القراءة المغشوشةالباب: مقالات الكتاب
د. أمير تاج السر كاتب وروائي سوداني |
في مروري على أحد منتديات القراءة على الإنترنت، التي أطرقها من حين لآخر، إما لمعرفة نوع الكتب التي يفضلها معظم القراء، أو لتعميق الصلة بيني كمؤلف وبين من يطلعون على مؤلفاتي، عثرت على تعليق لأحد القراء، كتبه عن رواية مترجمة لأحد الكتاب الكبار، وكانت مقروءة بشدة، وذات حظ جيد من التعليقات الإيجابية، كتب يقول: رواية سخيفة، سطحية، ذات لغة ركيكة، وبلا هدف، ولا تستحق الوقت الذي أضعته فيها.
ولأن القارئ لم يذكر أي شيء يدل على قراءته للرواية، واستخلاص تلك الألفاظ غير اللائقة ليلصقها بها، ولا كانت ثمة مراجعة حتى لو من خمسة أو ستة أسطر، تُبينُ لنا سطحية العمل وركاكة لغته، عمدت إلى تتبع ذلك القارئ في الرف الافتراضي الذي وضع عليه كتبه، وتعليقه على الكتب التي قرأها من الرف، فعثرت على نفس التعليق الذي ذكرته، إما بنفس الطريقة، أو معدلا قليلا إلى الأسوأ، موضوعا على معظم الكتب، التي ذكر أنه قرأها وقيمها بعدم استحقاقها لأي شيء.
وعثرت على عدد من أصدقائه، يؤيدون كلامه، وأيضًا بلا إشارة، إلى أنهم قرؤوا تلك النصوص، أو لم يقرؤوها، ولم يكن ذلك القارئ وحده في التجني على الكتب بلا هدف واضح، ولكن عثرت بعد ذلك على كثيرين ينتهجون نفس النهج.
هذا ما أسميه القراءة المغشوشة، أو وهم الثقافة عند البعض، بلا ثقافة، والمشاركة في نقاش يدور حول كتاب معين، أو شريط سينمائي، أو أي شيء له علاقة بالإبداع، من دون الاطلاع على المادة موضوع النقاش. ولأن الفضاء افتراضي رحب، والوجوه مغطاة بالأقنعة، وما يقال لا يوجه مباشرة إلى من سيرد في نفس اللحظة، فقد كثرت مثل تلك الادعاءات، وكثر متابعوها والمروجون لها، وبالتالي مزيد من التدني في الوعي المعرفي، وتشريد الناس من سكة القراءة الصحيحة.
وأعرف يقينا أن هناك من يدخل تلك المنتديات بنية التعرف على الكتب التي شدت غيره، ويمكن أن تشده من أجل أن يقتنيها، وغالبا ما يكون أولئك حديثي عهد بالقراءة، وبالتالي سهل جدًّا هروبهم من الطريق بتعثرهم بأول حجر يصادفهم، أو توهانهم في درب لم يكن ممهدًا جيدًا.
لقد كانت مثل تلك الأوهام في الماضي صعب ارتداؤها، لأن النقاش الثقافي كان مباشرًا، في مقهى أو حتى في دكة أمام أحد البيوت، والذي يتحدث عن كتاب خيرًا أو شرا، ينكشف سريعا لأن هناك من سيورطه بلا شك، في صفحة من صفحات ذلك الكتاب.
وأذكر أنني حين كنت طالبًا في مصر، أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وأثناء جلوسي في المقهى بصحبة عدد من المثقفين، بدأ الحديث عن رواية: "خريف البطريرك"، للعملاق الراحل غارسيا ماركيز، وكانت مترجمة حديثًا، وقرأها معظم المثقفين تقريبًا، ولم أكن قد قرأتها في ذلك الوقت، لكني عقبت بأنها رواية رائعة وسلسة. فطلب مني أحدهم أن أخبره بأكثر ما أعجبني فيها، وبالطبع لم أستطع أن أخبره، وتركت تلك الجلسة مرغمًا، ثم أكتشفُ لاحقًا أن الرواية لم تكن سلسة، وأن ماركيز نفسه تحدث عن صعوبتها، وأنها كانت أكثر النصوص التي أصابته بالكآبة أثناء عملية الكتابة.
ومنذ عامين، التقيت بكاتب شاب في أحد أسفاري، وأخبرني في حماس أنه أحد قرائي المخلصين، إضافة لقراءته الدائمة للزميل العراقي المتألق: علي بدر، وأنه ينتظر إصداراتنا بلهفة حتى يضعها في أولويات قراءاته. سألته بتلقائية عن أكثر الكتب التي أعجبته عندي وعند زميلي، فرد بسرعة: كلها. ولا أدري لماذا لم أصدق ذلك الشاب وعمدت إلى اختراع اسم لرواية لم أكتبها حقيقة، ووجدته يثني عليها بشدة، ويردد بأنها من الأعمال التي لا تنسى.
هناك شيء آخر، وهو تبني إنتاج المبدع ومواقفه، خاصة بعد وفاته، لدى أشخاص لم يعرفوه حيًا، ولم يقرؤوا أي شيء من مؤلفاته، وربما عرفوه وأساؤوا إليه أثناء حياته، وأعرف أشخاصًا كثيرين لم يقرؤوا للطيب صالح حرفًا واحدًا ولا كان إبداعه في دائرة اهتمامهم يومًا ما، يبكون رحيله، وكيف أنه خسارة فادحة للإبداع، وبعضهم يطالب بإعادة طباعة أعماله، وتوزيعها في المدارس للطلاب، وهكذا حدث أيضا لأدباء آخرين غير الطيب.
على أن أغرب ما صادفني شخصيًا بعد وفاة الطيب، هو أن أحدهم كتب في صحيفة مصرية، مستخدمًا اسمًا مستعارًا، أنه التقى بي في أحد الأيام، وأهديته نسخة من روايتي الملحمية "مهر الصياح"، طالبا منه أن يدلي برأي نقدي فيها، وفوجئ أثناء قراءتها بأنني نسخت رواية الطيب "موسم الهجرة إلى الشمال"، وشوهتها بروايتي "مهر الصياح".
بديهي أن هذا الناقد المزعوم لم يلتق بي يومًا، لأن النقاد الحقيقيين يتركون أسماءهم حرة كما هي ولا يغطونها بنقاب من أي نوع، وبديهي أيضًا أنه سمع بوفاة الطيب صالح - أحد أهم كتاب الرواية العربية- وأراد أن يدلي بدلوه، ومنطقي جدًا أنه لم يقرأ "موسم الهجرة إلى الشمال" التي تتحدث عن علاقة الشرق بالغرب، وسفر مصطفى سعيد إلى إنجلترا، وعودته لقرية ود حامد، وما تلى ذلك من أحداث.
وواضح أيضًا أنه لم يقرأ "مهر الصياح" التي تدور أحداثها في القرن السابع عشر، في منطقة دارفور، وبنيت على مجلس "الكوراك" أو مجلس الصياح الذي كان وسيلة اتصال الرعية بسلاطينها، وكيف أن ابن صانع طبول فقير حلم بأنه أصبح نائبا للسلطان، وماذا حدث بعد ذلك.
إذن العالم تطور كثيرًا، وأصبح بإمكان كل من يملك حتى لو يرقات كتابة ميتة، أن يكتب ما يريده بلا رقابة، ولا مشكلة كبرى، وأن يجد معجبي كتابته بسهولة شديدة أيضًا، فقط هنا تأتي السلبيات التي ما كانت ستنمو وتستمر لو أن الكلام يحدث في الواقع وأمام الناس.
قطعًا شارع الإنترنت يتستر على التفاهات التي ربما يفضحها شارع ضيق في حارة واقعية، ولكي نقول بأننا استفدنا فعلا من التقنية، علينا أن نطور الشوارع الافتراضية، فلا يختبئ فيها الأذى.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدوات الكتابة ومتغيراتها
- الأوطان ملح الكتابة
- الأفكار وسطوتها
- أساليب القراءة وصناعة الآراء
- كتابة الشر روائيًا
- الكتابة والإيهام
- الجوائز الأدبية.. من يمنحها؟
- صناعة الرواية والسينما
- المعرفة والمعرفة المعلبة
- المرح لغة عالمية
- القراءة المغشوشة
- كتب المبدعين
- كيف يكتبون؟
- كتابة الحقائق
- كتابة الرواية والسيرة
- قصص عن التحولات
- «كيندل» عربي
- حجم الروايات
- الأعمال العظيمة وقراؤها
- وجه التاريخ
- المدن في الروايات
- كورونا ورواية الوباء
- كتب وكُتّاب
- حمرة العين
- ما لا تقوله السيرة العربية
- أصوات الكتابة
- أفكار مستهلكة
- مكتبات البيوت وهباتها
- المعرفة والمعرفة الزائدة
- هوية الأدب العربي
- صلاحية النصوص الإبداعية
- معتزلات الكتابة
- هوس القراءة
- الشريك الأدبي
- جائزة القلم الذهبي
اكتب تعليقك