سيلفي لي بون دوبوفوار: رسائل أمي إلى نيلسون ألغرين (1947- 1964)الباب: مقالات الكتاب
د. سعيد بوخليط مراكش - المغرب |
ترجمة: د. سعيد بوخليط
تقديم:
خلال عروض للمزاد العلني، سبق لجامعة كولومبوس أوهايو، أن اشترت حقوق رسائل سيمون دو بوفوار التي دبَّجتها باللغة الإنجليزية إلى نيلسون ألغرين، في حين احتفظت بوفوار بالمراسلات الأخرى الحاملة لتوقيعات الكاتب الأمريكي ألغرين.
لقد حددتُ بهذا الخصوص تصورًا يتعلق بمشروع للنشر يأخذ بعدًا مزدوجًا، لكن وقع التراجع عنه لأسباب سأقولها، بحيث لن يكون تحت تصرف القراء هنا، سوى ما كتبته سيمون دو بوفوار إلى ألغرين بين سنوات (1947- 1964) (ثلاثمائة وأربعة رسالة).
ضد مختلف التطلعات، وبعد صمت طويل الأمد – طيلة سنة تقريبًا- أنهى وكلاء نيلسون ألغرين الأمريكيين أملنا بإصدارهم اعتراض على طلباتنا المتكررة وتأكيدهم لرفض دون استئناف. رفض الكشف عن رسائل ألغرين، دون تفسير ولا تبرير. طبعًا، وجب الامتثال لهذا القرار الجائر. للأسف، لاسيما بالنسبة لألغرين، سيقدم إصدار من هذا القبيل خدمة وافرة، لأن الشخص كما الشأن مع الكاتب، على امتداد سبعة عشر سنة من المراسلات الحميمة غير مسبوقة في حياته، مستضيئًا بضوء غير مترقب، ودافئ، سيبدو ربما أكثر مماثلة لحقيقته، ترمِّم بشكل أفضل غموض شخصيته مقارنة مع بعض أعماله الروائية أو سيرة ذاتية عادية.
لأن مساهمة سيمون دو بوفوار مثَّلت مجموعة كافية؛ فبوسعنا اعتبار الإصدار جراء ذلك كما لو كان تامًا رغم القطائع الأساسية التي تستدعي تكرارات مرتبطة سواء بشرود صاحبة الرسالة، أو نتيجة إرادتها لتدارك احتمالات طوارئ المصالح البريدية. خلال كل مرة اقتضته أحادية جانب القصد، بادرتُ إلى إدراج التدقيقات الضرورية (ردود فعل نيلسون ألغرين، مواقف يومية أو سياقات مهمة) بهدف تواصل الخيط الناظم للقراءة وكذا وضوحها.
إنها حالة خاصة مقارنة مع رسائل عديدة تبادلتها بوفوار طيلة حياتها، بحيث يظل العمل الحالي ''رسائل إلى نيلسون ألغرين: عشق فيما وراء المحيط الأطلسي'' نموذجًا فقط لنفسه لا شبيه له. ذلك أن مراسلاتها المتميزة الأخرى متجانسة دائمًا، ومتقاربة قبل أن تصبح حميمة، مادامت تنحدر جميعها من ''عالم مشترك''. فحين كتابتها، تكشف عن اختلاف ضمن إطار قرابة منتقاة. هنا، على العكس من ذلك، تبعث الرسائل، ليس لقاء بآخر انطلاقًا من كونه لقاء ذات بذاتها، مثلما عكسته مثلاً رسائلها إلى سارتر، بل ببساطة يعتبر لقاء مع آخر. الوقائع في هذا السياق لا تفسر كل شيء.
يتجه تفكيرنا مباشرة، صوب اختلاف جنسية الطرفين، مما فرض على الفاعليْن الأساسيين، تبعًا لمقتضيات الوضع المبتذل لصفة ''أجنبي"، السمات النمطية الأمريكي ثم الفرنسية. لا يتعلق الأمر فقط بهذا، أو بعنوان رمز أولي وملموس لراديكالية معطى الأجنبي، الذي فصل بينهما بغض النظر عن الوقائع. أبعد أحدهما عن الثاني مثلما اجتذبهما.
اقتحام لا متوقع وفظ، لعالم سيمون دو بوفوار سنة 1947، كما لو أن الأمر يتعلق بقدوم كائن فضائي، أجبرها على سياقات أخرى، وتقديم توضيحات، بخصوص معتاد غني عن البيان: بداهات، افتراضات، مكتسبات، ثم حقائق مألوفة عن ''عالم مشترك'' تقاسمته مع محاورِين آخرين. نتساءل بخصوص إمكانية تمثُّل بوفوار لهم ككائنات قادمة من القمر، أذكر في هذا الإطار، جان كوكتو، أندريه جيد أو غابرييل كوليت؟ وتقدم نفسها بدورها، خارج إطار تاريخها، ماضيها، حياتها الباريسية؟ لا يمكن تصور ذلك، مجرد حشو بلا معنى، مادام هؤلاء قد تقاسموا وجود بوفوار في كلِّيته باعتبارها امرأة وكاتبة.
إذن، لم يكن مطروحًا بالنسبة لهؤلاء أن تروي لهم تفاصيل دخول النازيين إلى لابويز، إريك جياكوميتي، الولع بالبدايات الجديدة قبل أول لقاء مع سارتر، الانتشاء سعادة وفرحًا حين الإعلان عن التحرير، ذوقها وكذا نفورها الأدبيين، ألبير كامو، أرثر كوستلر، تشارلز دولين، شغفها بالمشي، فزعها من العدم الأسروي، المغارات ''الوجودية''، بيير براسور، ثم لقاءات التجمع الديمقراطي الثوري.
أما بخصوص حالة نيلسون أليغرين من شيكاغو، المنتمي إلى كوكب ثان، فيلزمه الإحاطة بكل المعطيات عن بوفوار، ويكتشف مختلف تفاصيل حياتها. بالتالي، لا مجال للاحتفاظ بسند مسكوت عنه، أو بداهة هوياتية، ولا حيز للمضمر والضمني. يسير الواحد نحو وجهة الثاني انطلاقًا من سنوات ضوئية للانفصال. آه! بالتأكيد! يستحيل التقليل من شأن الجوانب التي تقرب بينهما. أساسًا وضعهما المشترك باعتبارهما كاتبين، خَلَقَ بينهما أخوة، علاقة عملية، متينة وحيوية مثل العمل، لم يكن بوسع أحدهما الاستغناء عنها. تجلت معها الاختلافات بكيفية أقوى: ما لمشترك بكيفية ملموسة عبر وعيهما، تجربتهما المعاشة، طموحاتهما المشتركة بناء على وضعيتهما ككاتبين؟ نصطدم بما هو غير قابل للاختزال، الاكتفاء مرة أخرى بالتفسير الواقعي الخالص (التنوع الثقافي، إلخ) لا يقدم توضيحًا كافيًا.
حينما لا يكون الأمر بديهيًا، ثم تتوارى أُلفة العالم المطمئِّنة، فلن يمكث سوى عري الحضور الخالص. الواحد أمام الثاني، امرأة ورجل جمعهما الحب دون أن يعرف أحدهما الثاني. ارتشفا عصير المحبة، ثم بعد ذلك حدق أحدهما في وجه الثاني :من الماثل هنا، أمامي؟ تجربة مدهشة، مثيرة، ومقلقة.
مما لا شك فيه، فقد استند أساس انجذاب سيمون دو بوفوار، ثم مبادرتها إلى تدوين أول رسالة أخذت وجهتها نحو ألغرين، على إنعاش ينساب عن بعد بَثَّه حيالها ثم معها، وأجبرها على الانطلاق ثانية من الدرجة الصفر، كما تحوَّل بها إلى أرض عذراء. بداية جديدة مطلقة، مجازفة دون أمان شبيهة بخطورة سفر خلال تلك الفترة، عابر للمحيط الأطلنطي من باريس إلى نيويورك. وُجد هذا الحب بفضل الطائرة وتلاشى أيضًا بسببها. فالطائرة، مثل الحب، تلغي طائرة الحب، المسافات بترسيخها أيضًا.
منذ بداية الحكاية غاية نهايتها تهدر المحركات الأربع لمراوح النيزك الذي يضمن رحلات الذهاب والإياب، مغامرات لازالت مثيرة خلال تلك السنوات، ومحفوفة بالمخاطر. يستحيل التمييز بين استحضار حادثة تحطم قاتلة، ثم قلق عاشق.
تعود إلى نيلسون ألغرين اتخاذ مبادرة إلغائه مسافة الطريق الطويل الذي تحتم عبوره. أيضًا، قرر استعادة تلك المسافات. أولاً، سنة 1950 دون إعلانه التخلي، مثلما سيحدث أخيرًا سنة 1964. فماهي أسباب ذلك؟ يجب على القارئ أن يؤول، يحدس، يتأمل. أسباب، مسوغات، كيفما جاءت التسميات، يتجاوز مصدرها بالتأكيد، كل تبرير، فلا تهم المصطلحات المتداولة في هذا الإطار سواء نتيجة التنافر الأساسي بين جوهريهما، كنه شخصيتهما، وجودهما، اختياراتهما الأساسية، تشكلُّهما الذاتي: سيمون دو بوفوار''موهوبة للفرح"، بينما يجسد نيلسون ألغرين ضحية عُصاب نفسي معين نتيجة الفشل. فهل عَكَس دائمًا الصنو المرفوض: "صاحب قمصان هوفر ذات الياقات المتصلبة''، رجل عنيد أشبه بزومبي ينخره الاستياء، انتهى مرتعدًا حيال نموذج ''الشاب الأنيق"، ''الشاب الظريف والنيئ" المرح، البشوش والودود .إنها خاتمة مرعبة وتدعو للرثاء: تراجيدية.
سنة 1965، صدرت الترجمة الأمريكية لكتاب بوفوار "قوة الأشياء". انطوت بعض صفحات العمل، على جانب من حيثيات علاقتها مع ألغرين، معناها، الخيارات المؤلمة حيث احتُجزت طبيعتها نفسها. تقول بنبرة تحذيرية مخاطبة ألغرين: "أتمنى أن لا تشعركم الصفحات المخصصة لكم بالإزعاج لأني كشفتُ بين طياتها عن كل دواخل قلبي". بيد أنه تفاعل بعنف، مكررًا على المستوى العمومي تأكيدات متذمرة وحقودة. ثم، صمته، غاية موته سنة 1981، حيث تجاوزت حيثيات ذلك رمزيًا ما يسمح به الروائي: موت منعزل لشخص منعزل، منهك داخل بيته وبعد ذلك لن يهتم شخص بدفنه .تقول عناوين إحدى الجرائد: "جثة ألغرين غير المطلوبة!".
في خضم تخليه عنها، علمت سيمون دوبوفوار بنوع من الاندهاش أنَّ نيلسون ألغرين، رغم كل شيء، لم يتلف رسائلها. بهذا الخصوص، تقبَّلت إيجابًا إمكانية استشراف ميلاد إصدار، لكن وفق شرط صريح يتمثل في أن تفحص بنفسها الإصدار وكذا الترجمة. في انتظار، تحقق أمر من هذا القبيل، حظرت بوفوار كل إحالة على رسائلها أو استشهاد بفقراتها. مشروع لم تمتلك الوقت لمواصلته، فأخذته على عاتقي ثم واصلتُه غاية منتهاه. فضلاً عن القيمة الجوهرية للرسائل، تحفزتُ بدافع شبه استحالة التقيد بعيدًا جدًا برغبة، الإرادة الصريحة التي شكلت هاجس سيمون دو بوفوار. انطلق إبان حياتها، سلب جشع لمسوداتها، التي انعدمت بخصوصها رعاية جيدة داخل أرشيفات مفتوحة على مختلف الاحتمالات، ثم اشتد وقع ذلك بعد سنة 1986(وفاة بوفوار)، حينما تضاعفت دون أدنى وجه حق سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا، مظاهر الاستثمار الفظ وسلوكيات القرصنة الأدبية، من طرف مؤرخي السِّير زعموا امتلاكهم تفويضًا، ثم صحافيين باحثين جامعيين يطاردون المحظورات بقسوة، وقد استند كل واحد منهم على تجاوزات غيره.
هكذا وقع ما خشيته سيمون دو بوفوار: قالوا على لسانها كل شيء وأيّ شيء. مع صعوبة تفكيك كتابتها، في حالة غياب التمرس على تلك النصوص، بجانب سوء الفهم المقصود أو غيره (مع غياب وجهة نظر نيلسون ألغرين)، فإننا ننتهي إلى نتائج مفارقة، نتيجة انعدام الكفاءة، غياب التجربة أو فقط رغبة في إشاعة الخبث. فكيف لا يمكننا استلهام مصطلحات وأحاديث أقل براءة حينما يكتبون ثانية بدم بارد "أشقر'' بدل ''عزيزي"؟ وضع يقتضي إذن تثبيت أصالة النص، وفق نية صادقة من خلال تبني قراءة سليمة، وترجمة دقيقة، ترمم فضلاً عن ذلك، قدر ما يمكنها الاجتهاد، أسلوب كلام سيمون دو بوفوار، قاموسها، صنيعها، إيقاعها، بل هواجسها.
ظلت أجوبة نيلسون ألغرين، ماثلة بين يدي، لم تختبر بالتأكيد التجربة نفسها. بالتالي، شكلت بالنسبة إلي معطى ثمينًا قراءتها، وترجمتها، بغض النظر عن استفادة عموم الجمهور من عدمه، لأنه دون حتمية وجودها المادي الحاضر في الجهة المقابلة، يكفي حينها مجرد تبلور قصد مطلق كي يجعل رسائل بوفوار موضوعًا لتحريف متداول. كذلك، بما أن ألغرين أرَّخ تقريبًا لأزمنة رسائله، فقد مكنني هذا التوثيق من تصحيح أخطاء الترتيب الذي انطوت عليه المسودات الأمريكية بسبب فعل يد مجهولة.
الهوامش:
Sylvie Le Bon de Beauvoir : in ;Lettres a Nelson Algren (1947- 1964) ;Gallimard 1997
للإشارة، تعتبر الباحثة سيلفي لوبون دو بوفوار، ابنة سيمون دو بوفوار بالتبني.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- رواية المحاكمة: الجميع مذنب
- أرخبيل غولاغ: الرواية التي زلزلت إمبراطورية
- جاك ديريدا: إرثه بعد عشر سنوات من وفاته!*
- خورخي بورخيس: عالمي هو المكتبة
- كيف تصبح كاتبًا : حوار مع عبد الفتاح كيليطو*
- سفيتلانا أليكسيفيتش: الحرية درب طويل وشاق
- المهم أن تكون إنسانًا
- أحقّاً هو الشاعر أرثر رامبو؟
- جوزيف كيسيل في سوريا
- النزعتان الإنسيانيتان 1
- 1984: أو الصحن الطائر للخيال العلمي1
- تأثير غاستون باشلار في النقد الأدبي الفرنسي
- تودوروف: الديمقراطية بين التوتاليتارية والليبرالية الجديدة*
- حول الدولة: دروس بيير بورديو في كوليج دو فرانس
- الصورة الأدبية
- ظهور الرواية: دون كيشوت والانقلاب السري؟
- رولان بارت في ذكرى ميلاده المئوية
- ألبير كامو: فرنسا، الجزائر، والسياق الاستعماري
- بيرنار بيفو: «أن تشيخ مزعج جدًّا»
- تفاصيل محاكمة شارل بودلير
- غاستون باشلار: «أنا أستاذ سيئ لتدريس الأدب»
- فضاء المنزل.. شاعرية الحلم اللانهائي
- ستون سنة عن رحيل ألبير كامو: سجال يحتدّ
- أمبرتو إيكو: درس في السيميائيات العامة
- جان بول سارتر والوجودية العربية، الصدمة والقطيعة
- سيلفي لي بون دوبوفوار: رسائل أمي إلى نيلسون ألغرين (1947- 1964)
- ألبير كامو وماريا كازارس: حبّ جارف..
- كتابات عن الطاعون
- غاستون باشلار: ملهم الشعرية الحديثة
- محمد عابد الجابري وغاستون باشلار
- حيثيات وفاة رولان بارت
- غاستون باشلار: الرياح
- غاستون باشلار: اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية
- حول الدولة: دروس بيير بورديو في كوليج دو فرانس
- بيير بورديو: ماهية النيوليبرالية؟
اكتب تعليقك