أفكار مستهلكةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-01-31 08:34:46

د. أمير تاج السر

كاتب وروائي سوداني

تحدثت وتحدث غيري كثيرًا عن موضوع الأفكار، والخامات المستخدمة في الكتابة السردية، وقلنا إن الخامات تكاد تظل ثابتة، بمعنى مثلاً، أن الحب سيظل موجودًا بوصفه علاقة عاطفية بين رجل وامرأة، سواء أن كتبت بالأمس أو اليوم، أو غدًا، سواء كان العشاق بدائيين أو في قمة التحضر، أو إن كانوا في المدن أو الريف، لكن كيفية تناول تلك الخامة، وتحويلها إلى نص مختلف، تظل هي الهاجس الأكبر للكتّاب، فأي كاتب يتمنى دائما أن يأتي بنص مختلف، والذين كتبوا كثيرًا، يودون أن لا يكرروا أنفسهم، فيلهثون وراء تجربة جديدة.

هنا ستظل التجارب الأسلوبية هي الرهان الأكبر، وتظل البصمة التي يضعها الكاتب في كتابته، ويسير عليها أو يعتبرها نهجا له، هي ما يميزه عن غيره، حتى لو كتب الأفكار المستخدمة دائمًا.

لذلك أعتبر أن من يكتب عن رواية أو قصة بأن فكرتها مستهلكة، على الرغم من وجود أسلوب مميز أو مبتكر، فإنما يظلم النص، أو لعله قارئ محدود التفاعل، أو لنقل محدود القدرة، ليلمس أسلوبًا جديدًا. هو قد يكون قرأ الفكرة في نص من قبل، أو شاهدها فيلما سينمائيًا، فينحدر تقييمه للنص فورًا من دون أي اعتبارات أخرى.

مثل هذا القارئ يحتاج لدروس في كيفية القراءة الجيدة، وكنت قرأت مرة عن ورش لتعليم القراءة الإبداعية، واستغربت منها باعتبار أن القراءة فعل تذوق وليس عملاً إبداعيا فيه نتاج ملموس، إنه خلوة بين القارئ ونفسه، وأحيانًا يتم فعل القراءة وسط مجموعات تقرأ عملاً وتناقشه، وهذا بالضبط مطلوب بشدة، لمثل القارئ الذي يستخدم كلمات: مستهلكة، أو قديمة، أو عولجت من قبل، ليمسك بطرف ما، لكيفية قراءة الأساليب، فقطعًا يوجد في تلك المجموعات القرائية، قراء يعرفون الأفكار جيدًا، ويعرفون استخدامها بطرق مختلفة عند المبدعين، وأجزم أن الآراء تتعدل كثيرًا حين الاشتراك في مثل تلك المجموعات.

سأتحدث قليلاً عن فكرة الحرب، ذلك الفعل الشائن الذي يحدث بين حين وآخر، في بلاد مختلفة، من أجل سلطة أو مجد، ويترك خلفه ملايين الضحايا ممن كانوا مستقرين وآمنين، وتفتت استقرارهم بعد ذلك، أو ماتوا في فعل لم يكن يريدونه ولا كان من أفكارهم.

منذ عرف الناس كتابة النصوص، كتبوا الحرب، كتبوها شعرًا ونثرًا، ويمكن أن نطلق على فكرتها بطريقة القراء السطحيين، أنها فكرة مستهلكة، لكن هل الحرب التي كتبها إسماعيل كداريه مثلاً في «طبول المطر» هي التي كتبها الألماني أريش ماريا ريماك في «ليلة لشبونة» أو النمساوي روبرت زيلر في «حياة كاملة» أو نحن العرب حين نكتب حروبنا التي تكاد تكون طالت معظم الأقطار، ولم ينج منها إلا القليل؟ أعتقد فكرة استخدام السلاح واحدة، فكرة القتل والموت والحريق، وترك الديار على غير هدى، كلها تشبه بعضها، لكن رسم الشخوص، والأمكنة، والتفاصيل الأخرى المختلفة في كل بيئة تقفز بالتمييز بين كل نص وآخر إلى القمة، فمن المفترض أن لا يأتي قارئ، ويقول إن فكرة الحرب مستهلكة، هو هنا يفصح عن عدم دراية كما قلت سابقًا، وربما لو انخرط في مجموعة قرائية، يحصل على التوازن المطلوب ليصبح قارئًا جيدًا. هناك روايات قائمة على الفانتازيا أو الغرائبية، وفيها يخترع الكاتب دروبًا ليست موجودة حقيقة، ومدنًا ليست في أي مكان، وربما يخترع أسماء لمأكولات ومشروبات وأدوية وأدوات تستخدم في الطبخ، أو الصيد، أو الجلوس عليها، إنه أدب موجود ومشروع بلا شك، وله من يكتبه ومن يقرأه بمتعة، وهنا أيضًا يأتي من يكتب: هناك أشياء غير منطقية في الرواية، هناك أشخاص لا يشبهون الأشخاص، هكذا.

هذا أيضًا منحى غير مجد في قراءة الرواية، ويحيلها إلى لا رواية، فليس من المفروض «منطقة» النص الفانتازي، وإلصاقه قسرا بالواقع الصرف، الروائي يمنحك شيئًا من الفن وسط الواقع الذي كتبه، أو يمنحك دربًا موازيًا للدروب التي تعرفها، عليك السير فيه إن أحببته، أو مفارقته إن لم يعجبك. وقد قرأت كثيرًا من التعليقات التي تجر النصوص إلى سكة ليست سكتها، عن كتابات ماركيز، وغيره من كتاب السحر الذين نفخر بأننا تتلمذنا على كتاباتهم، لدرجة أن يكتب أحدهم عن «مئة عام من العزلة» أقوى النصوص الإبداعية على الإطلاق في رأيي: أسوأ رواية قرأتها. نعم قد تكون أسوأ رواية قرأها لسبب وحيد، هو أنها لم تكتب ليقرأها.

لكن على الرغم مما ذكرته عن ثبات الأفكار، وأنها تخضع لنحتها بأساليب مختلفة، يأتي من يكتب فكرة جديدة تمامًا، وطبعًا هي ليست جديدة، وإنما نفض عنها الغبار مثلما كتب عبد الحكيم قاسم بأسلوبه الصوفي الشجي: طرف من خبر الآخرة، أو الأمريكي جورج سوندرز، روايته «لينكولين في الباردو» التي حصل بها على جائزة مان بوكر العالمية، ومستوحاة من واقع وفاة ابن الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن وهو طفل، لكن الجديد، أن هناك أرواحًا مختلفة لرجال ونساء، تتحاور في الباردو، أو البرزخ، تحكي حيوات عاشتها، وترى العالم الواقعي يدور من حولها لكن لا تستطيع أن تلجه، ولا يدرك العالم بها بالطبع.

هذه كتابة مدهشة فعلاً، السرد أشبه بقصيدة طويلة، إن تمت قراءته دفعة واحدة دون التفات للشخصيات، وله دلالاته بالطبع وحيويته إن تمت قراءته بوصفه حوارات متجددة لشخصيات الباردو. مؤكد هذه المنطقة التي نفض سوندرز عنها الغبار، سيتم طرقها بعد ذلك، لكن بأساليب مختلفة، تأخذ الفكرة وتنحتها بمعالم أخرى.

إذن نحن في الغالب حبيسين للأفكار، ليلانا التي سنكتب عنها، هي ليلى ابن الملوح بلا شك، لكن بهواجس جديدة، الشرير الذي عندنا هو نفسه الشرير القديم عند الأقدمين، واللعنة أو الحزن أو الفرح، أو الدمار، خامات موجودة وتتجدد في كل كتابة.


عدد القراء: 2538

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-