بيرنار بيفو: «أن تشيخ مزعج جدًّا»الباب: مقالات الكتاب
د. سعيد بوخليط مراكش - المغرب |
ترجمة: د. سعيـد بوخليـط
حيال الزمان الذي ينقضي منتقلاً بنا حتمًا صوب نهاية حياتنا، يمتلك كل واحد وجهة نظره إلى الأشياء. وتلك المعبر عنها من طرف بيرنار بيفو تستحق عرضها.
إذا كانت هناك حقيقة يولد الناس بخصوصها سواسية، فتتمثل في الخضوع إلى الزمان المتقدم. لا أحد بوسعه تعطيله، أو مجرد إبطاءه. بالتالي، إننا نشيخ. في المقابل نحصي أشكالا عديدة لتمثُّل هذه الحقيقة قدر وجود عدد البشر فوق هذا الكوكب. ضمنها مثلاً تصور بيرنار بيفو الذي يعتبر بدعابة وتحسر كذلك :أن تشيخ، يظل حقيقة مزعجة جدًّا.
اقتبستٌ هذه المقاطع الرائعة والملهمة من كتاب بيفو: كلمات حياتي، الصادر عام 2011، التي تكشف عن رجل يبدو أنه يفضل لو لم يصبح كهلاً، مصير يتحمله رغم ذلك برباطة جأش والتحليق مع الخيال بدل الاستسلام إلى الحزن والتنسك :
«بوسعي القول: أن تصير كهلاً، أمر محزن، لا يطاق، مؤلم، مرعب، باعث على الإحباط، إنه مميت.
لكني آثرت وصف ''مزعج جدًّا''.
لأنه نعت قوي، لا يثير حزنًا.
أن تصير كهلاً، مزعج جدًّا ما دمنا لا نعلم قط متى ابتدأ هذا وأيضًا نعلم بشكل أقل متى سينتهي.
لا، ليس صحيحًا، أننا نشيخ منذ ولادتنا.
لقد اتصفنا لعهد طويل، بطراوة كبيرة، وفتوة شديدة، وجاذبية مفرطة.
عشنا في تصالح مع جسدنا.
تحس بأنكَ تأسر النفوس. تتمتع بمناعة.
الحياة أمامك، وإن بلغت الخمسين، فلا زال الوضع على ما يرام …بل والستين.
بلى، بلى، أؤكد لكم، بقيتُ صاحب عضلات بارزة، تشغلني مشاريع، وتطلعات. أنا شعلة. ولا زلت دائمًا، ها أنا إذن، في غضون ذلك، أرى بنظرة الشباب.
رجال ونساء في غمرة عمر الشباب، يرفضون اعتباري واحدًا منهم، ولو مجرد قريب، على الهامش.
تخبرني عيونهم، أنهم لن يرأفوا قط بحالي.
ربما كانوا لطفاء، مهذَّبين، يمدحون، لكنهم عديمي الشفقة.
دون إدراك مني، ولجت أبارتيد العمر.
الأفظع أن تصلني كلمات إهداء من لدن كتَّاب، لاسيما المبتدئين، وفق الصيغ التالية :''مع احترامي''، "مع تقديري المجلِّ"، "مع مشاعري الوافرة الاحترام".
يعتقد الأوغاد على الأرجح! أنه بصنيعهم ذاك، يدخلون البهجة إلى قلبي حين رفعهم غطاء ريشتهم بأقصى مراتب الاحترام! حمقى!
أيضًا ''السيد بيفو العزيز''، هي طويلة ورسمية مثل استشهاد يراعي الفنون والآداب، لكنها تلقي بي غاية عشر سنوات أخرى زائدة!
ذات مرة داخل قطار ميترو الأنفاق، كانت المرة الأولى، التي تنهض خلالها فتاة شابة وتترك لي مقعدها…
وددت لو صفعتها، بيد أني رجوتها كي تعود إلى مكانها، وسألتها إن بدوت حقًّا كهلاً، وتجدني متعبًا!!!؟
-"لا، لا، أبدًا، أجابتني، مرتبكة، أعتقد بأن".
- أنا على الفور: ''ماذا تعتقدين؟''
-''أعتقد، لا أعرف، حقيقة لا أعرف، ظننتُ أن إفساح المجال كي تجلسوا، يسعدكم".
- ''لأن شَعْري أشيب''؟
- "لا، ليس القصد، بل لأني لاحظتكم واقفًا، وعمركم فيما يظهر أكبر من عمري، هكذا جاءت ردة فعلي الطبيعية، أن أقف".
- "هل أبدو كثيرًا… كثيرًا متقدمًا في العمر قياسًا لكم؟".
- "لا، نعم، إلى حد ما، لكن المسألة لا تتعلق بالعمر".
- "بما، تتعلق إذن؟".
- "لا أعرف، أظنها مسألة احترام، في النهاية".
توقفت عن مشاكستها، شكرتها عن تصرفها النبيل ثم رافقتها في محطة نزولها كي أقدم لها شرابًا.
مقاومة الشيخوخة، في نطاق الممكن، لا تعني تنازلاً عن أي شيء.
سواء العمل، الأسفار، الاحتفالات، الكتب، النهم، ولا الحب ولا الحلم.
أن نحلم، يعني تذكرنا لساعات رائعة، قدر ما نريد.
أن نفكر في المواعيد الجميلة التي تنتظرنا.
أن يترك الشخص فكره يتسكع بين الرغبة والطوباوية.
الموسيقى باعث قوي على الحلم. إنها، مخدر ناعم.
أتمنى أن يدركني الموت، وأنا ممدد على أريكة منغمسًا في حلم، أستمع سواء إلى المقطوعة الموسيقية للكونشرتو رقم 23 لصاحبها موزارت، أو كذلك، الكونشرتو المعتدل رقم21 ، موسيقى تتجلى أمامي على امتدادها حتى بغير استغراب المشاهد الطبيعية العظيمة لما بعد الموت.
لكن أنا بمعية موزارت لسنا على عجلة من أمرنا.
سنأخذ وقتنا الكافي.
مع العمر يمر الوقت، سواء سريعًا جدًا، أو ببطء كبير.
نجهل المدى الذي سيبلغه رأسمالنا. خلال سنوات؟ خلال شهر؟ خلال أيام؟
لا، لا ينبغي النظر إلى الزمان المتبقي لنا مثل ثروة.
بل كحق جدير بالانتفاع، ينبغي التمتع به دون هوادة ،قدر ما نستطيع إلى ذلك سبيلاً.
فليأت بعدنا، الطوفان؟…أليس كذلك موزارت».
يكون الزمان المنقضي وَجَعًا حينما نكابده لكنه يغدو سعادة عندما ننعم به. لاسيما إن راهنت اللحظات الأخيرة على بعض النغمات الموسيقية. ثم ها نحن بصدد تعبيد طريقة جميلة كي نأخذ الشيخوخة بعين الاعتبار(وإن كانت مضجرة جدًّا!).
- المصدر: موقع"Positivr"أكتوبر 2018.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- رواية المحاكمة: الجميع مذنب
- أرخبيل غولاغ: الرواية التي زلزلت إمبراطورية
- جاك ديريدا: إرثه بعد عشر سنوات من وفاته!*
- خورخي بورخيس: عالمي هو المكتبة
- كيف تصبح كاتبًا : حوار مع عبد الفتاح كيليطو*
- سفيتلانا أليكسيفيتش: الحرية درب طويل وشاق
- المهم أن تكون إنسانًا
- أحقّاً هو الشاعر أرثر رامبو؟
- جوزيف كيسيل في سوريا
- النزعتان الإنسيانيتان 1
- 1984: أو الصحن الطائر للخيال العلمي1
- تأثير غاستون باشلار في النقد الأدبي الفرنسي
- تودوروف: الديمقراطية بين التوتاليتارية والليبرالية الجديدة*
- حول الدولة: دروس بيير بورديو في كوليج دو فرانس
- الصورة الأدبية
- ظهور الرواية: دون كيشوت والانقلاب السري؟
- رولان بارت في ذكرى ميلاده المئوية
- ألبير كامو: فرنسا، الجزائر، والسياق الاستعماري
- بيرنار بيفو: «أن تشيخ مزعج جدًّا»
- تفاصيل محاكمة شارل بودلير
- غاستون باشلار: «أنا أستاذ سيئ لتدريس الأدب»
- فضاء المنزل.. شاعرية الحلم اللانهائي
- ستون سنة عن رحيل ألبير كامو: سجال يحتدّ
- أمبرتو إيكو: درس في السيميائيات العامة
- جان بول سارتر والوجودية العربية، الصدمة والقطيعة
- سيلفي لي بون دوبوفوار: رسائل أمي إلى نيلسون ألغرين (1947- 1964)
- ألبير كامو وماريا كازارس: حبّ جارف..
- كتابات عن الطاعون
- غاستون باشلار: ملهم الشعرية الحديثة
- محمد عابد الجابري وغاستون باشلار
- حيثيات وفاة رولان بارت
- غاستون باشلار: الرياح
- غاستون باشلار: اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية
- حول الدولة: دروس بيير بورديو في كوليج دو فرانس
- بيير بورديو: ماهية النيوليبرالية؟
اكتب تعليقك