محمد عابد الجابري وغاستون باشلارالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 07:03:28

د. سعيد بوخليط

مراكش - المغرب

استند المشروع الفكري الذي تبناه الأستاذ محمد عابد الجابري، على مجموعة مرتكزات بنيوية أساسية، صاغت مشاربه المفهومية دون كلل أو نكوص طيلة أربعة عقود، وفاءً لهواجسه البحثية الإيديولوجية، التربوية، الابستمولوجية. تبعًا لمقتضيات ثلاث جبهات أساسية؛ ظلت متلازمة بكيفية هيكلية أسئلة أوراشها:

 *تحقيق قطيعة نوعية مع منظومة المجتمع القديم، بتوطيد روافد مشروع مجتمعي تحديثي، قوامه الدولة الوطنية الديمقراطية.

* بناء عقل جديد والنهوض بالإنسان على جميع المستويات.

* التحول وجهة العمل القومي، ارتباطًا بآفاق التحرر العالمي.    

في سبيل مختلف ذلك، تجلى بوضوح على سبيل التمثيل لا الحصر، نسق إجرائي خَلاَّق اشتغل إجرائيًا بكيفية جدلية وتكوينية، ضمن أطروحات عشرات مؤلفات الأستاذ الجابري:

العقل، العقلانية، النهضة، البنية، الديمقراطية، الحداثة، التراث، الأصالة، المعاصرة الأنوار، الكتلة التاريخية، الخطاب، التكوين، الايديولوجيا، الابستمولوجيا، الابستيمي، التدوين، الأخلاق، الوعي واللاوعي السياسيين، القطيعة المعرفية…

نسق مفاهيمي ثري، تتبادل عناصره مواقع ومستويات حضورها حسب سياق التأويل ثم مدى إلحاحية القضية المركزية التي شغلت تفكير الأستاذ الجابري، خلال هذه المرحلة أو تلك، ارتباطًا بالمقتضيات التأويلية لغايات المشروع ومرجعياته المطلوبة. من ثمة، تنوع وتطور تشكُّل تلك الإشكالات المحورية دلاليا، قدر تنوع أصول مصادرها؛ نتيجة انكباب الأستاذ الجابري على قراءات مستفيضة لنتاج نظري حديث ومعاصر ألهمه جوانب كبيرة فيما يتعلق بميكانيزمات تفعيل منهجه، الذي حاول وفقه فهم التراث العربي بطريقة مختلفة عن باقي التأويلات السابقة، وكذا استيعاب ممكنات الخطاب النهضوي، وأخيرا تشريح وتفكيك منظومة العقل العربي:

أندريه لالاند، جان بياجي، ميشيل فوكو، لوي ألتوسير، إيمانويل كانط، أنطونيو غرامشي، غاستون باشلار، جاك ديريدا، ريجيس دوبري، بول ريكور، لوسيان غولدمان…

عتبات وجهات عدَّة ربما تحدَّدت أولى لبناتها منذ أواسط السبعينيات، حينما شرع الأستاذ الجابري في ترجمة نصوص كثيرة إلى اللغة العربية، اقتضتها خلال تلك المرحلة محددات تربوية وبيداغوجية لأولى أعماله: ''دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي''(1976) وكذا ''مدخل إلى فلسفة العلوم'' (في جزأين) (1976)، بعد أطروحته لنيل دكتوراه الدولة ''العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي''(1970)، تحت إشراف فيلسوف الشخصانية محمد عزيز الحبابي.

الاشتغال على مضامين نصوص ذات طبيعة علمية محضة، كما الشأن مع الأنساق الاستدلالية البرهانية أو التجريبية للرياضيات والفيزياء والبيولوجية، ضمن نظامها الاستنباطي والاستقرائي، ثم اطلاعه على تاريخ العلوم وفلسفاته ونظرياته، ستنزع بالأستاذ الجابري بكيفية؛ واعية طبعًا، كي يراهن بمنهجه أولاً على النقد الابستمولوجي، وترصُّده اليقظ لابستمولوجيا المنهج، قصد تجاوز الأخطاء التي اقترفتها غالبًا؛ دون وعي، القراءات الإيديولوجية للتراث، وقد حددها في: السلفية، الماركسية، الاستشراقية. مدارس، كرَّست الفهم التراثي للتراث، بسبب انتفاء الموضوعية وغياب النظرة التاريخية. 

يستحيل إرساء معالم نهضة عربية إسلامية معاصرة، يؤكد الأستاذ الجابري، دون الاستناد على استثمار مغاير لحمولة تراثنا، تبعًا لتصورات منهجية بأدوات تفكير جديدة، تمارس عقلانية نقدية حيال الماضي والحاضر؛ في الآن ذاته، من خلال تحقيق العلمية، والتعامل بوعي تاريخي، وحس موضوعي مع الطرح الإيديولوجي الذي سيحضر جزئيًا في نهاية المطاف؛ ضمن مستويات التأويل، حين السعي إلى جعل النص التراثي معاصرًا لنفسه. 

بهذا الخصوص، تبلورت معطيات السياق التداولي لمفهومي العائق والقطيعة الابستمولوجيين، اللذين استعارهما صاحب كتاب ''نحن والتراث'' (1980) من غاستون باشلار، مثلما فعل أيضًا ألتوسير حين استلهامه نفس التصور الباشلاري القائم على القطيعة، بهدف إعادة فهم فكر ماركس وتتبع بنيات تطوره، كي يظل معاصرًا لنفسه وللراهن الإنساني. لقد تبلورت تراكمات فكر ماركس، يوضح ألتوسير، عبر مرحلتين: فترة الشباب وتتمثل في كتابي "مخطوطات 1844'' و''الإيديولوجية الألمانية''، بينما تعكس مرحلة نضج ماركس بداية انفتاحه على أدبيات علم الاقتصاد. 

تنبغي الإشارة، بأن باشلار صاغ مفهوم القطيعة، قياسًا إلى تاريخ العلم وما يجري داخل المختبرات العلمية، معتبرًا بأن تاريخ العلم، يعكس أساسًا تاريخًا للأخطاء والتجاوز، بحيث، تؤسس كل نظرية، نظامها المعرفي الخاص بها. لم يكن غاليلي استمرارًا لأرسطو، أو فيزياء أينشتاين مجرد تطوير لنيوتن. لذلك، يبقى تاريخ المعرفة العلمية محكومًا بمنطق الانفصال والقطيعة والتجاوز، لاسيما لحظات الأزمات البنيوية؛ وانبعاث أسئلة جديدة تخلق أزمات بالنسبة لمنظومة القديم.  

عمومًا، أكد باشلار على ضرورة تحقيق قطيعة بين المعرفة العلمية والعامة، لأن الثانية تشكل عقبة إبستمولوجية للأولى، ثم بين النظريات العلمية الجديدة والقديمة.

ربما اعتُبر الأستاذ الجابري، رائدًا في انتقال مفاهيم باشلار إلى الساحة الثقافية العربية، لا سيما تصوراته هاته بخصوص جدليات العوائق الابستمولوجية وكذا القطيعة. تواتر حضور المفهوم الأخير، مركزيًا بين فصول كتابه : ''نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي'' ، الذي أوضح بين صفحاته، تفاصيل وجوب تحقيق قطيعة معرفية مع نماذج معينة من التراث العربي، ذات  النزوع الغنوصي، ومع القراءة السلفية للتراث، لأنها قراءة ماضوية لا تاريخية، و إزاء بنية العقل العربي خلال عصر الانحطاط، مثلما عاين وجود قطيعة معرفية تاريخية للفكر المغربي عن نظيره المشرقي، تحديدًا منجز ابن رشد وابن طفيل وابن حزم الظاهري في الغرب الإسلامي، مقابل الفلسفة المشرقية، كما جسَّدها ابن سينا أو التصوف السني مع الغزالي، جراء امتدادات سؤال فاعلية السعي إلى التوفيق بين العقل والنقل، وحدود دمج الدين مع الفلسفة، ثم القطيعة بين المحتوى المعرفي و الإيديولوجي، والقطيعة بين حقل معرفي وآخر…

عمومًا، مفهوم القطيعة عند الجابري، ليس انفصالاً تامًا ونهائيًا عن التراث، بل فقط عن تصورات بعينها، تعيق سبل إدراك حقائق موضوعية.

ينطوي أساسًا مفهوم القطيعة بحسه الارتيابي النقدي، على أبعاد إيجابية مبدعة وخلاقة، تروم دون توقف صوب إعادة التقييم والبناء، واستثمار الايجابي ثم التخلص من السلبي، لذلك يرفض الأستاذ الجابري الخطابات الداعية إلى القطع كليًا مع التراث، لأنها رؤى غير علمية تفتقد للحس التاريخي. بل، المطلوب في المقام الأول، تحقيق قطيعة مع القراءات السابقة للتراث، التي أبانت عن عجزها فيما يتعلق بإرساء علاقة واعية بين القارئ العربي وتراثه، وأبقته ضمن إطار التذكُّر والحنين، بينما المطلوب اكتشاف التراث ومساءلته بهدف تحديثه وجعله مواكبًا للمعاصرة، فلا نهضة بدون هذا الاستلهام الواعي، وتبني قراءة نقدية وعقلانية.


عدد القراء: 1830

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-