الكتابة والإيهامالباب: مقالات الكتاب
د. أمير تاج السر كاتب وروائي سوداني |
لاحظت في الآونة الأخيرة ازدياد عدد الروايات التي تُحكى بلسان راو، يقول: إنه يتبع حكاية وردت في مخطوط عثر عليه في مكان ما، مثل صندوق لجدّه كان مغبرًّا في البيت ولا أحد يلتفت إليه، أو عند بائع تحف قديمة في سوق شعبية، أو هكذا هبط عليه من السماء في أثناء تجواله في الطرق.
هذا المدخل لكتابة رواية قائمة على إيهام القارئ بأن وقائعها صحيحة ومدونة في مخطوطات يمكن الرجوع إليها بالفعل، خاصة حين ترد في الرواية أسماء لشخصيات معروفة في التاريخ الإنساني، مثل شخصية "هيباتيا" عالمة الرياضيات القديمة، أو أحد الملوك والسلاطين ممن حكموا العالم ذات يوم، ليس جديدًا بالقطع في الكتابة الروائية عامة، وإنما استخدم كثيرًا في آداب الغرب من قبل، وعبره حكيت قصص غاية في الجمال، ورصدت أزمنة بعيدة في حكي جديد، لكن يبدو أن استحداثه في الكتابة العربية أدى لاستهلاكه لدرجة أن القارئ لم يعد يرغب في قراءة رواية تقول مقدمتها: إنها نُقلت من مخطوط عثر عليه مصادفة.
وقد التقيت كاتبًا صديقًا أخبرني بأنه بدأ بكتابة رواية بهذا النهج، وقبل أن يكملها تمامًا، قرأ أكثر من أربع روايات كلها جاءت من مخطوطات كما تقول مقدماتها، فلم يكمل روايته، وألغاها تمامًا من إبداعه.
ولا يفوتني أن أذكر هنا، أن صديقي الراحل خيري عبدالجواد، كان من أوائل الذين كتبوا مثل هذه الروايات في الكتابة العربية بروايته: "العاشق والمعشوق" الصادرة في تسعينيات القرن الماضي.
أولاً، أؤكد أن هذا النوع من الكتابات له سحره الخاص، ذلك السحر القائم على إيهام من يقرؤه بحقيقته، وتجد القارئ المتمكن يلهث خلف تلك الرواية محاولاً أن يصل إلى نهايتها بأي شكل ممكن، وأظن أن هذا حدث معي حين كنت أقرأ رواية "الحياة الجديدة" لأورهان باموق منذ سنوات، التي تقوم فكرتها بالعثور على كتاب وقراءته، وتغير المصائر بعد ذلك.
لا أذكر القصة جيدًا، لكن أذكر لهاثي خلفها، وتلك الساعات التي ألغيت فيها حتى نومي من أجل أن أخرج بنتيجة، ولعل روايات مثل "عزازيل" ليوسف زيدان، و"البيت الأندلسي" لواسيني الأعرج تملك مثل هذا التشويق الكبير.
أيضًا من مميزات هذا النوع من الكتابة ترك المؤلف على راحته، يحكي بترف كل ما يخطر بباله من دون خوف من أن يتتبع أحدهم مخطوطه الوهمي، ليعرف إن كان ما يقوله حقيقة أم لا، لأن المخطوط الوهمي بحوزة الراوي كما يقول، ومن ثم كل المواقف الوهمية والشخصيات والحوارات هي حقائق غير قابلة للدحض، وعلى القارئ أن يقبل بها، عكس الرواية التاريخية الصرفة التي تحتاج غالبًا لوثائق، وفيها وقائع ثابتة يعرفها الناس ولا يمكن ردمها بأي خيال، أو تغييرها بوقائع زائفة.
ما يمكن ملاحظته، هو أن بعض الكتّاب يجيدون فعلاً هذا النوع من الكتابة، وهم بالمهارة التي يملكونها قادرون على إدخال القارئ في عالم مخطوطهم ذلك، بلا قدرة على الخروج إلا منهزمًا في نهاية الرواية، ورواية "عزازيل" لزيدان، نموذج جيد بلا شك، على عكس آخرين، لا تحس بوهج عملهم الذي يمكن التملص منه في أي لحظة، هم يحاولون الإمساك بالقارئ، والقارئ يحاول الخروج، وينتصر. وأعتقد أن هناك رواية لأورهان باموق أيضًا، غير "الحياة الجديدة"، لعلها من بداياته، لم تكن كتابتها عظيمة، كما أذكر.
هذا النوع من الكتابة، بجانب إيجابياته التي ذكرتها، فيه سلبيات أيضًا، ومنها وضع الكاتب في سياق معين للحكاية، لا يستطيع تجاوزه، هو يملأ الفراغات بالخيال كما ذكرت، ويبتكر الشخصيات والأفعال وربما اللغة، لكن تظل الحكاية أسيرة سياق معين، هو سياق محاكاة التاريخ، والمشي في أثر الرواة السابقين، لأن الحكاية في الأصل من مخطوط كما تذكر المقدمة. ولذلك قد يقود هذا الأمر إلى انفضاح درب الحكايات المختلفة للكتّاب المختلفين، قبل طرقه تمامًا.
القارئ المتمكن حين يدخل في حكاية المخطوط، يستطيع أن يتوقع بعض الأحداث، يستطيع تجميع بهارات النص قبل الكاتب، ويستطيع كتابة تصوره الخاص للنص داخل ذهنه وهو يقرأ، ومن ثم ربما يخف التشويق باستمرار القراءة، وتبدأ مسألة محاولات التملص من النص التي ذكرتها.
أيضًا لأن الإطار محدود للغاية، فأي كتابة جديدة فيه، تُعدُّ تقليدًا لكتابة سابقة، على الرغم من اختلاف الحكاية من مخطوط وهمي لمخطوط وهمي آخر.
شخصيًّا، وبعد قراءات متعددة لمثل تلك الروايات، لم تعد تستهويني روايات المخطوطات، إلا إن عثرت على شيء مميز فيها ألمسه عند بداية القراءة، وهذا يحدث أحيانًا بالطبع.
أعتقد جازمًا الآن أن كتابة رواية قائمة على الإيهام، وذكر أنها مخطوط تم العثور عليه - بطريقة أو بأخرى- لن يكون من الطرائق الناجحة مستقبلاً لكتابة رواية، بعد أن كتبه معظم الروائيين، وعلى الكتّاب أن يسعوا لطرق أخرى في الإيهام، وشخصيًّا أرى أن كتابة التاريخ المتخيل طريقة جيدة في شد القارئ إلى ما قد يظنه تاريخًا حقيقيًّا، وهي طريقة لن تشيخ في رأيي، لأن الكاتب لا يذكر مصادره غالبًا، وإنما يترك الأمر ملتبسًا هكذا.
أخيرًا، وبرغم كل الانفجار الحادث في كتابة الرواية بشتى أساليبها. فإن الرواية هي عالمنا الكبير الذي ينجذب إليه الكتّاب والقراء على حد سواء، وفي اعتقادي، فإن هناك آفاقًا كثيرة لم يتم ارتيادها بعد، وقطعًا هناك من سيأتي ليرتادها ذات يوم.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدوات الكتابة ومتغيراتها
- الأوطان ملح الكتابة
- الأفكار وسطوتها
- أساليب القراءة وصناعة الآراء
- كتابة الشر روائيًا
- الكتابة والإيهام
- الجوائز الأدبية.. من يمنحها؟
- صناعة الرواية والسينما
- المعرفة والمعرفة المعلبة
- المرح لغة عالمية
- القراءة المغشوشة
- كتب المبدعين
- كيف يكتبون؟
- كتابة الحقائق
- كتابة الرواية والسيرة
- قصص عن التحولات
- «كيندل» عربي
- حجم الروايات
- الأعمال العظيمة وقراؤها
- وجه التاريخ
- المدن في الروايات
- كورونا ورواية الوباء
- كتب وكُتّاب
- حمرة العين
- ما لا تقوله السيرة العربية
- أصوات الكتابة
- أفكار مستهلكة
- مكتبات البيوت وهباتها
- المعرفة والمعرفة الزائدة
- هوية الأدب العربي
- صلاحية النصوص الإبداعية
- معتزلات الكتابة
- هوس القراءة
- الشريك الأدبي
- جائزة القلم الذهبي
التعليقات 1
فعلا مانقرأه من الروايات ،إما اجترار لموقف فكرية وأفكار مكرورة ،وإما سير ذاتية أو جزء منها ، ولكن لانستبعد أن هناك بعض منها متميز ..مودتي
اكتب تعليقك