المعرفة والمعرفة المعلبةالباب: مقالات الكتاب
د. أمير تاج السر كاتب وروائي سوداني |
خلال محاولاتي المستمرة لمتابعة الشأن الكتابي والقرائي معًا، على مدى سنوات طويلة، انتبهت إلى أن هناك قراء كثيرين لا يمكن تصنيفهم على أنهم قراء يداومون على قراءة القصص أو الروايات، أو الكتب الإبداعية عامة، لأن بعضهم يعترف صراحة بأنه لم يقرأ كتابًا إبداعيًّا من قبل، واعدًا بأنه سيحاول فعل ذلك مستقبلاً.
لكن بالرغم من ذلك تجد هؤلاء القراء يتحدثون كثيرًا عن القصة والرواية، عن التجارب الأولى والحديثة للكتاب، وأسماء أهم الكتاب عالميًّا وعربيًّا وما أنتجوا، وتكتشف بعد ذلك أنهم متابعون لتلك الكتب التي تهتم بالتنظير الكتابي، سواء كان تنظيرًا أكاديميًّا يسطره أساتذة جامعيون بعد أبحاث جادة تستغرق وقتًا، أو تنظيرًا ناتجًا من تجارب إبداعية كبرى عمد أصحابها إلى صناعة حوار مواز بينهم وبين القراء، في شكل كتب مختلفة الأحجام، تخبر القارئ المهتم عن بعض المحطات المهمة التي يمر بها الكاتب قبل أن ينضج وينتشر، وبعض العقبات الكبرى والصغرى للكتابة التي قد يواجهها.
وأيضًا ربما يوجد ثمة مطبخ إبداعي، يتم عرض خاماته التي تستخدم، وناره السريعة أو الهادئة التي سيتم بها إنضاج النصوص.
تجربة ذاتية
من تلك الكتب المتداولة، والتي يهواها الكثيرون كما قلت، ويتخذون منها متكأً معرفيًّا يختالون به وسط موقدي الثقافة، ومستهلكيها على حد سواء؛ كتاب لغابرييل غارسيا ماركيز يتحدث فيه عن كيفية كتابة رواية.
الكتاب - بلا شك- ينطلق من تجربة كبيرة وراسخة ورائدة أيضًا في فن الواقعية السحرية. لكن العنوان يبدو لي خادعًا، فلا أحد في الواقع يستطيع أن يعرف كيف تُكتب الرواية، إذا لم يغلق كل الكتب التي تدعي تلقينه ذلك، ويمشي بنفسه في الدرب، رافعًا رأسه الإبداعي، ورافعًا عصا من الإرادة الحرة يهش بها كل المعوقات.
أيضًا يوجد كتاب في هذا الشأن لماريو فارغاس يوسا كما أذكر، وهو عن تجاربه الأولى أيام كان يافعًا في العمر والتجربة، وربما يجد فيه القارئ ضوءًا ما أو إشارة ما، أو لمحات ممتعة عن الكتابة وشجونها، لكنه لن يكون معلمًا جيدًا لمن أراد أن يكتب شيئًا، وينتظر بحماس أن يتعلم من ذلك الكتاب.
كما أعتقد أن الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو كتب أيضًا كتابًا مثل هذا، وكتب التركي أورهان باموق مقالات كثيرة جمعت في كتابه السيري "ألوان أخرى"، وكانت عن أجوائه وطقوسه، وأهم المحطات التي استزاد فيها بالمعرفة، ومن أين رضعت تجربته حتى استوى عودها وأوصلته إلى نوبل. وهناك أيضًا من كتب في الآداب العربية لمحات من تجربته مثل جمال الغيطاني، وهناك من يكتب مقالات منتظمة عن الكتابة، ذاكرًا فيها خيرها وشرها، متى تشرق؟ ومتى تغيب؟ وهكذا.
يحاول القارئ الذي يتداول هذه الكتب التي تكتب غالبًا بسلاسة وبلا أي تعقيد أدبي أو فلسفي، التفاعل مع قرّاء الروايات ولا يملك صبرًا أو مزاجًا لقراءة الروايات، فيجد مداخل يتحدث بها، بعد استعارتها من هذه الكتب، أو من مقالات لكاتب ما، ويبدو وسط الجميع ملمًّا بكل شيء.
الكتابة ونظرياتها
هذا القارئ الذي ذكرته يود - في الغالب- هو نفسه لو كتب، ولا يلوح له أي مدخل للكتابة، ويظن خيرًا في كتاب ألفه واحد من المبدعين يرصد فيه تجربة أو يضع حلولاً لمحاولي الكتابة، كي يقتفوا أثرها كما فعل غارسيا ماركيز، ولا أظنها كانت لفتة بارعة من صاحب اللفتات البارعة أبدًا.
فالذي تعلمه ماركيز كثير جدًّا، ومقلق جدًّا، لو أراد أحد آخر أن يتعلمه أو يفتح وعيه ويتلقاه من ذلك الكتاب، فأفضل ما في المعرفة كما أعتقد دائمًا هو أن تتلقاها من دون أن تدري أنها معرفة، أي أن تقرأ روايات من كتبوا روايات في كل الأجيال، أن تقرأ القصائد بكل مدارسها وأطيافها، أن تقرأ كتب الطب والحكمة والتاريخ والتراث، أن تقرأ ماركيز مبدعا في "الحب في زمن الكوليرا"، لا منظرًا في كتابه التنظيري، وفارغاس يوسا مبدعًا في "حفلة التيس"، لا منظرًا يهندس تجربته، ولن يُسمح للآخرين بهندسة تجاربهم مثلها.
وهكذا يُفضّل أن تقرأ أدونيس شاعرًا لا صاحب نظريات في الشعر، وأن تقرأ الكتب التنظيرية بإحساس من يقرأ عملاً أدبيًّا كاملاً، وأن لا تترك مجالاً للاحتكاك بذوي التجارب الجيدة والناجحة إلا توغلت فيه.
وبالإضافة لموهبة الكتابة، تتشكل في اللاوعي دروب مضاءة بعنف، تستطيع أن تمضي فيها وأنت مغمض العينين، نحو نجاح أكيد.
لقد سألني أحد الزملاء مرة عن رأيي في تلك المقولات التي يتناقلها الناس عن كتاب وفلاسفة وشعراء، ويزينون بها حوائطهم في مواقع التواصل، أو يتخذونها مقدمات لنصوصهم الإبداعية، فقلت له إنني لا أعترض على صاحب تجربة أن يدون لمحات من تجربته في عبارات مقتضبة، لكن في النهاية هذه العبارات تخص من يطلقها ولا يمكن اعتبارها عظات للآخرين ولا فوانيس أو شموعًا في ليالي الآخرين المظلمة.
من يشبّه الكتابة بالمجرة البعيدة، والقلم بالضوء الباهر، والمرأة بالصندوق السحري الغامض، أو العنكبوت، يفعل ذلك بتجاربه الذاتية ولن يلزمني باتباع شيء أو بأخذ عبارته ووضعها على الصفحة الأولى لكتابي كمفتتح له.
إذن وبعيدًا عن اصطياد المعرفة المعلبة أو الجاهزة من مطابخ الآخرين، دعونا نستلهم معرفتنا مما أنتجه هؤلاء المبدعون وغيرهم من العلماء والفلاسفة، وحتى المجتهدون في الدين. وإن قرأنا كتبهم المعلّبة، فلنقرأها بعيون وأنفاس تتذوق الإبداع.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدوات الكتابة ومتغيراتها
- الأوطان ملح الكتابة
- الأفكار وسطوتها
- أساليب القراءة وصناعة الآراء
- كتابة الشر روائيًا
- الكتابة والإيهام
- الجوائز الأدبية.. من يمنحها؟
- صناعة الرواية والسينما
- المعرفة والمعرفة المعلبة
- المرح لغة عالمية
- القراءة المغشوشة
- كتب المبدعين
- كيف يكتبون؟
- كتابة الحقائق
- كتابة الرواية والسيرة
- قصص عن التحولات
- «كيندل» عربي
- حجم الروايات
- الأعمال العظيمة وقراؤها
- وجه التاريخ
- المدن في الروايات
- كورونا ورواية الوباء
- كتب وكُتّاب
- حمرة العين
- ما لا تقوله السيرة العربية
- أصوات الكتابة
- أفكار مستهلكة
- مكتبات البيوت وهباتها
- المعرفة والمعرفة الزائدة
- هوية الأدب العربي
- صلاحية النصوص الإبداعية
- معتزلات الكتابة
- هوس القراءة
- الشريك الأدبي
- جائزة القلم الذهبي
اكتب تعليقك