كتابة الحقائقالباب: مقالات الكتاب
د. أمير تاج السر كاتب وروائي سوداني |
تحدث الكاتب الإسباني ألبرتو باثكث فيكيروا في روايته الأقرب إلى التحقيقات الصحفية منها إلى الرواية والصادرة منذ سنوات عدة عن الفساد العالمي، وغزو العراق الذي كان قضية ساخنة في تلك الأيام، وخفت سخونتها بالطبع بظهور مستجدات جديدة تحتاج لروايات أخرى.
وأشار بشكل سافر وباستهزاء كبير إلى ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق، وقام بغرسه في أكثر صفحات الكتاب سخرية وفسادًا بغض النظر عن أن الرواية فيها بجانب الوقائع الأصلية وقائع متخيلة، وبجانب الشخوص الحقيقيين شخوص متخيلون، وليس صفحات للتقصي في جريدة يومية ينبغي ملؤها بالاتهامات وأدلتها.
وفي رواية "المئوي الذي قفز من النافذة واختفى" - التي كتبها السويدي يوناس يوناسون وأثارت ضجة في العالم، ووصفتها من قبل بـ"كتابة المرح"- هناك صفحات كثيرة من السخرية والقرص على الأذن، والاتهامات بالغباء والسطحية، والإجرام طالت شخصيات حقيقية لم تعش في التاريخ البعيد، وإنما كان بعضها موجودًا حتى عهد قريب.
كتابة بلا خوف
شخصيات مثل الرئيس السوفياتي ستالين، والرئيس خروتشوف، والأمريكي هاري ترومان، وشاه إيران، وملك السويد، والزعيم الصيني ماو تسي تونغ وكثيرين غيرهم من الرؤساء الذين حكموا في معظم أحوالهم بالحديد والنار، وغرسوا شعوبهم في ألوان وحيل من القهر اخترعوها.
وفي روايات أخرى - أمريكية وإنجليزية- توجد مثل هذه الصفحات التي تدين أشخاصًا موجودين وفاعلين بقلة اكتراث، وبلا أي خوف من أن تجر تلك الأعمال كتّابها إلى قضايا ودهاليز مظلمة لا ينبغي أن تدخلها الأقلام المبدعة.
الذي أردت قوله هو كيفية الكتابة عن أشخاص حقيقيين أثروا في المجتمعات سلبًا أو إيجابًا؟
كيف تنشئ في عمل روائي أيادي عدة لنائب رئيس موجود ومعروف تختلس من هنا وتسرق من هناك، وتشعل الحروب لإنعاش تجارة السلاح، وتزرع الخوف لتعمل شركات الحماية في عمل هو رواية في الأصل كما ذكرت؟
كيف تُلبس رئيس دولة له هيبته سراويل متسخة وأربطة عنق تثير السخرية، وتجلسه في مكان شعبي، ويمر به العابرون ليحيوه باسمه مجردًا، ثم تجلسه على مكتبه، وتجعله يوقع على الدسائس ويغازل النساء، وهكذا؟
ثم كيف تجعل شخصًا مثل ستالين مثيرًا للسخرية في وجهه وتعبيراته وتصرفاته كلها كما نلاحظ في رواية "المئوي"؟
الرواية التاريخية المكتوبة عن التاريخ البعيد تناولت مثل تلك المواضيع، أي أنها تحدثت عن شخصيات سياسية في الأغلب أمكن تحوير حياتها السابقة إلى حد ما وحكيها بطريقة أخرى في النص الجديد مع الاحتفاظ بالوقائع التاريخية كما حدث في روايات تحدثت عن حكام سابقين أو مناضلين ضد الاستعمار كرواية واسيني "كتاب الأمير".
إنها روايات تعتمد على البحث المضني في سيرة من يود الكاتب أن ينبش سيرته ويعيد كتابتها، وأعتقد أنها تسبب كثيرًا من الصداع بسبب الخوف من الاعتداء على الوقائع التاريخية حين تعاد كتابتها، وهناك دائمًا متربصون يحيلون الكاتب لمحاكمات نظرية تنال منه كثيرًا حين يخطئ في شيء تاريخي.
وحتى لو كانت الشخصية التي أعيدت كتابتها سيئة، وقام الروائي بإصلاحها وإضافة حسنات لها فإن كتابته لا تبدو مقبولة وقد يلام عليها، لذلك نرى نوع هذه الكتابة قليلاً في كتابتنا العربية، والأعمال التي تنتج منه غالبًا باهتة، ولا يجد فيها الخيال مساحة حتى - ولو كانت صغيرة- كي يتحرك داخلها.
سير وإبداع
الذي يحدث هو أن الناس يخترعون الوقائع التاريخية لفترات ما مع شخصيات قد لا تكون موجودة أصلاً، ويأتي الإيهام بأن هذا هو التاريخ الحقيقي، وفي نفس الوقت يتم تذوقه كرواية جميلة فيتفاعل القراء معها، مثل رواية "الزيني بركات" للأديب الراحل جمال الغيطاني، حيث زرع شخصية الزيني البصاص في زمن قديم، وتتبعنا وقائع ذلك الزمن عبرها، وكتب كثيرون عن الحكم العثماني في مصر وثورة يوليو، وكتبنا في السودان عن الثورة المهدية، ولكن لا تحريف في الوقائع الأصلية.
لذلك أتساءل عن نوع الكتابة التي ذكرتها في البداية، أي التي تمس أشخاصًا لم يولدوا أو يشتهروا قديمًا إنما قريبًا جدًا وبعضهم ما زالوا يعيشون؟
في الحقيقة لا أعرف إجابة محددة، ولم أسمع عن ضجة عدائية حدثت لأحد أولئك الكتاب، أو سجن تم رميه فيه، وأعرف أنه لا توجد خطوط حمراء في الغرب، بحيث أن المسيح عليه السلام نفسه تمت كتابته في روايات، وإنتاجه في أفلام، لكن رغم ذلك يبدو لي الأمر فيه شيء من الغرابة، ومن المحتمل جدًّا أن هؤلاء الكتّاب يستندون إلى أدلة في ما كتبوه، إما جادين أو هازلين، وسيقومون بإخراجها إن سئلوا.
بالنسبة للعالم العربي إن ذكر الشخص مهانًا في رواية ولم يكن موجودًا في الدنيا ليدافع عن نفسه فإن هناك من سيتولى الدفاع عنه، لن يقول أحد شيئًا عن عبارات المقت، والمقالات التي تتحدث عن زعيم ظالم، لكن حين يكتب في عمل إبداعي فهو لا يذكر صراحة وإنما يشار إليه بإيحاءات، وتتم إعادة رسمه من جديد بحيث يبدو مموها.
كما توجد تلك السير التي تتحدث صراحة مثل سيرة الليبي إدريس المسماري عن سجنه في زمن معمر القذافي، وسير من سجنوا أيام عبدالناصر وصدام، وهذه تقرأ كسير وليس كأعمال إبداعية، ويوجد من يتعاطف مع السير ومن يفندها أيضًا، لكن في النهاية هي تختلف عن الإبداع الصرف.
أظن أن نوع الكتابة هذا، وأعني كتابة الأشخاص الحقيقيين - بكل ما فيهم من حسنات وعيوب- يحتاج إلى جرأة كبيرة في وطننا العربي، وإلى استعداد لكل التداعيات التي تحدث في ما بعد.
تغريد
اقرأ لهذا الكاتب أيضا
- أدوات الكتابة ومتغيراتها
- الأوطان ملح الكتابة
- الأفكار وسطوتها
- أساليب القراءة وصناعة الآراء
- كتابة الشر روائيًا
- الكتابة والإيهام
- الجوائز الأدبية.. من يمنحها؟
- صناعة الرواية والسينما
- المعرفة والمعرفة المعلبة
- المرح لغة عالمية
- القراءة المغشوشة
- كتب المبدعين
- كيف يكتبون؟
- كتابة الحقائق
- كتابة الرواية والسيرة
- قصص عن التحولات
- «كيندل» عربي
- حجم الروايات
- الأعمال العظيمة وقراؤها
- وجه التاريخ
- المدن في الروايات
- كورونا ورواية الوباء
- كتب وكُتّاب
- حمرة العين
- ما لا تقوله السيرة العربية
- أصوات الكتابة
- أفكار مستهلكة
- مكتبات البيوت وهباتها
- المعرفة والمعرفة الزائدة
- هوية الأدب العربي
- صلاحية النصوص الإبداعية
- معتزلات الكتابة
- هوس القراءة
- الشريك الأدبي
- جائزة القلم الذهبي
اكتب تعليقك