الرواية التي أقصت صاحبهاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-17 07:31:57

ناصر بن محمد الزمل

الروائي والكاتب الأمريكي الشهير جيري سالنجر - الذي توفي عام 2010 عن 91 عامًا- لم يكن يتوقع يومًا أن روايته "الحارس في حقل الشوفان" بأنها ستكون سببًا في عزلته وابتعاده عن الأضواء بعد أن حققت هذه الرواية نجاحًا كبيرًا وانتشارًا مدويًا لم تحققه أي رواية أولى في القرن الماضي، والغريب أنها لا تزال من الكتب الأكثر مبيعًا حتى اليوم. برغم الهجوم الذي تعرضت له من قبل بعض النقاد، وكذلك المؤسسات التعليمية بوصفها تقدم نموذجًا سيئًا للطلاب من خلال هولدن المتمرد على عائلته ومدرسته، ومن ثم مجتمعه.

 لكن ما هي الأسباب التي جعلته يبتعد عن نشر روايات أخرى بعد "الحارس في حقل الشوفان"، وهل أصبحت هذه الرواية نقمة عليه لدرجة أنه أوصى بعدم نشر عدد من أعماله التي كتبها ولم يسبق لها أن نشرت، قبل هذا العام. وفي قول آخر فقد أصر سالنجر على عدم نشر أي عمل من أعماله غير المنشورة قبل مرور خمسين عامًا على وفاته!

هل أثقل هذا النجاح المذهل كاهل مؤلفه، فاختار الانعزال وهو في أول مشواره الأدبي؟ هل هو الخوف من فشل الكتاب التالي؟ لا أحد يدري على وجه اليقين. ولم يصرح سالنجر قط بشيء يمكن أن يفسر سبب اعتزاله، فلم يسمح لأحد طوال 40 عامًا بالاقتراب منه.

تحول الكاتب الأمريكي سالنجر إلى أسطورة من أساطير عصرنا، فقد اختار منذ وقت مبكر الابتعاد تمامًا عن الشهرة والأضواء بل وعن الظهور العلني برغم موهبته الكبيرة، وآثر الانعزال عن العالم في مكان ما على الشاطئ في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، يقضي معظم وقته في الكتابة على آلة كاتبة عتيقة داخل كوخ خشبي ملحق بمنزله لدرجة أن زوجته الثالثة "كوليين أونيل" التي تزوجها عام 1988 وظلت زوجة له حتى وفاته، لم تكن تراه سوى لمامًا!

عُرف عن هذا الكاتب بأنه لم يكن يسمح بالتقاط أي صور له بل وقد أصر- كما يروي أحد الناشرين- على استبعاد صورته من على ظهر غلاف كتابه الأول، وظل يرفض الإدلاء بالمقابلات الصحفية والظهور في وسائل الاعلام.

 كان عالمه الأدبي ككاتب مرموق للقصة القصيرة والرواية، برغم أنه لم ينشر له سوى رواية وحيدة هي "الحارس في حقل الشوفان" أو The Catcher in the Rye التي ذاعت شهرتها كثيرًا، وترجمت إلى أكثر من ستين لغة عالمية، منها اللغة العربية (ترجمها الروائي الفلسطيني الراحل غالب هلسا).

هذه الرواية تحديدًا التي صدرت عام 1951، أصبحت أيقونة من أيقونات الأدب لدى أجيال من المراهقين الشباب في الولايات المتحدة والعالم، وظلت تطبع ويُعاد طبعها منذ صدورها (توزع منها سنويًّا 250 ألف نسخة)، وعدت "مانيفستو" للغضب والتمرد على القيم التقليدية للمجتمع، وكان بطلها يرمز لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الرافض للزيف الاجتماعي.

وقد تردد أن هذه الرواية كانت السبب في قرار سالنجر اعتزال الحياة والعيش في بقعة نائية معتكفًا وراء أسوار محصنة محتميًا بمجموعة من الكلاب، يقاوم- عن طريق فريق محاميه- كل محاولة لإعادة نشر أعماله أو تحويلها للسينما، أو حتى نشر أي كتاب يروي سيرة حياته، أو أي مادة صحفية يعدها مسيئة لصورته، أو تكشف جانبًا لا يريده من حياته الشخصية.

كانت لسالنجر تجربة مشاركته في الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في غزو الحلفاء لفرنسا وتحريرها.. كان يقضي ساعات داخل الملجأ متحصنًا يكتب روايته التي ستحقق له الشهرة والمجد الأدبي فيما بعد "الحارس في حقل الشوفان".

لكن سالنجر يمرّ بتجربة موت الكثير من زملائه من حوله، ويشهد على معسكرات الاعتقال الجماعية الألمانية، وما شاهده من فظائع داخل معسكر داخاو تحديدًا الذي دخله مع القوات الأمريكية. لقد تركت تلك الفظائع تأثيرًا كبيرًا عليه وعلى أدبه.

 ألتحق سالنجر بالعمل في الاستخبارات المضادة لجمع المعلومات عن الفرنسيين والثقافة الفرنسية وحياة الناس في باريس وكيف يفكرون تمهيدًا لدخول الحلفاء، وكيف أنه في هذه الحقبة سعى للتعرف على الكاتب الكبير إرنست هيمنجواي وقدم له بعض كتاباته، التي أثنى عليها هيمنجواي، وكان يعمل مراسلاً حربيًا في العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت.

في ألمانيا التحق سالنجر بالعمل في مشروع استئصال النازية، ووقع في غرام فتاة ألمانية قيل إنها كانت ضالعة في النشاطات النازية هي "سيفيا ويلتر" ثم تزوجها وأتى بها إلى الولايات المتحدة، لكن الزواج انتهى بعد أقل من ثمانية أشهر، التي وصفها فيما بعد بأنها "شريرة" أرادت تدمير روحه!

 نتوقف أمام بعض الأحداث التاريخية الشهيرة، التي ارتبطت بشخصية سالنجر وتأثيره الأدبي على غيره. منها محاولة اغتيال الرئيس رونالد ريجان عام 1981، تحت تأثير رواية "الحارس في حقل الشوفان" تحديدًا من طرف شاب قيل إنه أراد أن يثير إعجاب الممثلة الشابة وقتها، جودي فوستر، ثم اغتيال نجم فرقة البيتلز الشهير جون لينون عام 1980 على يدي شاب يدعى مارك شابمان، الذي يقول إنه قتله تأثرًا برواية سالنجر، فقد كان يرى أنه يرمز إلى التفاهة والشهرة الزائفة، كان يمسك في يد بالمسدس الذي أطلق منه الرصاصات القاتلة على لينون، وفي يده الأخرى رواية "الحارس في حقل الشوفان"!

تقول الصحفية بيتي إيبس: إنها نجحت عام 1980 في الوصول إلى لقاء سريع مع سالنجر، بعد أن ذهبت إلى المنطقة التي يقيم فيها في نيوهامبشير، وتركت ورقة في مكتب البريد تعبر فيها عن رغبتها في لقائه، وقد حرصت على أن يكون اللقاء في مكان عام، لكي لا يقال إنها استغلته بأي شكل من الأشكال.

تقول هي: إنه عندما عرف أنها تكتب نصحها بضرورة ترك العمل الصحفي على الفور، قائلاً: إن أسوأ شيء بالنسبة لأي كاتب هو النشر، وإن الكاتب يجب أن يكتب لنفسه فقط، وأن أهم شيء هو أن يكتب فقط ويستمر في الكتابة، مؤكدًا أنه يكتب يوميًّا!

لم ينشر جيري سالنجر شيئًا على الإطلاق منذ 1965 وحتى وفاته في 2010. ولكن على حين أنه يعد نفسه متمردًا كبيرًا على الشخصيات التي تستمتع بإثارة الجدل حولها في الإعلام، وتبحث عن الشهرة الزائفة، يرى البعض أن سالنجر نفسه- بعزوفه المتعمد عن النشر والظهور وعزلته المثيرة- نموذجًا لذلك الزيف الاجتماعي نفسه، وتلك الرغبة في لفت الأنظار وإثارة الجدل، الذي لا يتوقف أبدًا. ولا نظن أنه سيتوقف حتى بعد وفاته.


عدد القراء: 6677

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-