المعرفة والمعرفة الزائدةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-09-30 04:43:37

د. أمير تاج السر

كاتب وروائي سوداني

أشرت كثيرًا من قبل، إلى أن من أفضل الروايات التي تقرأ، ويمكن ترشيحها ليقرأها الناس، هي التي تمنح شيئين جيدين: المعرفة والمتعة، بمعنى أن القارئ يستمتع بقصة جيدة، فيها بناء متماسك، وشخوص واضحون، ومكان معروف أو حتى غامض قليلاً، تجرى فيه الأحداث وفي الوقت نفسه، يحصل على معلومات لم يكن يعرفها من قبل، هذه المعلومات قد تكون عن بلد ما، عن مرض ما، عن السفر، أو الرحلات، أو حتى عن الحب، وأشياء أخرى كثيرة. وهناك روايات تؤرخ لاختراعات معينة، انتشرت وأفادت البشرية، مثل اختراع الساعة، أو الهاتف أو السيارة أو السكة الحديد، أو النظريات الرياضية، التي ساهمت في رقي الدنيا ومهدت الطريق إلى التكنولوجيا..

وإن كانت مثل تلك الأعمال التي ذكرتها موجودة ومنتشرة في الغرب، نجد قليلاً منها في اللغة العربية، الروائي في الغالب عندنا لا يهتم بالمعرفة، أي لا يختزن معرفة كثيرة، ليعيد ضخها للقارئ في نص روائي غير متكلف، هو يبحث عن الأحداث الجاهزة المكتوبة آلاف المرات ليكتبها، قصة الحب بين بنت الجيران وولد الجيران مثلاً، قصة الصبي الهادئ الخجول الذي لا يرفع عينيه عن الأرض، الذي تحول فجأة إلى متطرف تكفيري دموي، قصص الخيانات الزوجية، والمؤامرات في أماكن العمل، والمشاهد الجنسية التي تتكرر إلى حد الملل، ولا جديد بالطبع فيها، إنها مشاهد عادية جدًا، لا أدري لماذا تكتب أصلاً في حين يمكن الاكتفاء بإشارات إلى الحميمية، وينتهي الأمر في ذهن القارئ مكتملاً.

أيضًا استلهام السيرة في رواية، وتركيز الكاتب على تفاصيل كثيرة في سيرته الخاصة، دون أن يذكر أنها سيرة، إنه أمر مشروع بالتأكيد، والكاتب حر في استلهام أي شيء، حتى لو كان يتحدث عن عنزة مربوطة في زريبة قرب بيتهم أيام طفولته، فقط يبحث القارئ عن شيء ما وسط تلك السير، عن وهج تشتعل به قضية مطروحة، عن تمرد لباب البيت مثلاً، بحيث يأبى أن ينفتح عند حضور الغرباء، وتلك الفتاة رائعة الجمال التي تساعد والدها في متجره الصغير في الحي، تتمرد على الغزل اليومي المكرر، الذي تسمعه من سكان الجوار، وتغادر فجأة إلى روما لتعمل في عروض الأزياء، أشياء مثل هذه لتمنح النص حيوية وطاقة جديدتين، وتفاجئ القارئ بأن الوتيرة الواحدة لم تعد كذلك، وتجزأت إلى ومضات جاذبة.

قلت روايات المعرفة قليلة في اللغة العربية، لكن بالتأكيد توجد نماذج مشرقة، تلك الروايات التي حدثتنا عن المدن العربية، بأزقتها القديمة، وأوجه النشاط فيها، وعلاقة السكان بالأرض مثل رواية «مريم» للصديقة نادية حرحش، أعطتنا معرفة جيدة لم نكن نعرفها، وإن كانت البرامج التوثيقية الآن في التلفزيون تتولى مثل هذه الأشياء، لكن حين نجدها في الرواية، نستمتع بها، أيضًا روايات تحدثت عن الأمراض، وبينت للناس في لغة سهلة ما يتحدث عنه العلماء بوجوه متجهمة ولغة شديدة التعقيد، وروايات مثل روايات إبراهيم الكوني، ولينا هويان الحسن، والصديق الزيواني، تكشف الصحراء لنا ليس كشفًا أثريًا ولا سطحيًا، الصحراء العوالم، ماذا يفعل البدو هناك؟ وماذا تحت الخيام المنصوبة؟ وماذا تريد المرأة المنقبة التي تخطط وجهها بالوشوم أن تقول، وما هو العاشق المناسب للمعشوقة المناسبة؟ ولو قرأنا سلطانات الرمل، نلم بتلك العوالم كاملة، وربما نطلب المزيد.

بالنسبة لكتابة التاريخ، أي توظيف الأثر التاريخي في كتابة معاصرة، أعتقد قطعنا في هذا الأمر شوطًا كبيرًا، وما من روائي مخضرم أو مبتدئ، إلا ساح في فترة تاريخية ما، واستحضر منها حكاية بث من خلالها معرفة ممتازة عن مجتمعات لم نعاصرها لكن نتعرف إليها بكل سرور.

أنا لا أعتبر روايات الحروب والجوع والتشرد وفساد الذمم، روايات معرفة، إنها روايات تتحدث عن ظروف علق فيها الإنسان المعاصر، وربما أصبح صديقًا لها، ونرى في عالمنا العربي، خاصة في الأقطار الفقيرة منه، إن الفقر أصبح صديقًا للناس، وشح الإمكانيات طقسًا لا تكتمل الحياة إلا به، من السهل جدًا تقبل أن حقن الإنسولين المعالجة لمرضى السكري، غير متوفرة، لكن يفغر الزبون فمه دهشة حين يخبره الصيدلي بوجودها، ولاحظت في السودان استخدام كلمة «البديل» كثيرًا، في السؤال عن الأدوية، حين يقول الصيدلي لا يوجد، يقفز سؤال إلى فم الزبون: هل يوجد بديل؟ أو يقمع الصيدلي هذا السؤال من جانبه حين يقول: لا يوجد لكنْ هناك بديل، أو لا يوجد وليس هناك بديل، ومرة كنت أبحث عن علاج ضغط الدم لشقيقتي، وعرض عليّ الصيدلي عدة أسماء بوصفها بدائل، ولما كنت أعرف بحكم عملي أنها ليست بدائل أبدًا، نبهته إلى ضرورة توخي الصدق، ومن الأفضل أن يوجه المريض بالعودة في هذه الحالة إلى طبيبه ليقرر ما هو البديل؟

السؤال هنا: إلى أي حد المعرفة مطلوبة في الروايات؟

لقد قرأت مؤخرًا رواية من روايات المعرفة، وراقت لي أنها تمنحني معلومات قيمة لم تكن عندي، ولم أكن لأجدها بسهولة إن أردتها، فقط انتبهت إلى أن المعرفة الموجودة في كل سطر من سطور الرواية، أكلت تمامًا القصة التي أراد الكاتب حكيها، توجد هنا معرفة ضخمة، كم هائل من المعلومات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، ووثائق عن معاهدات، ومسائل اقتصادية، ولا شخوص مهمين يسيطرون على أجواء النص، هنا لم يعد ثمة فرق بين الكتاب العلمي أو المدرسي، والأدب الذي يعني الخيال في اللغة الإنجليزية «Fiction « والقارئ بلا شك يتوه في تلك المصادر والمعلومات، يركز بعضها في ذهنه ويفر البعض الآخر، إنها معضلة كبيرة بلا شك، أن تقصد كتابة رواية، وتكتب عملاً ليس روائيًا.

هنا أقول إن الكاتب الذي أنفق زمنًا طويلاً واجتهد في البحث عن المعارف، ينبغي أن لا يطلقها هكذا متناسيًا اللغة الأدبية، والوصف المطلوب، والشخصيات التي تملأ صورها وأصواتها المكان، والشوارع التي تتحرق شوقًا لاحتضان خطوات تمشي فيها، عليه أن ينتبه إلى احتمال أن تنفلت المعارف منه، وتقتل نصه.


عدد القراء: 2115

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-