صلاحية النصوص الإبداعيةالباب: مقالات الكتاب
د. أمير تاج السر كاتب وروائي سوداني |
كنت في الأيام الماضية، أقرأ مختارات قصصية للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، الذي يصنف واحدًا من عظماء كتاب القصة القصيرة.
كان معظم القصص يتمحور حول العلاقة بين السادة والعامة، وقصص الكنيسة، والقساوسة غير الملتزمين بالعظات التي يرددونها في الآحاد، أو البدناء الخاملين كما تصفهم القصص، وأشياء مجتمعية، وسياسية واقتصادية، كانت سائدة في ذلك الزمان.
الذي لفت نظري أثناء قراءة تلك القصص، هو عدم الإحساس بالنشوة، أو الانبهار الذي كان يحدث لي قديمًا، حين كنت أقرأها، أو أقرأ عمومًا قصصًا لتشيخوف، على العكس أحسست بالأوصاف الواردة للشخوص، رتيبة ومكررة، والوصف العام للمكان من خضار وورد ونسيم عليل، وطيور تحلق، وحسناوات يتبخترن ضاحكات بين المروج، كلها أوصاف تقليدية، لم تخدم القص في شيء.
بالقدر نفسه، كنت أعدت قراءة رواية «إيرنديرا الغانية» لماركيز، أو الضحية كما تكتب في بعض الطبعات، وأيضا زال الانبهار الأولي القديم بها، حين كنت أشهق طربًا من شخصية إيرنديرا، الفتاة البريئة، وهي تتجول في البيت، تقوم بالأشغال الشاقة، وهي نائمة، والجدة العنيفة القاسية، التي حولتها إلى فتاة ليل، وطافت بها النجوع والقرى في الكاريبي، تجمع حصاد عملها المسيء القذر، حتى تسدد ديون البيت الذي أحرقته أثناء تجوالها الناعس.
صراحة أحسست بعادية القصة، وأنها ليست كالتي كنت أعض عليها في ذهني، بعد قراءة أولى منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وقس على ذلك أعمالاً أخرى لآخرين، ستحس بأنها أعمال ليست بتلك العظمة التي رجتك في قراءتها الأولى، المبكرة، مثل أعمال لهنري ميلر، وسلمان رشدي، وحتى رواية «العطر» المشهورة لزوسكيند، التي كانت في يوم ما، نصًّا ساحرًا كلنا التففنا حوله، وروجنا له، وشخصيًا كنت أشتري نسخًا منها، أهديها لأصدقاء.
الذي أردت قوله، إنه لا يوجد نص يستطيع الحفاظ على بريق أحدثه في وقت ما لدى قارئ، إلى الأبد، إن أراد ذلك القارئ أن يعيد تذوقه من جديد، نعم قد يحس بجودته كنص قصصي أو روائي، لكن قطعًا يعثر على نقاط غير مواكبة للعصر الذي يعيش فيه، بمعنى أن الكتابة هنا، تظل محفوفة بالدهشة، وحاقنة لتلك الدهشة للقراء، لفترة محددة، ثم يتلاشى كل شيء وندخل شيئًا فشيئًا إلى عادية النص، سنقول إنه: نص جميل، مكتوب بحرفية بالغة، ولن نقول إنه: نص مذهل، أو مدهش، أو رهيب، إلى تلك العبارات التي تردد للتعبير عن روعة النصوص. هنا أشبه الإبداع بالأدوية، أو المواد الغذائية التي تحمل تاريخ صلاحية ما، ينتهي به المفعول حين يحل، تناولها هنا لن يضر، لكن لن يحدث السحر الذي صنعت من أجله، وتاريخ صلاحية الدهشة بالنسبة للأعمال الإبداعية، قد يكون طويلاً وممتدًا، لكن لا بد أن يأتي إلى النهاية يومًا.
سؤال: لكن ماذا عن الذي يقرأ هذه الأعمال لأول مرة؟ أي واحد من الجيل الجديد، القادم إلى نشاط القراءة حديثًا؟ أظن تختلف المعايير هنا، فالقارئ الجديد في الغالب هو صديق للأعمال الجديدة، التي تتحدث عن زمنه بكل ما فيه من صخب وتكنولوجيا، وأشياء كانت تعتبر قديمًا من المعجزات إن حدثت، هو يتناغم مع كتابة عن الإنترنت، والواتس آب، ولقاء عاطفي في كوفي شوب، ونزهة عبر مترو الأنفاق، ودردشة في الليل على أنستغرام، وهكذا، إنها مفردات أو معطيات حياتية، لا يستطيع الأدب الجديد إغفالها، لأنه إن فعل، فقد مصداقية وجوده، قد يكون ثمة تذوق للأعمال القديمة التي تتحدث عن الأزمان القديمة، وقد يكون التذوق فضوليا أكثر منه نابعًا من الداخل، وقد يكون للعلم بالشيء، عند مثقفين لم يعاصروا انتشار تلك الأعمال الكلاسيكية، ولم يحضروا نقاشات حولها.
ولكي أكون منصفًا، أتحدث عن أعمالي المبكرة أيضًا، التي كنت أحس بأنها فتح كتابي حين كتبتها في أواخر الثمانينيات، وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، هذه الأعمال مثل: «كرمكول» و«سماء بلون الياقوت» و«نار الزغاريد» حين أعود إليها الآن، أجدها كتابة مؤسفة، لم تنغرس جيدًا في الدرب، ولم تصنع خطى أكيدة ليسير عليها أحد، وكنت غضبت في فترة ما حين قرأت مقالاً للكاتب السوداني الراحل عثمان الحوري، وهو من كتاب القصة المجيدين، يصف فيه «نار الزغاريد» بالرواية الشبح، وكان له مبرراته التي ذكرها ولم تقنعني آنذاك، لكن بعد سنوات من ذلك، وحين رسخت تجربتي، عدت لنار الزغاريد، ولم أعثر على رواية، إنها قصيدة شعرية طويلة، تصف شخوصًا وأمكنة، وعادات وتقاليد، ولا تقدم رواية لمن أراد قراءتها رواية، أيضًا «سماء بلون الياقوت» حشدت فيها شعرًا كثيرًا، ووصفًا باذخًا، وتاهت مفاصل الحكي وسط ذلك الضجيج. إذن، هل يحق لنا أن نصف الأدب المكتوب في زمن ما، بأنه أدب خالد؟ وأن نختار من ذلك الأدب مجموعة روايات لنقول إنها أعظم روايات في التاريخ؟
في رأيي لا، فالتاريخ ليس أجيرًا لدى أحد، ليلزمه بأفعال ما، فالذين اختاروا تلك الأعمال، اختاروها هي، وكان يمكن لآخرين اختيار غيرها، وهكذا يمكن اختيار عشرات القوائم التي تردد: أعظم مئة رواية في التاريخ، إنما الحقيقية مختلفة، سأعود إلى مسألة انتهاء الصلاحية، كل أدب يقرأ في زمانه، ولا بد من المواكبة، من التطور الذي يسير جنبا إلى جنب مع تطور الحياة نفسها.
وفي زمننا هذا، نحن ككتاب لا بد أن نتطور، وحتى أثناء كتابة الرواية التاريخية، لا بد من تقنيات جديدة، تلائم العصر. هذا لا يعني بالطبع، أن ندفن ماضي الكتابة في بحر عميق من النسيان، لكن تظل الأعمال القديمة موجودة، فقط تترك للذين أرادوا قراءتها للمرة الأولى، أو إعادة قراءتها، رغم مخاطر العادية التي قد تبرز إلى أذهانهم، ولا بأس من إنشاء سلاسل للأدب الكلاسيكي في دور النشر، تكون مهمتها واضحة، دون أن يتحدث أحد عن الخلود.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدوات الكتابة ومتغيراتها
- الأوطان ملح الكتابة
- الأفكار وسطوتها
- أساليب القراءة وصناعة الآراء
- كتابة الشر روائيًا
- الكتابة والإيهام
- الجوائز الأدبية.. من يمنحها؟
- صناعة الرواية والسينما
- المعرفة والمعرفة المعلبة
- المرح لغة عالمية
- القراءة المغشوشة
- كتب المبدعين
- كيف يكتبون؟
- كتابة الحقائق
- كتابة الرواية والسيرة
- قصص عن التحولات
- «كيندل» عربي
- حجم الروايات
- الأعمال العظيمة وقراؤها
- وجه التاريخ
- المدن في الروايات
- كورونا ورواية الوباء
- كتب وكُتّاب
- حمرة العين
- ما لا تقوله السيرة العربية
- أصوات الكتابة
- أفكار مستهلكة
- مكتبات البيوت وهباتها
- المعرفة والمعرفة الزائدة
- هوية الأدب العربي
- صلاحية النصوص الإبداعية
- معتزلات الكتابة
- هوس القراءة
- الشريك الأدبي
- جائزة القلم الذهبي
اكتب تعليقك