الأفكار وسطوتهاالباب: مقالات الكتاب
د. أمير تاج السر كاتب وروائي سوداني |
الأعوام الأخيرة، تزداد أهمية هذه الأبواب، وتصبح عن جدارة، مطلوبة من أجل مواصلة القراءة أم لا؟، وقد قرأت في مراجعات كثيرة لقراء الروايات على الإنترنت، من يتحدث عن رواية، فيقول: لم تعجبني بدايتها، فلم أكملها، أو من يقول: منذ السطر الأول وأنا منهمك في هذه الرواية، لم أستطع تركها.
هذا إحساس حقيقي، وينبغي أن يحسه كل قارئ يقرأ بخبرة وإدراك، أن يجره المدخل إلى ما بعده، أو يطرده، فلا يعود إلى هذا النص مرة أخرى، حتى لو أشاد به آخرون، وهذا ما يجعل بعض المداخل وليست كلها، تخضع لاختلاف الأذواق عند القراء، ذلك الاختلاف الذي طالما تحدثت عنه، وتحدث عنه غيري كثيرون.
ولعل البداية الجامدة التي تتكون من حوار صلد بين اثنين، أو مشهد باهت، لا يحرك المخيلة، من تلك المداخل الطاردة، بعكس البداية الشعرية، الموحية، التي تشد الفضول لمعرفة ما وراءها.
لا يمكن أن تجد قارئًا نشطًا في الركض بين صفحات كتاب ما، وبدايته مثلاً في شكل حوار يتبادل فيه اثنان التحية، ويسألان عن أحوال الأبناء والأهل، وهكذا.. وستجد مئة قارئًا آخرين، يخبون خبًّا في السكة التي تصف بدايتها مثلاً: مكانًا جيدًا، وملائمًا لوقوع حدث، وشخوصًا عالقين في كارثة، ولا يجدون الحل، وطائفة بدائية، تعيش بكل تقاليدها وأفكارها، في عالم متحضر، وأيضًا تلك البدايات التي تشبه مداخل الأشرطة السينمائية، وتكون مشبعة بالغموض، وتحتاج لمن يسعى لمحاولة اكتشافها بالخطوات نفسها التي يسعى بها شخوص القصة.
من المؤكد، أن التركيز على البداية، لا يأتي هكذا مصادفة، وإنما بعد تدريب طويل على إيجاد بداية جيدة، وغير تقليدية، وأنا شخصيًّا أعُدُّها العقبة الكبرى التي تواجهني، حين أكتب، ويمكن بسهولة أن يضيع مني نص، لأن بدايته لم أحسها ترتقي لمستوى ملائم، وأعتقد أن غابرييل ماركيز نوه مرة إلى إيمانه بالبدايات الناجحة وغير الناجحة، وإنه أيضًا يهتم بها، وإن لم يجدها لا يكتب النص، ولذلك أعُدُّ ماركيز من أكثر الكتاب الذين صنعوا مداخل ناجحة، ومشجعة لإكمال نصوصهم.
ما زلت أذكر المدخل الرائع لرواية "مئة عام من العزلة"، حين يأتي الغجري ميكليدس إلى ماكوندو ليري الناس الجليد، وكان في الواقع عائد من رحلة الموت، فقد مات منذ مدة لكنه عاد،
بداية مثل هذه لا تترك الخيال بليدا، ونائمًا، لكنها توقظه وتنشطه، وتجعله يلهث ليعرف ماذا سيحدث، في تلك البلدة المدهشة ماكوندو.
"الحب في زمن الكوليرا" أيضًا، بدأت بانتحار لاجئ مسن من جزر الأنديز، وكان الغرض أن يظهر الطبيب، صديق المنتحر، لأن القصة تبدأ من بيته، وتنتهي في بيته، قصة حب لورينثو داسا لأرملته، تستمر أكثر من سبعين عامًا.
أيضًا من المداخل الناجحة، ما نجده في روايات مثل: "ليلة لشبونة" لأريك ماريا، و"شتاء شيلي" لأنطونيو مولينا، و"ساعي بريد نيرودا" لأنطونيو سكارميتا، و"أغنية أخيل" لمادلين ميلر، ومعظم ما كتبه أمين معلوف، وصبري موسى، وبهاء طاهر، وغيرهم، وتوجد بالطبع تلك البدايات المشلولة التي يمكن أن تظهر في كتابات أي أديب، مهما بلغت مهارته وشهرته، ولدي أمثلة كثيرة، تركت فيها النصوص ولم أكملها.
أعتقد أنه ومع تنامي اتجاهات تدريس الكتابة الإبداعية، في ورش مختصرة لعدة أيام، أو كبيرة تمتد لأشهر، تصبح الفرصة أكبر للأجيال اللاحقة في صناعة نصوص قليلة العيوب أو خالية من العيوب تقريبًا. الورشة الأبداعية يشرف عليها في العادة كتاب لهم خبرة ودراية، ومستعدون لتقديم خدمات للآخرين بصبر، ويحضرها شباب مبدعون، لكنهم بحاجة لأضواء تهديهم إلى الطريق، وأيضًا مستعدون للاستيعاب، وتطوير ما لديهم.
التعليم هنا ليس حصصًا تلقى، وكتبًا يتم حفظ موادها، وامتحانات تجري بعد ذلك. إنه في الواقع نقاش مفتوح بين المعلم والمتعلم، وبينهما وآخرون يحضرون الورشة نفسها، ويمكن أن يدلوا بكلمة تكون لها فائدتها.
أذكر أنني حضرت مرة ورشة للكتابة، وكان على المشاركين كتابة نصوص، هي الفصول الأولى لروايات، تتم مناقشتها مع المشرفين، أو قصصًا قصيرة مكتملة، وقد كانت الورشة في رأيي ناجحة جدًّا، حيث التزم الجميع بلائحتها، وتعدلت فيها النصوص المرتبكة، لتصبح أكثر ثباتًا.
كان ثمة نص يبدأ بحوار طويل بين امرأتين، وكان خاليًا من أي نكهة جمالية، ولا يستطيع القارئ أن يفهم لمَ يجري الحوار أصلاً؟، وحين تعدلت بداية النص، ووصف المكان، والحدث الذي سيجري فيه بعد ذلك، أحسسنا جميعًا أن باب النص، تلون بألوان كثيرة جاذبة، وتهيأ لاستقبال القراء.
نص آخر ابتدأ بوصف كلاسيكي للشمس التي في (كبد) السماء، والضروع التي جف منها اللبن، والرجل الذي (لم ينبس ببنت شفة)، وكثير جدًّا من تلك العبارات التقليدية الضارة بالإبداع في الوقت الحالي، ثم لينظف من تلك العتاقة، ويزود بأوصاف حديثة غير مطروقة كثيرة، وأيضًا يصبح الباب ورديًّا، وجاهزًا للزوار.
بالطبع وبعد كل ما ذكرته، يبقى للكتابة غير الخاضعة لجماليات متعددة، أو مناهج علمية، بوصفها صنعة، ومن الواجب تطويرها، يبقى لها عشاق عديدون، راضون بما يقرأونه، وأيضًا كتاب لن يبرحوا المكان الذي هم فيه، عن اقتناع تام بأنهم يقدمون إبداعًا متميزًا، وهكذا تصبح الآراء المختلفة في شأن الكتابة، في النهاية، آراء شخصية من حق كل من يكتب أن يدلي بها، ومن حق كل من يقرأ أن لا تقنعه.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدوات الكتابة ومتغيراتها
- الأوطان ملح الكتابة
- الأفكار وسطوتها
- أساليب القراءة وصناعة الآراء
- كتابة الشر روائيًا
- الكتابة والإيهام
- الجوائز الأدبية.. من يمنحها؟
- صناعة الرواية والسينما
- المعرفة والمعرفة المعلبة
- المرح لغة عالمية
- القراءة المغشوشة
- كتب المبدعين
- كيف يكتبون؟
- كتابة الحقائق
- كتابة الرواية والسيرة
- قصص عن التحولات
- «كيندل» عربي
- حجم الروايات
- الأعمال العظيمة وقراؤها
- وجه التاريخ
- المدن في الروايات
- كورونا ورواية الوباء
- كتب وكُتّاب
- حمرة العين
- ما لا تقوله السيرة العربية
- أصوات الكتابة
- أفكار مستهلكة
- مكتبات البيوت وهباتها
- المعرفة والمعرفة الزائدة
- هوية الأدب العربي
- صلاحية النصوص الإبداعية
- معتزلات الكتابة
- هوس القراءة
- الشريك الأدبي
- جائزة القلم الذهبي
التعليقات 1
من أجمل ما قرأت حتى الآن .. "وهكذا تصبح الآراء المختلفة في شأن الكتابة ، في النهاية ، آراء شخصية من حق كل من يكتب أن يدلي بها ، ومن حق كل من يقرأ أن لا تقنعه"
اكتب تعليقك