عظماء ، بالتالي، يستحيي الدود الاقتراب من أجسادهم الطاهرة. بالمطلق، سعادتك من سعادة الآخرين.
لا تلوث نقاء ذاتك، باختلاس أحلام ليست من حقك. ذات غفلة، منك، ومني، ومنا جميعًا، ستترك هذا العالم وحيدًا، دون رجعة، لكن وحدها سيرة أدميتك، ترشد الناس كل صباح صوب قبرك.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- رواية المحاكمة: الجميع مذنب
- أرخبيل غولاغ: الرواية التي زلزلت إمبراطورية
- جاك ديريدا: إرثه بعد عشر سنوات من وفاته!*
- خورخي بورخيس: عالمي هو المكتبة
- كيف تصبح كاتبًا : حوار مع عبد الفتاح كيليطو*
- سفيتلانا أليكسيفيتش: الحرية درب طويل وشاق
- المهم أن تكون إنسانًا
- أحقّاً هو الشاعر أرثر رامبو؟
- جوزيف كيسيل في سوريا
- النزعتان الإنسيانيتان 1
- 1984: أو الصحن الطائر للخيال العلمي1
- تأثير غاستون باشلار في النقد الأدبي الفرنسي
- تودوروف: الديمقراطية بين التوتاليتارية والليبرالية الجديدة*
- حول الدولة: دروس بيير بورديو في كوليج دو فرانس
- الصورة الأدبية
- ظهور الرواية: دون كيشوت والانقلاب السري؟
- رولان بارت في ذكرى ميلاده المئوية
- ألبير كامو: فرنسا، الجزائر، والسياق الاستعماري
- بيرنار بيفو: «أن تشيخ مزعج جدًّا»
- تفاصيل محاكمة شارل بودلير
- غاستون باشلار: «أنا أستاذ سيئ لتدريس الأدب»
- فضاء المنزل.. شاعرية الحلم اللانهائي
- ستون سنة عن رحيل ألبير كامو: سجال يحتدّ
- أمبرتو إيكو: درس في السيميائيات العامة
- جان بول سارتر والوجودية العربية، الصدمة والقطيعة
- سيلفي لي بون دوبوفوار: رسائل أمي إلى نيلسون ألغرين (1947- 1964)
- ألبير كامو وماريا كازارس: حبّ جارف..
- كتابات عن الطاعون
- غاستون باشلار: ملهم الشعرية الحديثة
- محمد عابد الجابري وغاستون باشلار
- حيثيات وفاة رولان بارت
- غاستون باشلار: الرياح
- غاستون باشلار: اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية
- حول الدولة: دروس بيير بورديو في كوليج دو فرانس
- بيير بورديو: ماهية النيوليبرالية؟
التعليقات 2
جميل بارك الله فيك أستاذي الفاضل
المقال روعه وجميل جدا الف شكرا .
اكتب تعليقك